- ThePlus Audio
قيمة مركب المجاهدين
إن محور القَسَم في هذه السورة المباركة ، هي حالات وحركات مركب المجاهدين من الخيول العادية من جهة : أصواتها عند العدو ، وما توريه حوافرها من النار ، ومباغتتها للأعداء صباحا ، وإثارتها للغبار عند ركضها ، ودخولها وسط القوم عند إغارتها .
وحينئذ نقول إذا تحقق القَسَم بمركب يركبه المجاهدون في سبيل الله تعالى ؛ فكيف بذواتهم؟! . . أوَ هناك تقدير أعظم من هذا التقدير ؛ أي القَسَم بما يركبه مَن يُراد تعظيمه؟!
سراية الشرف
إن سراية العظمة من العظيم إلى بعض متعلقاته الفاقدة للعظمة بذواتها لولا انتسابها ، لها شواهد متعددة في القرآن فمنها : قميص يوسف (عليه السلام) ﴿فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا﴾[١] وتابوت موسى (عليه السلام) ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾[٢] وناقة صالح (عليه السلام) ﴿فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا﴾[٣] ومنها ما في هذه الآية من خيول المجاهدين إلى درجة يُقسِم الله تعالى فيها بحافر ذلك المركوب الذي تنقدح منه النار عند الجري ﴿فَالْمُورِياتِ قَدْحاً﴾ .
مباغتة العدو
إن مدح صفة الإغارة صبحاً ـ لكونها في سياق القَسَم ـ يدل على مطلوبية مباغتة العدو فإن الحرب خدعة . . ومن المعلوم أن من سبل المباغتة هي الإغارة الصباحية : فلا هو ليل دامس ؛ لئلا يرى الإنسان عدوه ، ولا هو صبح مسفر ؛ ليكون العدو على أهبته! . . إلا أن الأمر لا ينحصر بهذا المصداق من الاستعداد لقهر العدو ، إذ لا بُد من السعي لكل ما يوجب الغلبة على الأعداء ومنه إعداد القوة ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾[٤] ولا يخفى أنه لا خصوصية للخيول المذكورة في هذه السورة ، بل المراد كل قوة يواجه بها الأعداء ولو لم يكن خيلا ، وهو الواضح أيضا من عدم إرادة رباط الخيل ، في آية إعداد القوة المذكورة .
قيمة العبادة والجهاد
ذهب البعض إلى أن المراد بما أقَسَم عليه في هذه الآيات ، هي إبل الحجاج المتنقّلة ما بين عرفات ومنى والمزدلفة ، وهو مروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)[٥] ، وعلى هذا التفسير فإن الآيات تبيّن عظمة الحجاج من ناحية ، وعظمة هذه البقاع من ناحية اُخرى ، فبذلك تحقق قَسَم بمركوب يحمل راكبا شريفا في بقعة شريفة . . ومن هذا المورد وأشباهه ، يُعلم أن القرآن حمّال ذو وجوه .
جحود الإنسان
إن وجه الارتباط بين القَسَم والمُقْسَم عليه ﴿إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ خفي نوعا ما ، فمن الممكن القول : إن وجه المناسبة بين كفورية الإنسان وخيول المجاهدين ، هي :
المقارنة بين فئة تبذل أغلى ما عندها ـ وهي النفوس ـ في خدمة الدين ، وبين مَن يستأثر بمال الله تعالى الذي أودع عنده أمانة إلى حين الرجوع إليه ، حال كونه كنودا كافرا به وبأنعمه ، فصار تكريم خيول هؤلاء بالقَسَم عليه تعريضا بهم ، وكأنهم دون هذه الخيول بمراتب ، من جهة الفضل عند الله تعالى!
إن تشريع الجهاد لمواجهة أصحاب هذه النفوس السقيمة المترديّة بكفرها ، فصارت هذه الآيات تحقيرا لهم ، حيث تعرضوا لإذلال الفاتحين لهم بالنصر عليهم ، بسبب ما هم عليه من النقص والضلال .
ذمّ بعض الصفات
إن هناك مجموعة من الصفات المرتكزة في باطن الإنسان قد ذكرها القرآن الكريم مثل : الظلم والجهل ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا﴾[٦] والهلع ﴿إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾[٧] والجزع ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا﴾[٨] واليأس والكفر ﴿إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ﴾[٩] والطغيان ﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى﴾[١٠] والضعف ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾[١١] . وقد ذكرت هذه السورة خصلة من هذه الخصال الباطنية ، وجعلت الموضع لها هو الإنسان بما هو إنسان لم يتربَّ بتربية الأنبياء (عليهم السلام) ؛ ألا وهي (الكفران) مسبوقة بأداة التأكيد (إنّ) وكذلك اللام المؤكدة . ومن المعلوم أن مثَل هذه الخصال في النفوس ، كمثل البذور في الأرض التي تنتظر ما يُنبتها ، فمن دون مجاهدة وسبر لغور النفس وتصفيةٍ لها ممّا هي فيه ؛ فإن هذه الخصال منابت لسيئات الأعمال بمقتضى طبيعتها .
علم العاصي بشرّه
إن من موجبات تشديد مؤاخذة العبد يوم القيامة ؛ علمه بما هو فيه من الشرور لقوله تعالى ﴿وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ بناء على ارجاع الضمير إلى العبد لا إليه تعالى ، فكأن هذا الكفور الكنود تجاهل ما هو فيه من العيب مجاراة لهوى نفسه ، وذلك لأن المشي على خلاف ما تقتضيه تلك الصفة ـ كالبخل مثلا ـ يحتاج إلى مجاهدة ليسوا هم من أهلها ، وبذلك كانت الحجة عليهم أبلغ! . . ونظير هذه الآية في بيان حقيقة علم الإنسان بنفسه قوله تعالى ﴿بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾[١٢] .
الغيب الإلهي وباطن الإنسان
إن هذه السورة فيها حقائق ، تمسّ عالم (الباطن) من : كنودية الإنسان ، وحبه الشديد للخير ، وإن العبد عالم بما في نفسه وإن كابر وأنكر ، كما تمسّ عالم (الغيب) من جهة اُخرى ، وهو : انكشاف خبيرية الله تعالى للعباد يوم الجزاء .
ومن هنا ناسب أن يكون هناك : قَسَم في البين لتقبّل هذه الحقائق غير الظاهرة للحسّ ، وتأكيدٌ في كل هذه الموارد بكلمة (إنّ) والجملة الاسمية وحرف (اللام) التي تفيد التأكيد .
المال بين الخير والشر
إن الآية عبّرت عن المال بأنه خير ، كما في قوله تعالى في موارد اُخرى ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْراً﴾[١٣] وقوله ﴿وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً﴾[١٤] وهذا التعبير قد يكون بلحاظ :
ادعائهم ، وذلك بالقول بأن المال هو الخير لهم ؛ فكل استمتاع في الدنيا إنما يتحقق بهذا المال .
الواقع ، فإن المال بنفسه بل الدنيا باكملها لا عيب فيها بل هو مادة للخير ، وإنما يتحقق الشر من وراء حبه ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾[١٥] فيلهيه عن الله تعالى ، فيصبح فتنة ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾[١٦] وعدوا ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾[١٧] .
والدليل على إن الإلهاء ليس من ذاتيات المال : إن نبي الله سليمان (عليه السلام) أوتي المال الكثير ، ولكن من دون أن يوهن عزمه في طريق العبودية لله تعالى ، وسيؤتَى المهدي الموعود (عجل الله تعالى فرجه) أيضا من المال ما لا يخطر بالبال ، حيث تُخرج الأرض كنوزها ، وتُنزل السماء قطرها .
لا قيمة للأجساد البالية
إن الحديث عن أبدان الخلق في عالم القبور ، يشبه الحديث عن الجمادات فيها ، ففي آية ﴿وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾[١٨] نستشعر أن الأبدان شأنها شأن باقي دفائن الأرض ، تلفظها الأرض وكأنها استراحت منها! . . وقد ورد في هذه السورة أيضا التعبير بـ ﴿بُعْثِرَ﴾ وهي إثارة الأرض لإخراج ما فيها ، كما يعمل الفلاح لإخراج ما نبت في باطنها .
وعليه ، فإنه من الممكن القول : إن هذه الأبدان لا شرافة لها بنفسها ، وإنما المعوّل على الأرواح المصاحبة لها ، فهي كالبذرة في السنابل تُراد بنفسها ، وإلا فبعد خروجها منها بالحصاد ، فإن القشرة تُرمى جانبا ، تذروها الرياح أو تحرقها النيران .
موجبات القلب السليم
إن الله تعالى خصّ الصدور بالذكر عند الحساب ﴿وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ﴾ ولم يذكر الجوارح ؛ لأن نسبتها إلى الصدور نسبة المعلول إلى العلة ، فكانت الصدور أولى بالذِكر . . ومن هنا نقول : بأن المنجي واقعا يوم القيامة ـ والذي عليه مدار الحساب ـ هو القلب السليم كما ذُكر في قوله تعالى ﴿إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾[١٩] . وعليه ، فإن مَن يزيّن جوارحه بالطاعات ، ولا يصلح جوانحه بالملكات الصالحات ؛ سوف يرى أن المحصّل من صدره ـ على ما وعدت به الآية ـ ليس ممّا يُسر به العبد يوم القيامة!
ومما يؤيد محورية العمل الجوانحي قوله تعالى ﴿وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾[٢٠] فجعل موطن الإثم هو القلب ، وقوله تعالى ﴿فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾[٢١] فجعل مرض القلب سببا لإثارة الشهوة عند التعامل مع النساء ، وقوله تعالى ﴿وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ﴾[٢٢] وإلا فما قيمة الدماء المسالة في منى إذا لم يحقق التقوى؟! . . وقوله تعالى ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾[٢٣] فالقلب المتقي يصدر منه الورع الجوارحي ، ومنه تعظيم الشعائر الإلهية بكل صورها ، وقوله تعالى ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[٢٤] فجعل ثمرة الصيام رجاء تحقق التقوى ، ومن المعلوم ان التقوى أيضا حالة في القلب .
القيامة وعاء الظهور
إن الله تعالى عالم خبير بكل أفعالنا حين صدورها بل قبل صدورها بمقتضى علمه بالغيب ، وعلمنا بهذا العلم الإلهي لمن موجبات إتقان العمل ، إلا أن الآية الكريمة ﴿إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ﴾ تجعل ظرف هذا العلم الإلهي مرتبطا بيوم القيامة ، والحال بأن علمه تعالى لا زمان له ، فكيف يتم التوفيق بين الآية والواقع؟!
والجواب عن ذلك ـ بعد القول إن الآية لا تنفي العلم في غير ذلك الوقت ـ هو إن القيامة ليست ظرفا لأصل العلم ؛ وإنما لتجلي أثر هذا العلم المتمثل بالجزاء ، ومن المعلوم أن الربط بين هذا العلم في دار الدنيا وأثره في دار الآخرة من موجبات الارتداع عن المعصية إن وجد إيمان راسخ باليوم الآخر! . . ونظيره في ذلك قوله تعالى ﴿لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾[٢٥] والحال أن ملكه أبدي لا زوال له فكيف ارتبط بذلك اليوم؟! فنقول فيه أيضا : إن المراد هو المُلك المحقّق الذي يقرّ به جميع المماليك . .
وينبغي الالتفات إلى أن متعلق العلم الإلهي ؛ هي ذواتهم ﴿بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ﴾ لا أفعالهم ، وهذا أبلغ في بيان الإحاطة ؛ لأن من أحاط بالذات أحاط بالفعل ، وليس العكس!