- الآيات ١ إلى ١٤
- من سورة التكوير
- تلاوة الآيات ١ إلى ١٤
بيان المستقبل القطعي بالماضي
إن ذكر القيامة جاء في موارد عديدة بصيغة الماضي كقوله تعالى ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ و﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾[١] . . فالمستقبل الذي يُخبر عنه رب العالمين بمثابة الماضي في تحقق الوقوع ، ومن المعلوم أن ذِكر المستقبل المحقق أكثر نفعا من ذِكر الماضي ؛ لأن هناك مجالاً للتدارك والاستعداد لتغيير الماضي المظلم إلى حاضر مشرق .
فناء الثوابت يوم القيامة
إن الله تعالى عندما يذكر أهوال القيامة ، فانه يذكر الظواهر الكونية المتماسكة : كالشمس والنجوم وكذلك الجبال الساكنة المستقرة ، كل ذلك من أجل إفهام هذه الحقيقة وهي: أنه لا ثابت ولا متماسك في هذا الوجود إلى الأبد ، فكلها في طريقها إلى الإنكدار ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ والانطفاء ﴿وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾ . . والذي يُعوَّلُ عليه هو ما له من الثبات في الذات والآثار ، أوَ ليس هو المجيب الوحيد لنداء ﴿لـِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾[٢] قائلاً ﴿للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾[٣] .
كرائم الأموال
إن الناقة العشراء ﴿وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ﴾ هي من النفائس عند العرب ـ وقت التنزيل ـ وهي الناقة الحامل التي أتت عليها عشرة أشهر ، وأما تعطيلها فيعني إهمالها في عرصات القيامة ، فأهوالها تُشغِل العباد عن النفائس! . . ولو انشغل قلب العبد وهو في الدنيا بأهوال ذلك اليوم ـ كما في خطبة المتقين لعلي (عليه السلام) ـ فإنه سيلهو أيضا عن نفائس أهل الدنيا ؛ لأنه لا يعود نفيسا عنده ، لانقلاب موازين التثمين لديه .
حشر الحيوانات
اختلفت التفاسير[٤] في حشر الوحوش ، وكيف تُحشر وهي غير مكلّفة بشيء؟! . . فقيل بأنها تُحشر بمقدار ما تدرك من ظلمها لغيرها من الحيوان ، ويؤيد ذلك قوله تعالى ﴿وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ولا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُم﴾[٥] ومن لوازم المشابهة بين أمة الطير والدواب وبين البشر هو الاشتراك في المهمات ، والمتمثلة بالنهايات أعنى الحشر على صعيد واحد .
وعليه ، ينبغي للعبد أن يلتفت إلى كل تقصير يقع بعلمه ، ما دام هذا العلم بإجماله يوجب حشر الحيوان ومحاسبته حتى قيل أنه : «يُقتص للشاة الجـماء من الشاة القرناء تنطحها»[٦] .
تأليف القلوب
إن البحار تشتمل على مادتين سريعتي الاشتعال والتفجير ، ولكن الله تعالى ألّف بينهما فجعلهما بتفاعلهما ماءً بارداً به تُطفأ النيران ، والحال أن جزئيه مصدران لكل نار ، عندما يُفصل بينهما وإذا بـ ﴿الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ .
وعليه ، فإن الرب الذي يخلق من طبيعتين ناريتين طبيعة ثالثة هي رمز للبرد والسلام ؛ يمكنه أيضا أن يؤلّف بين الأمزجة النارية في الأسرة فيبعث فيها المودة والرحمة ، وفي المجتمع فيؤلّف بين أفرادها كما ألّف بين المسلمين الأوائل ، الذين ما كانت لتأتلف قلوبهم لولا أن الله تعالى ألّف بينهم ﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾[٧] .
سنخية النفوس
إن النفوس تكتسب قابلية السكنى في الجنة أو اللبث في النار وهي في الحياة الدنيا ، فكأنها مخطوبة للحور العين ، أو مقرونة بمردة الشياطين! . . ويبقى التزويج فعلا في ذلك اليوم الموعود الذي يقول عنه تعالى ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ فذلك اليوم هو يوم عرس المؤمنين الطيبين ، لذا تليق بهم الطيبات من الحور العين ، وغيرهم هم الخبيثون ؛ فتليق بهم الخبيثات من الشياطين القرينة!
قتل الأولياء
إن وأد البنت من مصاديق قطع الرحم بل إزهاق الرحم ، والحال بأن المقتولة لا تتعدى كونها بحكم الجنين الذي لا يُعلم حاله لو عاش في هذه الدنيا ، ولكن جريمة الذين قطعوا قربى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقتلوا ذريته ، أبشع وأكبر من جريمة وأد البنات!
ومن هنا ، فإن من أول محاكمات التاريخ يوم القيامة قبل سؤال الموؤدة عن سبب قتلها ﴿وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ﴾ هو السؤال عن سبب قتل الحسين × وخيار أصحابه .
الخروج عن الفطرة
إن النفوس عندما تنحرف عن دائرة الهدى فإنها تخرج عن دائرة الفطرة السليمة ، فترى الأم والتي هي مظهر الحنان والشفقة تدفن ابنتها وهي حية ؛ كما كانت تفعل المرأة في الجاهلية عندما يحين وقت ولادتها ، إذ كانت تحفر حفرة وتقعد على رأسها ؛ فإن ولدت بنتا رمت بها في الحفرة ، وإن ولدت غلاما حبسته!
وهذه الظاهرة وإن انتفت في الجاهلية الحديثة ، إلا أن هناك صورا اُخرى للوأد ؛ متمثلة في قتل أرواح الأبناء بالإجهاض تارة ، وتعريضهم لصور الفساد والإفساد تارة اُخرى . . وهناك روايات تشير إلى صورة مختلفة من الوأد وذلك عندما سئل الإمام الباقر (عليه السلام)
عن معنى الآية فقال : «من قُتل في مودّتنا وولايتنا»[٨] وهم كثيرون طول التاريخ!
الفضيحة عند الاشهاد
إن بعض أهل المعاصي يستترون عند ارتكاب المعاصي ؛ خوفا من الفضيحة بين العباد ، وقد لا يكون الرقيب ممّن يُعتد به ، بل قد يكون الرقيب طفلا لم يبلغ الحلم! . . والحال أن يوم القيامة يوم فضيحة العصاة على رؤوس الأشهاد ، فصحف الأعمال المطوية في دار الدنيا وإذا بها قد ﴿نُشِرَتْ﴾ .
ومن أعظم ما يوجب الخجل ـ بعد اطلاع الله تعالى على الأعمال ـ هو اطلاع النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) على أعمال عصاة أمته في محضر الأنبياء السابقين!
انكشاف المستور
إن من الخصائص المهمة ليوم القيامة هو ارتفاع الحجب عن أعين العباد ، فقد عُبر عن السماء التي كانت تحُول بين أهل الأرض وبين أهل السماء ، بأنها ﴿كُشِطَتْ﴾ أي رفع الغطاء عنها بعد التصاقه بها ، ومن الواضح أن يرى الناظر بعدها ما كان محجوبا عنه من الجنة والنار بل الملائكة ، وقد صرحت الآية بهذا الحدث العظيم وذلك بتعبير آخر ، وهو تشقق السماء وما يصاحبه من نزول الملائكة ، وذلك في قوله تعالى ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ ونُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا﴾[٩] .
وهنا نقول : كم حريّ بأصحاب الهمم العالية في الحياة الدنيا ، أن يسعوا لكشف حجاب الغفلة عن قلوبهم وذلک بالمراقبة المستمرة والذكر الغالب ، ليروا في هذه النشأة ما سيرونه في النشأة الاُخرى ، ما دام الأمر في النشأتين ضمن دائرة الممكنات .
شوق الجنة
إن الرجل إذا كان ذا مكانة بين الخلق ، فإن العروس تُزفّ إليه وتتزلّف إليه بنفسها ؛ وذلك تعظيما لشأنه ، وكذلك العكس! . . فالجنة يومئذ كالعروس التي تُزف إلى الزوج ذي الشأن الكبير ، ولهذا قال الباري عز وجل في شأن جنته ﴿وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ﴾ فالجنة بحورها وقصورها كأنها هي التي تقترب من أهلها شوقا إليهم ؛ إذ إنهم الهدف الغائي من خلقتها .
ويستفاد من الآيات بأن الجنة والنار محيطتان بأهل الدنيا ، ولكن حجاب المادة مانع من رؤيتهما ، كما يستفاد من الروايات أن الحور الآن في كمال الشوق للقاء أزواجهن من أهل الدنيا ، وكم هو الفرق بين الجنة المُزلفة لأهلها ، وبين الجحيم المخلوقة قبل نشأة الآخرة ، حيث تُهيج نارها ﴿سُعِّرَتْ﴾ استعدادا لبلع أهلها بعد اشتداد لهبها .
مقدمات لنتيجة واحدة
إن هذه السورة من السور المتميزة بكثرة الشروط فيها ؛ حيث بلغت الشروط فيها إثنى عشر شرطا ، وكلها تنتهي بجواب واحد ألا وهو ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ﴾ ممّا يدل على عِظم أمر المراقبة في الدنيا ، حذرا من مفاجأة العبد بما لا يسرّه في العقبى ، فلو أن عبدا رأى تجسّم عمله من جهة الآثار في الدنيا ـ خيرا كان أو شرا ـ لانضبط في كثير من سلوكه ولم يحتج إلى كثير موعظة ؛ لأنه بكل عمل صالح أو طالح يحقق زادا في دار الدنيا يحضر معه في ذلك اليوم ، ومن هنا صار (العلم) موصوفا بعلم اليقين ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ﴾[١٠] وصار (العمل) موصوفا بالوجدان إذ قد ﴿وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً﴾[١١] .
الصورة الملكوتية
إن هذه الحالة من وجدان الأعمال إنما هي للجميع ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً﴾[12] وهي تعمّ جهة الخير والشر ، ولا يُستبعد أن يرى العبد أعماله في ذلك اليوم بشكل يغاير صورتها الملكية في الدنيا ، بل يراها بصورتها الملكوتية ، إذ إن تلك الدار دار انكشاف ومعاينة ، ومن هنا ، فقد يتجلّى أكل مال اليتيم بالصورة التي ذكرها القرآن الكريم ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً﴾[13] .
بل يمكن أن يقال : إنه لو صفَت الحواس في دار الدنيا ، فمن الممكن أن تتجلى هذه الصورة فيها أيضا . . فقد روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال : «إذا تخلى المؤمن عن الدنيا سما»[14] ومن لوازم هذا السمو أن تتكشف له بعض الحقائق الغيبية وهو في دار الدنيا .