- الآيات ٣٣ إلى ٤٢
- من سورة عبس
- تلاوة الآيات ٣٣ إلى ٤٢
أنواع الصيحة
تكرر في القران ذِكر أنواع الصيحة يوم القيامة ، فمنها :
الصيحة المجردة : ﴿صَيْحَةً واحِدَة﴾[١] .
الراجفة : وهي الصيحة العظيمة التي فيها تردد واضطراب .
الصاخة : وهي الصيحة الشديدة التي تصم الأسماع من شدتها .
الناقور : الذي ينبعث منه صوت يخرق الأسماع .
والجامع بين هذه الأصوات جميعا : هو أن هناك صوتا مفزعا يؤذن بالحساب يوم القيامة ، والحال أن الله تعالى في دار الدنيا تلطّف كثيرا في الخطاب ، لبعث العباد على محاسبة النفس قبل محاسبة القيامة : «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا»[٢] وللموت الاختياري قبل الموت الإجباري «موتوا قبل أن تموتوا»[٣] ولزنتها في دار الدنيا قبل أن توزن في الآخرة «وزنوها قبل أن توزنوا»[٤] حيث لا مجال للتدارك بعدها .
الفرار من الأرحام
إن التعبير بالفرار ممّن ذكرتهم الآية ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ﴾ يدل على عظم ما فيه أهل المحشر ، فهو :
إما لانشغال كل فرد بنفسه ، بما يشغله من أهوال يوم القيامة .
وإما للخوف من مطالبة مَن ذُكر ، لحقوقهم المضيّعة في الدنيا .
وإما فرارا من التورّط بهم ، إذ قد يطلبون منه شيئا من حسناته ، وهو أحوج ما يكون إليها!
أعوان الآخرة
إن مَن يتذكر هذه الآية ـ وهو في الحياة الدنيا ـ يعيش حالة من الحذر ممّن حوله حتى من أقرب المقربين إليه! . . والطريق الأمثل للخلاص من تبعاتهم ، هو تحويلهم إلى أعوان لآخرته ، بدلا من أن يكونوا عونا على دنياه فحسب ـ كما هو ديدن أهل الدنيا ـ إذ لا يريدون من الأولاد إلا عزة ، وتفاخرا ، وتكاثرا ، بخلاف المؤمن الذي همّه أن يجعل من ذريته صدقة جارية له بعد موته .
وعندئذ فإنه من الطبيعي أن يرحب بهم في عرصات القيامة ، بل يبحث عنهم ليُعين بعضهم بعضا ، ليكونوا في درجة واحدة في الجنة ، ومصداقا لقوله تعالى ﴿وَالَّذينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُم﴾[٥] .
استحضار المعية الإلهية
إن من الملفت في هذه السورة ذكر آية ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ بعد ذكر فرار الإنسان من أهله الأقربين منه ، ممّا يفهم منه أن انشغاله بنفسه هو الذي جعله يلهيه عمّن سواه ، وما انشغاله بنفسه إلا لانكشاف الحجب عنده ، ووقوفه موقف المساءلة بين يدي الله تعالى .
ومن هنا نقول : لو عاش العبد حقيقة المحضرية في الحياة الدنيا لتحققت الثمرتان معا ، أعني عدم تعلّقه المشغل بغير الله تعالى أولا ، وانشغاله بنفسه ثانيا . . وهو ما دعت إليه الروايات المتعددة في أن يلتفت الإنسان إلى نفسه أولا قبل الالتفات إلى غيره ، والآية الكريمة ﴿قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ﴾[٦] شاهدة على ذلك أيضا .
مصير الأرحام
إن التدرج في الآية بين الأخ والأم والأب والزوجة والابن ، قد يكون بلحاظ التدرج الصعودي في التعلق القلبي ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾ فأوله الأخوة ، وآخره البنوة لأن الولد قطعة من الأبوين وليسا هما قطعة منه . . ولعل من هذه الجهة نفسها ، جعل القرآن الكريم خصوص الأولاد في سياق الأموال من جهة الافتتان بهما ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾[٧] .
مرآة الحالات الروحية
إن الوجوه الظاهرية مظهر للحالات الروحية التي يمر بها العبد في الدنيا والآخرة :
أما في الآخرة : فالأمر واضح كما تذكره الآية إلى درجة يكون الأمر فيها حسيا ، ففي جانب الخير هناك الإشراقة في الوجه ﴿مسفرة﴾ وفي جانب الشر هنالك الغبار والظلمة ﴿تَرْهَقُها قَتَرَةٌ﴾ بحيث يعلمه ويراه أهل المحشر ، لانكشاف الغطاء عنهم جميعا .
وأما في الدنيا : فإن هناك مسحة من النور تلفُّ وجه المؤمن وهو يستشعرها ، بل يراها كل مَن أوتي فراسة إيمانية توجب له الرؤية بنور الله تعالى .
ولا يخفى أن نور الوجه يوم القيامة إنما يُكتسب في هذه الدنيا ، وخاصة من خلال قيام الليل وتلاوة القرآن .
الانحراف العقائدي والسلوكي
إن المعصية الموجبة لظلمة الوجه ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ﴾ يكون من سببين :
الانحراف العقائدي الذي يتمثّل أوجه في الكفر بالله تعالى ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ﴾ .
الانحراف السلوكي المشار إليه بكلمة ﴿الْفَجَرَةُ﴾ .
وعليه ، فلا ينبغي أن يركن مَن هو على عقيدة صحيحة ـ بل ويرى في قلبه حبا لأولياء الله تعالى ـ إلى ما هو عليه ، إذا لم يكن مستقيما في مقام العمل ، فالفجور عِدلٌ للكفر كما ذكرته الآية في سياق واحد .