- ThePlus Audio
وصايا حول إحياء ليالي القدر المباركة
بسم الله الرحمن الرحيم
ليالي القدر ربيع الدعاء والابتهال
إن شهر رمضان المبارك هو من أهم المناسبات في كل عام وليالي القدر فيه هي من أهم مناسباته. ولئن كان شهر رمضان ربيع القرآن؛ فهذه الليالي والأيام هي ربيع الدعاء والابتهال والإنابة إلى الله عز وجل.
المعنى اللغوي لليلة القدر
ولو راجعنا القرآن الكريم نجد أنه تناول هذه الليلة المباركة من خلال بعض الآيات المشهورة. من هذه الآيات ما ذكره سبحانه في سورة القدر. وقيل: أن القدر بمعنى المنزلة، وقيل: أن القدر هنا من الضيق؛ حيث تزدحم الملائكة في تلك الليلة واستدلوا بقوله تعالى: (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ)[١]. ولكن المعروف أنها ليلة التعريف. وقد قيل: أن القدر يعني العظمة والمنزلة، وهناك إشارات إلى هذا المعنى في قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)[٢]، وهي إشارات مهمة وتتضمن دلالات عظيمة.
بركة ليلة القدر وعظمتها
وتنتاب الإنسان دهشة عند مطالعة الآيات والروايات التي تتحدث عن هذه الليلة التي تبدأ من غروب الشمس وتستمر إلى مطلع الفجر، والتي قال عنها سبحانه: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)[٣]؛ أي قرابة ثلاث وثمانين سنة من سني الحياة. وهذه الليلة تدفع الإنسان نحو الكمال والدرجات العلى كما إمكانها أن تفعل هذه السنوات الطويلة لما جعل سبحانه فيها من البركة الكثيرة. والأيام والساعات تقاس ببركتها، فقد تعادل الثلاث والثمانون من سني العمر عند الله بركة ليلة واحدة. ويأتي الإنسان يوم القيامة وكأنه عاش ساعة من نهار رغم ما عاش من سنين طويلة إلا أن المقياس عند الله سبحانه هو مقدار البركة في هذه الأعمار ومدى تأثيرها في الحياة الأخرى.
لقد استعمل القرآن الكريم في التعبير عن ليلة القدر؛ تعبيرا يشبه تعبيره عن يوم القيامة وذلك لعظمة هذه الليلة، فقد قال سبحانه: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ)[٤]، وقد قال عن يوم القيامة: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ)[٥] وقال أيضا: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ)[٦]. وهذه الليلة هي ليلة مصيرية في حياة الإنسان، وشتان بين رجل يدخل الجنة في ربضها وبين من يزاحم المعصومين في الجنة وهو في جوارهم في السنام الأعلى. وفي الحقيقة لا يستطيع معرفة عظمة هذه الليلة إلا من شرح الله صدره، ولذلك يقال: أن من التزم بقراءة القدر ألف مرة أو سورة الدخان من بداية شهر رمضان قد يرى شيئا من ملكوت هذه الليلة.
القرآن الكريم روح ليلة القدر
إن الله سبحانه أكد من خلال الآيات على وجود رابطة قوية بين هذه الليلة وبين القرآن الكريم؛ فالله سبحانه يترصد الظرف المناسب لإنزال القرآن في ليلة واحدة. فالقرآن نزل في هذه الليلة دفعة واحدة على قلب النبي (ص) كما أنه نزل على النبي (ص) تدريجيا في ثلاث وعشرين سنة. ويفهم من ذلك أن القرآن الكريم هو روح ليلة القدر، وإن كانت هذه الليلة تحيى بالدعاء والبكاء والتضرع. إن الله سبحانه كرم القرآن بأن جعله في ليلة القدر، وكرم ليلة القدر بأن أنزل فيها القرآن، وبالتالي فإن الله سبحانه من خلال هذا الربط بين القرآن وليلة القدر يبين لنا – والله العالم – أن حقيقة ليلة القدر هو الارتباط بالقرآن الكريم.
الارتباط بصاحب ليلة القدر
وكما نحرص على الارتباط بالقرآن الكريم في ليلة القدر لا بد وأن نحرص على الارتباط بصاحب ليلة القدر وهو القرآن الناطق. فعَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: (كُنْتُ عِنْدَ اَلْمُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ إِذْ جَاءَ رَسُولُ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فَقُلْتُ لَهُ سَلْهُ عَنْ لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ فَلَمَّا رَجَعَ قُلْتُ لَهُ سَأَلْتَهُ قَالَ نَعَمْ فَأَخْبَرَنِي بِمَا أَرَدْتُ وَمَا لَمْ أُرِدْ قَالَ إِنَّ اَللَّهَ يَقْضِي فِيهَا مَقَادِيرَ تِلْكَ اَلسَّنَةِ ثُمَّ يَقْذِفُ بِهِ إِلَى اَلْأَرْضِ فَقُلْتُ إِلَى مَنْ فَقَالَ إِلَى مَنْ تَرَى يَا عَاجِزُ أَوْ يَا ضَعِيفُ)[٧]. والإمام نهره بشدة وقال له: ألا تتفكر في من تنزل عليه الملائكة؟ ولا يختص نزول الملائكة بزمن النبي (ص) وإنما يجري ذلك إلى كل معصوم من بعده.
الجائزة العظمى في ليلة القدر
إن لله سبحانه في تلك الليلة هبات عامة من المغفرة والرحمة ولكن البعض يخرج من تلك الليالي بالجائزة العظمى وهي الارتباط بالغيب. فقد روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (نَّ اَلْقَلْبَ اَلَّذِي يُعَايِنُ مَا يَنْزِلُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ لَعَظِيمُ اَلشَّأْنِ قُلْتُ وَ كَيْفَ ذَاكَ يَا أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ قَالَ لَيُشَقُّ وَ اَللَّهِ بَطْنُ ذَلِكَ اَلرَّجُلِ ثُمَّ يُؤْخَذُ إِلَى قَلْبِهِ وَ يُكْتَبُ عَلَيْهِ بِمِدَادِ اَلنُّورِ فَذَلِكَ جَمِيعُ اَلْعِلْمِ ثُمَّ يَكُونُ اَلْقَلْبُ مُصْحَفاً لِلْبَصَرِ وَ يَكُونُ اَللِّسَانُ مُتَرْجِماً لِلْأُذُنِ إِذَا أَرَادَ ذَلِكَ اَلرَّجُلُ عِلْمَ شَيْءٍ نَظَرَ بِبَصَرِهِ وَ قَلْبِهِ فَكَأَنَّهُ يَنْظُرُ فِي كِتَابٍ)[٨]، وهذا القلب الساذج المنشغل بالنساء والأموال والمتع الفانية يتسع وإذا به يصبح كالكتاب. ولهذا إن المؤمن تتقى فراسته ويستشار في الأمور ويستفسر لأنه قد يصل إلى مرتبة كأنه ينظر فيها إلى الغيب.
وهذه الرواية بحسب ما أعتقد أنها أروع رواية من الروايات الواردة في شأن هذه الليلة. حيث يتحول الإنسان إلى موجود إلهي لا ينزل عليه الوحي ولكنه، قذف في القلوب وإلهام في النفوس وهو باب مفتوح للجميع؛ حيث أن الرواية لم تجعل هذه الصفات من خصوصيات المعصومين (ع).
لماذا لم يتم تحديد ليلة القدر؟
وشاء الله عز وجل أن تكون هذه الليلة غير محددة. ولم يكن يحدد الأئمة (ع) هذه الليلة لأصحابهم، فعن القسام بن محمد عن علي قال: (كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَصِيرٍ مَا اَللَّيْلَةُ اَلَّتِي يُرْجَى فِيهَا مَا يُرْجَى قَالَ فِي إِحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ قَالَ فَإِنْ لَمْ أَقْوَ عَلَى كِلْتَيْهِمَا قَالَ مَا أَيْسَرَ لَيْلَتَيْنِ فِيمَا تَطْلُبُ)[٩]. وإن كان هناك تأكيد شديد على ليلة الجهني وهي الليلة الثالثة والعشرون؛ إلا أن المطلوب من المؤمن العمل في جميع هذه الليالي، فهي الليلة التي تكتب فيها الأمور وتبرم بخلاف ليلة النصف من شعبان التي تكتب فيها الأمور ولكن لا تبرم ولا تنجز.
والمسائل التي ذكرناها إنما هي مسائل نظرية ولا بد النظري أن يترجم إلى عملي حتى يؤتي ثماره المطلوبة. والذي يعتقد بما ذكرنا يكون مضطربا قلقا في هذه الليالي حيث أن مقدراته من حياة وممات وسعادة وشقاء وسقم وشفاء وهداية وضلال وتوفيق وخذلان ستكتب فيها، فينبغي الحرص على الوالموت أمر هين في مقابل الضلال إن كتب في تلك الليلة للإنسان.
لماذا العمل والأقدار قد أبرمت وكتبت؟!
وقد يسأل البعض أن المقدرات المادية والمعنوية إذا كانت تكتب في تلك الليلة فما هو جدوى العمل والسعي طوال العام والأمر قد أبرم؟ ثم ألا يعتبر ذلك جبرا وتقييدا للأيدي والأرجل؟ ونقول: أن الأمر في ثقافتنا وعقيدتنا الإسلامية واضح تماما، إن الأعمال التي تكتب للإنسان إنما تكون بسبب أعماله وسلوكه في السنة الماضية؛ فالمقدرات الإلهية لا تأتي جزافا ولا إجبارا وإنما تكتب للإنسان الأعمال التي يفعلها طوال العام. إن التقدير متوقف على السعي الصحيح لا العكس، وإلا لزم الدور كما يقال، فمن المحال أن تتوقف الألف على الباء وتتوقف الباء على الألف.
ولله سبحانه أساليبه في التوفيق والخذلان. يقول سبحانه: (كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ)[١٠]؛ فقد كره الله انبعاثهم لسوء أفعالهم وخبث سرائرهم. ويقول سبحانه: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ)[١١]، ويقول: (إِنْ تَتَّقُ.وا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا)[١٢]. وكمثال على ما ذكرنا؛ أنك لو رأيت أحدهم جالسا على مزبلة مستأنسا بها لا يريد بها غيرها وحاولت معه إخراجه من هناك قد لا يتعاون معك وإذا أجبرته على الخروج منها لم تكن له فضيلة في ذلك، ولكن إذا قدمت له باقة من الورد تفوح منها الروائح الزكية، لجذبه جمال هيئتها وطيب رائحتها ولأتبعك حتى تخرجه من تلك المزبلة إلى المكان اللائق به وهو ما نعبر عنه بالتوفيق والنفحات الإلهية. إن الله سبحانه قد يجد عبده على مزبلة المعاصي فيفتح له بابا من النفحات كليلة القدر ينتشله من واقعه المزري ويفتح له بابا من المتع العظيمة بعد انشغاله بالمتع الرخصية عاما، وهو بذلك يرغب عباده ويغريهم للطاعة.
ومن أسباب التوفيق ما ذكره سبحانه في قوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ)[١٣]. فالمؤمن يرى جمال العبادات ويأنس بها فهو يأنس بالصلاة وهو في المسجد كالسمك في الماء، بخلاف المنافق الذي يكون كالطير في القفص. وحب الصلاة والاهتمام لأوقاتها من مقاييس الإيمان وقد يمكن اختبار الرجل عند إيقاظه للصلاة؛ هل يستيقظ متثاقلا متناعسا أم أنه سرعان ما يستيقظ خوفا من فوات الفضيلة؟ وكما يقول سبحانه: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا)[١٤].
إحياء الليالي حتى مطلع الفجر
وقد يحيي البعض هذه الليالي مقتصرا على بعض الأعمال التي سرعان ما ينهيها ليعود إلى المنزل وكأن ليلة القدر مقتصرة على هذه الساعة ونصف الساعة. والحال أنه يستحب إحياء الليلة حتى مطلع الفجر، وحتى إن غلبه النعاس لا بأس أن يأخذ قسطا من النوم لله سبحانه بأن يقويه النوم على العبادة والاستمرار في الإحياء. وإحياء ليالي القدر يعني: أن يشعر الإنسان بحضور الله سبحانه في كل ساعة وأن يعيش حالة المعية المركزة.
الإحياء الإنفرادي
وينبغي للمؤمن كما يشارك في إحياء الليل جموع المؤمنين أن ينفرد بنفسه ساعة من ساعات الليل. فقد يشتكي البعض من المؤمنين أنهم لا يقبلون في أعمالهم وعباداتهم إلا إذا كانوا في جماعة وفي مسجد والحال أنهم لا بد أن يتدربوا على إحياء الليالي بمفردهم، فهناك مناسبات كثيرة في العام قد لا يمكنه إحيائها في جماعة ولا يجد من يدفعه إلى الأنس بالأدعية والأذكار، كليالي الجمعة وليلة النصف من شعبان وليالي البيض من رجب؟ وفي الواقع أن الدعاء مع الجماعة تدريب على العيش في هذه الأجواء دائما.
وليلة القدر باعتقادي أنها إتمام للحجة على من استيأس من رقة القلب والخشوع والإقبال على العبادة في سائر أيام السنة ولياليها. حيث نراه في ليلة القدر مقبلا على العبادة لا يملها حتى الصباح ويقيم الألف ركعة من دون سأم وملل. ولذلك ينبغي لهؤلاء أن يكتشفوا كوامن هذه الطاقة في أنفسهم ويستفرغوا وسعهم في سائر الأيام والليالي للإقبال فيها كما أقبلوا في ليلة القدر. ولماذا لا يقوم الذي ذاق حلاوة الإقبال بتكرار التجربة في سائر الأيام والليالي؟
والآيات القرآنية تؤكد على أن الدعاء سرا خير من الدعاء علنا أمام الناس، فقد تجري الدموع على خد الإنسان فيشعر بالعجب ويشوب عمله شيئا من الرياء ولكن ترتفع هذه الإشكالات في ظلام الليل حيث تجري الدموع ولا أحد سوى الله سبحانه يراها.
عدم اليأس من جفاف الدموع
وكذلك لا ينبغي للمؤمنين الذين لا يقبلون في هذه الليالي ولا يتفاعلون فيها أن يشعروا باليأس والإحباط ولا أن يذموا أنفسهم، فهذا تقييم خاطئ ومقياس غير صائب. فقد يكون المؤمن خاشعا خاضعا مستذكرا لربوبية الله عز وجل، ومراقبا لعظمة الله سبحانه ولكن لا تجري دموعه، وقد قال سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)[١٥]، والوجل لا يلازم البكاء دائما، وإن كان ابكاء من نعم الله الكبيرة؛ فقطرتان محترمتان عند الله عز وجل، دم الشهيد والقطرة التي تذرف من خشية الله.
ومن الجيد للبعض المشاركة في الأجواء الجماعية التي تكون أقرب إلى الرحمة الإلهية، ويقال: إذا اجتمع أربعون على حاجة فذلك من موجبات استجابتها.
من أهم الأعمال في ليالي القدر أن يعقد الإنسان لنفسه محكمة ويحاسب نفسها على الشهور التي مضت كيف كان فعله فيها وما الذي كسبه في سنة كاملة بأيامها وساعاتها ودقائقها؟ وليفكر في الأفعال التي يعتد بها وزهرة تلك السنة من الأعمال التي يستطيع أن يقدمها لله عز وجل. هل كانت أعمالي غير صخب وضجيج وسفر وإياب وأكل وشرب لا طائل تحتها؟ إن القرآن الكريم يلخص حياة البعض بقوله: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)[١٦].
إن الإنسان لا بد وأن يتدارك عمره قبل فوات الأوان فما الحياة إلا أيام وليال مستنسخة لا فرق بينها أبدا، فلا بد أن يكون جادا في أفعاله وأدعيته. ويقال: أن الدعاء حالة من الطلب، والطلب فيه ثلاثة أركان. الركن الأول: القناعة بجدوى الشيء الذي يطلبه والاعتقاد به؛ فإذا لم يعتقد بالشيء ما الذي يدعوه للدعاء والطلب؟ إذا لم يعتقد الإنسان بضرورة التعلم والحصول على شهادة جامعية لا يبادر إلى التسجيل في الجامعات. والركن الثاني: المداومة والإصرار على الطلب. فقد يقرأ البعض سير العلماء والصالحين، ويقرأ عن حالاتهم الروحية وعن متعهم المعنوية، فيحاول التشبه بهم فيعمل على ذلك اليوم واليومين ثم يمل ويترك كل شيء. والركن الثالث: العمل بلوازم المداومة والطلب. يقول الشاعر العربي :
ومنْ خطبَ الحسناءَ لمْ يغلها المهرُ[١٧]
فكيف تريد الوصول إلى الدرجات العالية وترتقي في سيرك إلى الله عز وجل وأنت لم تقدم ثمنا غاليا؟ وبعد أن تكتمل الأركان الثلاثة تأتي الاستجابة من الله سبحانه. ولذلك يحاول الشيطان أن يحول بين المرء وبين استجابة الدعاء، فيقطع على المنشغل بالعلم والذكر حديثه ودعائه، كما روي ذلك عن الإمام الصادق (ع). ولذلك يتذكر في الإحياء بعض المؤمنين همومهم ومشاكلهم وديونهم فيخرج بذلك من أجواء الإحياء. وقد روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (أَ لاَ أُخْبِرُكَ بِأَشَدِّ مَا فَرَضَ اَللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ قَالَ بَلَى ثُمَّ قَالَ مِنْ أَشَدِّ مَا فَرَضَ اَللَّهُ إِنْصَافُكَ اَلنَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ وَمُوَاسَاتُكَ أَخَاكَ اَلْمُسْلِمَ فِي مَالِكَ وَذِكْرُ اَللَّهِ كَثِيراً أَمَا إِنِّي لاَ أَعْنِي سُبْحَانَ اَللَّهِ وَاَلْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَإِنْ كَانَ مِنْهُ وَلَكِنَّ ذِكْرَ اَللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ مَا أَحَلَّ وَحَرَّمَ إِنْ كَانَ طَاعَةً عَمِلَ بِهَا وَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةً تَرَكَهَا)[١٨]
وكما يسعى الإنسان كما في تحصيل الطاعات والعبادات في هذه الليالي لابد وأن يلتفت إلى الكيف، فقد تكفي خمسة دقائق من المناجاة تجري دموعه على خديه أن تفتح له أبواب السماء.
مصيبة استشهاد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)
نحن منتسبون إلى أمير المؤمنين (ع) ونعد من شيعته وذلك فخر عظيم لنا جميعا. لا أدري كيف كان يعيش أولاده (ع) في أيام استشهاده، ويبدو من الروايات أن الحسنين (ع) لم يكونا داخل المسجد حينما ضربه الملعون على رأسه الشريف لأن أمير المؤمنين (ع) كان قد ذهب إلى المسجد قبل الصلاة. وأظن أنهم أحسوا بهذه الضربة فنادوا: وا أبتاه واعليا، ليت الموت أعدمنا الحياة. وصلا إلى الجامع ووجدوا الإمام (ع) في المحراب وهو لا يطيق النهوض. رأوا الإمام وهو يمسح الدم عن وجهه الشريف، يميل تارة ويسكن أخرى من شدة الوجع. لقد وصلت الضربة إلى أم رأسه، فله الحق أن يتمايل يمينا وشمالا. والحسن (ع) ينادي: وا انقطاع ظهراه، يعز ولله علي أن أراك هكذا. فتح علي (ع) عينيه مع ما فيه من الألم والأوجاع أخذ ينادي يا بني لا جزع على أبيك بعد اليوم، هذا جدك المصطفى (ص) وجدتك خديجة الكبرى وأمك فاطمة الزهراء (س) والحور العين محدقون منتظرون قدوم أبيك.
دخلوا على الإمام (ع) وقد زاد بياضا بصفرة، وهو يرمق بطرفه ولسانه يسبح ويقول: أسألك يا رب الرفيق الأعلى. من للقوم بعده، قاتلهم الله من قوم لم تنفع فيهم المواعظ البليغة. وضع الحسن (ع) رأسه في حجره أبيه ولك أن تتصور حاله في تلك اللحظة، وجد أبيه مغشيا عليه، أخذ يبكي فتساقطت قطرات من دموعه على وجه أمير المؤمنين (ع) فتح عينيه ورآه باكيا، فأمرهم بالتصبر. أخذ يبين لهم ما سيحل عليهم من القتل والتشريد.
وإذا كان حال الرجال هكذا، فكيف كان حال زينب وأم كلثوم (ع)؟ لقد فجعت زينب (ع) من قبل بجدها رسول الله (ص) وبالزهراء (س) وهي تراها على المغتسل، واليوم تفقد أمير المؤمنين (ع) والدها. قالتا: يا أبت من للصغير حتى يكبر؟ ومن للكبير بين الملأ؟ يا أبتاه حزننا عليك طويل.
أخذ أمير المؤمنين (ع) يوصي بأسيره، يقول للحسن (ع): بحقي عليك إلا ما طيبتم مطعمه ومشربه. إنه قاتلي ولكنه أسير بين أيدينا الآن. حملوا إليه اللبن وأخبروه بما قال أمير المؤمنين (ع).
أقول: يا أمير المؤمنين..! لقد أكرمت قاتلك، ونحن شيعتك ومحبيك، نستمع إلى شيء من مصائبك فترق قلوبنا. يا مولاي..! لا تنسانا في تلك الحفرة الموحشة التي سينتهي بنا المطاف فيها، تلك الحفرة التي لم نمهدها لمضجعنا. إننا نحيا ونموت على أمل اللقاء بك، وننتظر ما قاله الشاعر: يا حار همدان من يمت يرني.
[٢] سورة الدخان: ٣-٤.
[٣] سورة القدر: ٣.
[٤] سورة القدر: ٢.
[٥] سورة القارعة: ٣.
[٦] سورة المرسلات: ١٤.
[٧] بحار الأنوار ج٩٤ ص٢٣.
[٨] بصائر الدرجات ج١ ص٢٢٣.
[٩] الکافي ج٤ ص١٥٦.
[١٠] سورة التوبة: ٤٦.
[١١] سورة محمد: ١٧.
[١٢] سورة الأنفال: ٢٩
[١٣] سورة الحجرات: ٧.
[١٤] سورة السجدة: ١٦.
[١٥] سورة الأنفال: ٢.
[١٦] سورة الحجر: ٣.
[١٧] أبو فراس الحمداني رحمه الله.
[١٨] الأمالي (للطوسي) ج١ ص٦٦٥.
هاشتاغ
خلاصة المحاضرة
- لقد استعمل القرآن الكريم في التعبير عن ليلة القدر؛ تعبيرا يشبه تعبيره عن يوم القيامة وذلك لعظمة هذه الليلة، قال: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) ، وقد قال عن يوم القيامة: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ) وقال أيضا: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ).
- لا ينبغي للمؤمنين الذين لا يقبلون في هذه الليالي ولا يتفاعلون فيها أن يشعروا باليأس والإحباط ولا أن يذموا أنفسهم، فهذا تقييم خاطئ ومقياس غير صائب. فقد يكون المؤمن خاشعا خاضعا مستذكرا لربوبية الله عز وجل، ومراقبا لعظمة الله سبحانه ولكن لا تجري دموعه.