- ThePlus Audio
سر خلود الحسين (عليه السلام) وأصحابه
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وأفضل الصلاة وأتم السلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين محمد المصطفى وآله الطيبين الطاهرين.
السلام عليكم أيها الإخوة المؤمنون جميعا ورحمة الله وبركاته.
إنَّ هذا اليوم هو يوم التاسع من محرم، وهو يوم يذكرنا بأحداث ثقيلة جرت على أهل البيت (ع)؛ لأن ما وقع في مثل هذه الأيام قد أحدث جرحاً بليغاً في قلوبهم (ع)، وإنَّ الإمام صاحب الأمر (عج) عندما يستند إلى الكعبة في ذلك اليوم الموعود؛ يطلق أول شعار له وهو: (ألا يا أهل العالم أن جدي الحسين قتلوه عطشانا)[١]؛ فالفتوحات الأرضية وإنقاذ البشرية وتحقيق العدل في الأرض في جانب والأخذ بثأر جده الحسين (ع) في جانب آخر، ولهذا من برامج الإمام في المدينة هو إظهار قبر جدته المظلومة (س)، وله مواقف في كربلاء إحياءً لذكراه بعد ما انطمست المعالم بحسب الظاهر.
الخطوط العامة للحديث
وسيكون حديثي في ثلاثة فصول، الفصل الأول: أتناول فيه دروس النهضة الحسينية بصورة سريعة ومختصرة، ومن ثم أتناول التصريحات المهمة التي أطلقها سيد الشهداء من المدينة والتي قد يسمعها البعض لأول مرة من سيرة الحسين (ع)، وأختمها بذكر بعض المواقف البطولية لأصحابه (ع) لغرض التأسي بهم، وقد يقول البعض: أنه لا يمكن التأسي بهم، والحال أنَّه كان فيهم الغلام وفيهم من كان حديث عهد بالدين، وسيرتهم هي مصدر عبرة وقدوة لنا جميعا.
من الدروس المهمة في قضية الحسين (ع) – وهي كثيرة وقد استعملت من التبعيضية لأقول أن هذا ليس أهم درس بل هو من أهمها – أن نتعلم كيفية التعامل مع الآخر وكيفية التعامل مع المجتمع من حولنا؛ في كيفية جمعه للأنصار ومواقفه مع الذين لم يكونوا على استعداد تام بحسب الظاهر لكي يقاتلوا بين يديه، وكيفية تغييره لقناعاتهم.
ومن المهم جدا أن نفهم كيفية التأثير على الآخرين وتغيير قناعاتهم؛ من ابنٍ وزوجةٍ وصديقٍ ورحمٍ وأختٍ وغيرهم، ونعلم أن تأثير الحديث العاطفي والدموع والبكاء وإن كان جيداً إلا أنه تأثير مرحلي، وقد شبهنا العاطفة في حديث سابق بالهواء الذي يدفع السفينة إلى الأمام، وقلنا أنه لابد من وجوج سفينة وربان وشراع ومقومات للحركة لتأتي الريح فتزجي[٢] السفينة، وكما يقول القرآن الكريم: (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ)[٣]؛ والعواطف في أيام عاشوراء وفي مصائب أهل البيت هي عواطف جياشة ولكنها سرعان ما تفتر، وأتذكر أنني تناولت الأمر في خطبة في العالم الماضي بعد يوم عاشوراء تحت عنوان: لماذا الفتور بعد العشرة الأولى من محرم؟
ما هو الهدف من حضور مجالس الحسين (عليه السلام)؟
فلماذا الفتور عن الحضور في المجالس التي فيها تفهيم لمعالم الدين؟ وما الفرق بين التاسع حينئذٍ وبين الخامس عشر من شهر محرم؟ لماذا هذا الانحسار في مجالس أهل البيت بعد الانتهاء من اليوم العاشر؟ وصحيح أن هذه الأيام هي قمة الأحداث؛ ولكن هل حضور المجالس هو للبكاء فقط؟ فإن كان الحضور للبكاء فقط؛ فإن الإنسان تجف دمعته بعد العاشر، وإن كان الحضور لأجل الاعتبار والاستفادة وأخذ الدروس المؤثرة في الحياة؛ فما الفرق بين العشرة الأولى والعشرة الثانية أو الثالثة من شهر محرم؟
إذاً، إذا أردت أن تغير مسير حياة الإنسان؛ فعليك أن تغير من قناعاته، وصحيح أن الإمام (ع) قد ضرب على الوتر الحساس؛ وتر العواطف وقال: أنه ابن بنت النبي (ص) وتكلم بكلمات من هذا القبيل؛ إلا أنه كان يؤكد في مسيره من المدينة إلى كربلاء على أنَّ ثورته هي لإحياء دين جدِّه (ص)، وأن المعروف لا يعمل به والمنكر لا يتناهى عنه، ولا يمكن لمثله أن يبايع مثل يزيد وإلى آخر هذه الكلمات، وفي الواقع أراد بهذه الكلمات أن يثير عندهم التفكر والتعقل في حياة الأمة وأن تكون حركتهم عن قناعة منهم.
وفي الحقيقة إنني قد فكرت كثيرا في علة تفاني أصحاب الحسين (ع) هذا التفاني، ورأيت أنهم كانوا يعتقدون بما يفعلون، ولذلك كانوا في المناقشات وفي عروض الأمان التي كانت تأتيهم وفي المسائل العائلية كالجبل الراسخ، ولم يكونوا يتأثرون أبداً بما كان يقال لهم، وسيأتي الكلام في ذكر أصحاب الحسين (ع) عن جريح مغمىً عليه سمع بمقتل الحسين (ع)؛ فقام يكفكف جراحاته وهجم على القوم مرة أخرى، وقد أخاف بذلك الأعداء كما نقل ذلك بعض أصحاب التواريخ، وظنوا أنَّ أصحاب الحسين (ع) قد بعثوا من جديد وأنَّ الحسين (ع) قد أوجد فيهم الحياة مرة أخرى كرامة منه.
ترسيخ القناعة بدل التوبيخ والتقريع..!
فمن أين جاء هذا الاعتقاد الراسخ وهذه القناعة؟ ألم تكن من كلمات الإمام (ع) التي كان يلقيها عليهم طوال المسير؟ وكذلك في تربيتنا للأسرة والمجتمع علينا أن نتبع هذا السبي؛ فالأم التي ترى أن ابنتها لا تستوعب مسألة الحجاب وهي في التاسعة من عمرها؛ ليس من الطبيعي أن تزجرها أو تحبسها أو تذكر عيوبها أمام الآخرين وأن تحرجها أمامهم؛ بل عليها أن تفهمها هذه المسألة برفق، وكذلك الأمر بالنسبة للوالد الذي يرى ولده لا يصلي؛ عليه أن ينفذ إلى أعماق وجوده وأن يأتيه من منطلق الفطرة وأنَّ يفهمه بأنَّ الإنسان بإنسانيته يحب أن يشكر ما يسدى إليه والصلاة عبارة عن شكر للمنعم؛ بدل أن يقول له: أنت كافر وأنت كذا وكذا.
وهكذا في شتى حقول الحياة؛ إذا أردت أن تؤثر على مسيرة الإنسان انظر إلى الدوافع التي تدفعه نحو الباطل وإلى المحفزات الباطنية؛ فإذا رأيت أحداً يرتكب المحرم في عالم الشهوات حاول أن تغير قناعاته من خلال عرض البدائل المحللة عليه، وهذا الإنسان من الممكن أن يغير مسيره من خلال ما قلناه.
إن الله سبحانه هو الحافظ لهذا الدين..!
والأمر الثاني في قضية عاشوراء هو أن هذه القضية تبعث الأمل في النفوس، والله سبحانه قد وعد بحفظ هذا الدين، يقول: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[٤]؛ فالقرآن الكريم هو آخر الكتب، والنبي (ص) هو آخر الأنبياء، والإسلام هو آخر الأديان، وإن الله سبحانه قد ترك الاختيار للإنسان في شئونه الخاصة؛ فهو لا يعاقب العبد على ما لا خيار له فيه، وأما مقدرات الأمة والقضايا العامة والسنن الجارية في الأمة هي تحت إشراف العلي القدير وقد بعث الحسين (ع) ليصحح مسار الدين والشريعة.
ولا أدري إن كان هذا الحديث صحيحاً؛ ولكن نقله البعض وشكك آخرون في صدوره؛ إلا أن مضمونه موجود في بعض كتبنا وهو: أن الله يبعث على رأس كل مائة من يجدد الدين، وهذه سنة الله سبحانه في تصحيح مسير الأمة، فإذا رأى أحدنا فيما يرى انحرافاً في الأمة عن الدين أو وهناً في الإسلام وفي المسلمين – طبعا تعبير الوهن في الإسلام تعبير خاطئ وإنما الوهن يكون في المسلمين – عليه أن يعلم أنَّ الله عز وجل الذي حفظ مسيرة الأمة بدم الإمام الحسين (ع) في يوم عاشوراء؛ سيحفظ هذه المسيرة إلى قيام صاحب الأمر (عج)، ودور المهدي (عج) في الأمة كدور الحسين (ع) في الأمة؛ فكما كانت ثورته وحركته حركة تصحيح وإعادة الأمة إلى المسار الصحيح؛ فكذلك هي حركة المهدي (عج)؛ فمن موجبات بعث الأمل أن نعلم أن الله عز وجل حافظ لهذا الدين كما هو حافظ للقرآن الكريم.
ويذكر في بعض الرويات: (إِنَّ اَللَّهَ عَزَّ ذِكْرُهُ لاَ يَعْجَلُ لِعَجَلَةِ اَلْعِبَادِ وَلَإِزَالَةُ جَبَلٍ عَنْ مَوْضِعِهِ أَيْسَرُ مِنْ زَوَالِ مُلْكٍ لَمْ يَنْقَضِ أَجَلُهُ)[٥]؛ أي أن إزالة الجبل أهون من إزالة ملك ظالم وطاغية يستبد بالرقاب، ويهدر الدماء ويصادر بالأموال، ويقول: أن الله لا يعجل لعجلة العباد؛ فهناك حكمة في أمور الله سبحانه، والله عز وجل قد أخر تصحيح حركة الأمة في حياة الإمام الحسن (ع) إلى حياة الإمام الحسين (ع)، ولو أذن للحسن (ع) أن يقوم بدور الحسين لقام بالأمر من دون أي اختلاف؛ ولكنَّ الظرف لم يكن مآتياً؛ فأجل سبحانه الأمر لحين ثورة الحسين (ع).
طفلة يرق قلبها لمصيبة الحسين (ع)..!
ومن دروس عاشوراء الإخلاص لله سبحانه وتعالى، وتصورا لو كشف لجيش يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد الواقع في يوم عاشوراء وصور لهم مكانة الحسين (ع) في صدور هذه الأمة ورأوا هذه المجالس والمآتم، وأنا أعتقد – وأظن أنكم توافقونني – أن التفاعل مع ذكر الحسين تفاعل غريب؛ فقد تسمع المقتل في اليوم مرتين وثلاث، وأنت تعلم القضية بحذافيرها؛ إلا أنك في كل مرة تشعر أن الحادثة جديدة ولها وقع متميز عليك.
وقبل أيام كنت في أحد المآتم ورأيت أباً يحمل طفلة في حضنه والدموع تجري على خديها، وأظن أنَّ عمرها كان سنتين أو ثلاث، وظننت أن هذا البكاء لجوع أو لمشكلة أو أنَّ الأم قد آذتها بكلمة؛ فسألت أباها عن سبب بكاءها، فقال: إنَّ بكاءها لأجل ما سمعت في المأتم وقد تأثرت من ذلك فسالت دموعها، فتمسحت بتلك الدموع تبركاً من هذه الطفلة البريئة التي رقَّ قلبها لمصيبة الحسين (ع) فما سر هذا التحول؟
جاذبية الحسين (ع) حتى لغير المتدينين..!
وقد يعلم الخطباء وهم قد جربوا ذلك؛ أنَّ الذين يبكون على الحسين (ع) في شتى بلاد العالم ليسوا متميزين في الدين والتقوى كما قلنا؛ بل هم من جميع الاتجهات ولديهم تقصير كبير في جانب العمل، ولكن هذه الذكرى تستدر الدمع من القريب والبعيد، وقد قلنا أنه لابد من أن نستغل هذا الجو من الإقبال.
ومن الدروس التي نستفيدها هو درس الخلود؛ فمن الذي حفظ الحسين وأهله طوال التاريخ وهم قد أبيدوا عن آخرهم ولم يبقى منهم إلا العليل والنساء وبعض الأيتام، ومن الذي كان يظن أن هذا الوجود المبارك سيستمر في أعماق هذه الأمة؟ وسيكون الطلب بثأر الحسين (ع) من أهم وظائف الإمام الحجة (عج) عند ظهوره، وفي الحقيقة ما أروع هذا البيت من الشعر:
تـبـكيكَ عيني لا لأجلِ مثوبة ٍ
لـكـنّـمـا عيني لأجلِكَ باكية [٦]
حتى أن البعض يحاول أن يصرف ذهنه عن حوائجه في مجلس الحسين (ع) ويرى أنه لا يجوز أن يتعامل مع الحسين (ع)، فكم يا ترى تساوي هذه الدموع من الدراهم؟ هل يبيعها مقابل بعض الحوائج الدنيوية الرخيصة؟ بل يحاول أن يؤجل تلك الحوائج لوقت آخر ويقول: لتكن هذه دموع خالصة لمصيبة الحسين (ع) ويقول الإمام الصادق (ع): (اَلْحُسَيْنُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَبْرَةُ كُلِّ مُؤْمِنٍ)[٧].
السر في خلود الحسين (ع)
وكان في زمان النبي (ص) يعرف المؤمنون بحبهم للإمام علي بن أبي طالب (ع)، وقد أعطى النبي (ص) مقياساً آخر فقال: (إِنَّ لِقَتْلِ اَلْحُسَيْنِ حَرَارَةً فِي قُلُوبِ اَلْمُؤْمِنِينَ لاَ تَبْرُدُ أَبَداً)[٨]، وفي الحقيقة لا تبرد هذه الحرارة، ولو عشنا مائة عام وأتى المحرم لكانت الدموع هي الدموع؛ بل ويزيد التفاعل كل سنة والسبب في ذلك أن الله سبحانه هو الذي أراد تخليد ذكر الحسين (ع)؛ كما خلد من قبل ذكرى إبراهيم (ع)، فقد وضع إبراهيم (ع) قبل آلاف السنين حجرا على حجر في وادي مكة باسم بيت الله وهو عمل صحيح وعظيم ولكن هل يتناسب مع هذا الخلود؟ وقد هم بذبح ابنه اسماعيل (ع) ولكن الله عز وجل خلد زمزم والصفا والمروة والحجر ومقام إبراهيم وذكرياته؛ لأن ربنا عز وجل رب شكور، وأنت كذلك يكتب لعملك الخلود لو كان خالصاً لله سبحانه.
لماذا تكتسب بعض الأعمال الخلود دون غيرها؟
إنَّ أحد الأنبياء السلف بعث نبياً، ثم قيل له اخرج خارج المنطقة لترى بعض الأشياء، فمر على كنز فجاءه الوحي بأن يخفي هذا الكنز في التراب، ففعل ذلك ثم أكمل طريقه وإذا بالكنز يظهر أمامه ثانية فقام بدفنه وأكمل ليظهر له الكنز مرة أخرى؛ فدفنه كما فعل في السابق وإذا بالوحي يأتيه: اعمل الخير وأخفِه ونحن من سنظهر هذه الكنوز، عليك بالدفن وعلينا الإظهار، والعمل الذي ينتسب إلى الله سبحانه يكتسب الخلود.
لماذا اصطحب الحسين (عليه السلام) النساء معه في كربلاء؟
والدرس الأخير الذي نستفيده قبل أن أنتقل إلى الفصلين الآخرين؛ هو ذوبان الأئمة (ع) في الإسلام، ودم الحسين (ع) هو أذكى الدماء بلا شك؛ ولكن عندما يحتاج الدين إلى الدم فهو أول من يبذل هذا الدم، والإمام (ع) يخرق القوانين المتعارفة أيضاُ: (شَاءَ اَللَّهُ أَنْ يَرَاهُنَّ سَبَايَا)[٩]، وأنتم تعلمون أن الإمام (ع) رد أم وهب التي أرادت أن تحمل على القوم في يوم عاشوراء فلا جهاد على المرأة، ومع ذلك يصطحب بناته ونسائه لأجل الدين والمصلحة العليا؛ فهذه الثورة تحتاج إلى التبليغ ولا يتم التبليغ إلا عن طريق الأسرى من نساء أهل البيت (ع).
وإذا أراد أحدنا أن يتأسى بالإمام الحسين (ع)؛ عليه أن يذوب في الإسلام كما ذاب هو في الإسلام، وعلينا أن نكون مخلصين أوفياء للدين بكل حذافيره، وهل الدين إلا ما كتب في الرسائل العملية وما أثر عن المعصومين (ع).
كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) الخالدة
وفي الفصل الثاني أريد أن أتناول بعض كلماته (ع)، وهو متوجه إلى الكعبة وهي كلمات معبرة، وقد أخرج الإمام من مكة يوم الثامن وهو يوم التروية وفي ذلك يقول الشاعر:
وَقَد اِنجَلى عَن مَكة وَهوَ اِبنُها
وَبَهِ تَشرَّفت الحَطيمُ وَزَمزَم[١٠]
حوار الإمام الحسين (عليه السلام) مع ابن الزبير ومحاولة الأخير في صد الإمام عن الرحيل
يقول الإمام (ع) لابن الزبير عندما أراد التوجه إلى العراق: (يَا اِبْنَ اَلزُّبَيْرِ لَأَنْ أُدْفَنَ بِشَاطِئِ اَلْفُرَاتِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُدْفَنَ بِفِنَاءِ اَلْكَعْبَةِ)[١١]؛ أي أن أقتل على شاطئ الفرات أحب إلي أن أقتل وأدفن في جانب الكعبة، فما هو الجدوى من ذلك؟ ما الذي سيتغير في الأمة إذا دفن إلى جانب البيت؟ وهنا يعرض بابن الزبير فيقول: (إِنَّ هَذَا يَقُولُ لِي كُنْ حَمَاماً مِنْ حَمَامِ اَلْحَرَمِ وَ لَأَنْ أُقْتَلَ وبَيْنِي وَبَيْنَ اَلْحَرَمِ بَاعٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُقْتَلَ وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ شِبْرٌ وَلَأَنْ أُقْتَلَ بِالطَّفِّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُقْتَلَ بِالْحَرَمِ)[١٢].
النيابة عن الإمام الحسين (عليه السلام) في الحج المندوب..!
إنَّ الإمام (ع) يبحث عن تكليفه أينما كان، ولهذا يقطع حجه ويتوجه إلى كربلاء، والبعض يقوم بعملية رمزية جميلة في الحج المندوب؛ فهو يحالول أن ينوب عن الإمام بدل تلك الحجة الناقصة ويهدي ثوابها للإمام الحسين (ع)؛ إذ أنه لم يكمل ماسك حجه في سنة استشهاده.
ومن كلمة له قالها لعبد الله بن عمر وقد حاول الإمام في كلامه هذا أن يضرب على وتر اللامبالاة لهذه الأمة: (يَا عَبْدَ اَللَّهِ أَ مَا عَلِمْتَ أَنَّ مِنْ هَوَانِ اَلدُّنْيَا عَلَى اَللَّهِ أَنَّ رَأْسَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلاَمُ أُهْدِيَ إِلَى بَغِيٍّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ أَ مَا تَعْلَمُ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا يَقْتُلُونَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ اَلْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ اَلشَّمْسِ سَبْعِينَ نَبِيّاً ثُمَّ يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ كَأَنْ لَمْ يَصْنَعُوا شَيْئاً فَلَمْ يُعَجِّلِ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ بَلْ أَخَذَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ذِي اِنْتِقَامٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ: اِتَّقِ اَللَّهَ يَا أَبَا عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ وَلاَ تَدَعَنَّ نُصْرَتِي)[١٣].
كتاب الإمام الحسين (عليه السلام) إلى أشراف البصرة
والإمام واضح في كلامه؛ فإن هذه الأمة لا تبالي بواقعها وهي أمة شبيهة بقتلة الأنبياء الذين كانوا يقتلون بين الطلوعين سبعين نبياً من أنبياء الله عزوجل، وقد سألت البارحة مسلماً من العامة وقد تعجبت كثيراً من إجابته: أو تعلم ما يوم عاشوراء؟ قال: نعم، أنا أعلم أنه قتل فيه الحسن أو الحسين (ع)، ومن المعيب أن يجهل الحسين (ع) مسلم يعتقد بأنه (ع) ابن رسول الله (ص)، وهو الذي يقول في كتاب أرسله إلى أهل البصرة وفيه إجابة على الذين يتهمون الشيعة بالبدع: (أَدْعُوكُمْ إِلَى اَللَّهِ وَ إِلَى نَبِيِّهِ فَإِنَّ اَلسُّنَّةَ قَدْ أُمِيتَتْ فَإِنْ تُجِيبُوا دَعْوَتِي وَ تُطِيعُوا أَمْرِي أَهْدِكُمْ سَبِيلَ اَلرَّشٰادِ)[١٤]، ووضوح الخط والهدف والوسيلة من سمات الحسين (ع).
وقد اعترض الشاعر المعروف الفرزدق الحسين (ع) وقال له محاولاً أن ينصحه: (قُلُوبُ اَلنَّاسِ مَعَكَ وَسُيُوفُهُمْ مَعَ بَنِي أُمَيَّةَ قَالَ صَدَقْتَ… إِنَّ اَلْأَمْرَ لِلَّهِ يَفْعَلُ مٰا يَشٰاءُ وَرَبُّنَا تَبَارَكَ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فَإِنْ نَزَلَ اَلْقَضَاءُ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى نَعْمَائِهِ)[١٥]، وانظروا إلى تسليم الإمام (ع) لقضاء الله وقدره وهنا سر الخلود، يقول: لو ذهبنا إلى الكوفة واستلمنا الحكم وأصبحنا للمسلمين إماماً؛ نحمد الله على ذلك، وإن حال القضاء دون رجائي وهو إحياء كتاب الله وسنة نبيه؛ فسوف أصبر على قضاء الله عز وجل وقال: (فَلَمْ يَتَعَدَّ مَنِ اَلْحَقُّ نِيَّتُهُ، وَاَلتَّقْوَى سَرِيرَتُهُ)[١٦].
وعلينا أن تكون نيتنا كنية الحسين (ع) عند مزاولتنا للعمل الإصلاحي، وتبليغ الدين وإرشاد الآخرين، إن الحسين (ع) لم يظفر بالفتح؛ إلا أنه قام بما يجب عليه.
لا تسمعا لي واعية..!
ومن كلماته (ع) في باب إتمام الحجة على الآخرين – وقد قلت مراراً: أن حضوركم في المساجد والمآتم أمر ممتاز ولكن على الإنسان أن يعلم أن الحجة تتم عليه أكثر بكل كلمة يتعلمها وعليه أن يعمل حتى لا يتذرع يوم القيامة بالجهل – أنه قال لعمر بن قيس وابن عمه عندما التقيا بالإمام واعتذرا عن نصره: (فَانْطَلِقَا فَلاَ تَسْمَعَا لِي وَاعِيَةً وَ لاَ تَرَيَا لِي سَوَاداً، فَإِنَّهُ مَنْ سَمِعَ وَاعِيَتَنَا أَوْ رَأَى سَوَادَنَا فَلَمْ يُجِبْنَا وَاعِيَتَنَا كَانَ حَقّاً عَلَى اَللَّهِ أَنْ يُكِبَّهُ عَلَى مَنْخِرَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ)[١٧]، وعلينا أن نلتف إلى أنَّه لا بد من الإجابة إذا تنجز التكليف وتعين علينا.
ومن كلماته (ع) حول الصلاة وحبه للصلاة ما قاله يوم عاشوراء لأخيه العباس (ع): (اِرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَإِنِ اِسْتَطَعْتَ أَنْ تُؤَخِّرَهُمْ إِلَى غُدْوَةٍ وَ تَدْفَعَهُمْ عَنَّا اَلْعَشِيَّةَ، لَعَلَّنَا نُصَلِّي لِرَبِّنَا اَللَّيْلَةَ وَ نَدْعُوهُ وَ نَسْتَغْفِرُهُ، فَهُوَ يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أُحِبُّ اَلصَّلاَةَ لَهُ وَ تِلاَوَةَ كِتَابِهِ وَ كَثْرَةَ اَلدُّعَاءِ وَ اَلاِسْتِغْفَارَ)[١٨]، وهنا يتمنى الحسين فراغاً ويشهد الله على ما قلبه من حب الصلاة وتلاوة القرآن وكثرة الدعاء والاستغفار.
وبالإضافة إلى العبادة خرج الحسين (ع) في الليل يتفقد الخيام، ويقول هلال بن نافع: قلت للإمام ماذا تفعل؟ فقال: اتفقد التلاع والروابي مخافة أن تكون مكمنا لهجوم الخيل، وهنا يجمع الإمام بين تكليفه مع الله عز وجل وبين دفاعه عن نساء أهل بيت النبوة.
وقد توجه الإمام (ع) بهذا الدعاء إلى الله عز وجل؛ حين هجمت على معسكره خيل الأعداء في يوم عاشوراء ونحن نتعلم من هذا الدعاء كيفية الالتجاء إلى الله عز وجل في أحلك الظروف وفي أصعب ساعات الحياة: (اَللَّهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ، وَ رَجَائِي فِي كُلِّ شِدَّةٍ، وَ أَنْتَ لِي فِي كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِي ثِقَةٌ وَ عُدَّةٌ، كَمْ مِنْ هَمٍّ يَضْعُفُ فِيهِ اَلْفُؤَادُ وَ تَقِلُّ فِيهِ اَلْحِيلَةُ، وَ يَخْذُلُ فِيهِ اَلصَّدِيقُ وَ يَشْمَتُ فِيهِ اَلْعَدُوُّ، أَنْزَلْتُهُ بِكَ وَ شَكَوْتُهُ إِلَيْكَ، رَغْبَةً مِنِّي عَمَّنْ سِوَاكَ، فَفَرَّجْتَهُ وَ كَشَفْتَهُ)[١٩].
موقف برير في يوم العاشر
وسأنتقل إلى بعض الفقرات المعبرة من استشهاد أصحاب الحسين (ع) الذين قَلَّ ما يذكرون؛ فأهل بيته (ع) معروفون بالبسالة والشجاعة إلا أنني أريد أن أعطي شيئا من حق أصحابه (ع)، ومن هؤلاء برير الذي كان في ركاب الحسين (ع)، وعندما أراد القتال قال للأعداء: اقتربوا مني يا قتلة المؤمنين، ويستعجل برير الشهادة وينادي أن ادنوا مني يا قتلة ابن بنت رسول الله (ص).
ومقتل برير هذا قد أثر حتى في نفس زوجة قاتله، وحينما علمت بمقتله قالت: أعنت على ابن فاطمة وقتلت بريراً سيد القراء؛ ولله لا أكلمك أبدا، وانظروا إلى كيف كان لأصحاب الحسين (ع) ذلك الرصيد الضخم في نفوس الأمة، وحتى هذه المرأة تعلم أن هذا القتل هو قتل ظلم وجور.
مسلم بن عوسجة والوصية الأخيرة..!
ومن الذين قتلوا مع الحسين (ع) مسلم بن عوسجة، وقد قال له الإمام (ع) وهو يعالج سكرات الموت: رحمك الله يا مسلم: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ)[٢٠]، وكان حبيب بن مظاهر إلى جنبه فقال له: عز علي مصرعك يا مسلم أبشر بالجنة، وعلى كل حال ما هي إلا لحظات وتنتقل إلى جنان الخلد، فأجابه مسلم بصوت خافت: بشرك الله بخير، ثم قال له حبيب: لولا أنني أعلم أنَّي في أثرك لأحببت أن توصي لي بما أهمك قبل اللحظات الأخيرة، فقال له مسلم وهو يشير إلى الحسين (ع): أوصيك بهذا أن تموت دونه، ويطلب مسلم من حبيب أن لا ينسى الحسين (ع) في اللحظات الآخرة.
جنون عابس يوم العاشر..!
ويعجب الإنسان من وفاء أصحاب الحسين (ع)، ومنهم عابس الذي ذهب إلى ميدان القتال حاسر الرأس؛ فلما قيل له أجننت يا عابس؟ كيف تقاتل هكذا وأنت وحيداً بين الأعداء؟ فقال: نعم، حب الحسين أجنني، فهل تعلمون أصحاب أبر وأوفى من هؤلاء؟
وفاء تشترك فيه حتى النساء والأطفال..!
ومن أصحابه، عبيد الله بن عمير بن الكلبي وقد قتل في سبيل الحسين (ع) وفي أثناء ذلك؛ جاءت زوجته ووقفت على رأسه وهي تقول: هنيئا لك الجنة، اسأل الله الذي رزقك الجنة أن يصحبني معك وجلست على جسد زوجها تندبه، فقال الشمر بن ذي الجوشن لغلامه رستم: اقتل هذه المرأة، فضربها بعمود على رأسها لتموت إلى جانب جسد زوجها، ويقال بأنها أول شهيدة في معركة الطف، وقد قتلت إلى جانب زوجها، ما أروع هذا الوفاء الذي اشترك فيه النساء والأطفال؛ الصغار والكبار، وهكذا كانت نجدتهم للحسين (ع).
ذكرت الصلاة، جعلك الله من المصلين..!
ومن أصحابه أبو ثمامة الصائدي وهو من أصحاب رسول الله (ص) الذي كان يقلب وجهه في السماء وقت الزوال في يوم عاشوراء كما ورد في الورايات، كان ينظر في السماء ويتحين وقت الصلاة؛ فالتفت للإمام (ع) وقال له بأدب: (يَا أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ! نَفْسِي لَكَ اَلْفِدَاءُ، إِنِّي أَرَى هَؤُلاَءِ قَدِ اِقْتَرِبُوا مِنْكَ، وَ لاَ وَ اَللَّهِ لاَ تُقْتَلُ حَتَّى أُقْتَلَ دُونَكَ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ، وَ أُحِبُّ أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَ قَدْ صَلَّيْتُ هَذِهِ اَلصَّلاَةَ اَلَّتِي دَنَا وَقْتُهَا. فَرَفَعَ اَلْحُسَيْنُ [عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ] رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: ذَكَرْتَ اَلصَّلاَةَ، جَعَلَكَ اَللَّهُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ اَلذَّاكِرِينَ! نَعَمْ، هَذَا أَوَّلُ وَقْتِهَا)[٢١]، وكان يتمنى أن يصلي آخر صلاة جماعة مع الإمام في ظهر يوم العاشر، والإمام شكور وقد شكر له هذه المبادرة ودعا له بهذا الدعاء، وهكذا تعاملوا مع عبادة الله عز وجل.
نافع بن هلال المتجاهر بالدفاع عن الحسين (عليه السلام)..!
وفي الحقيقة إن ما قام به أصحاب الحسين (ع) كان لافتا؛ حتى إن نافع بن هلال كان يرمي الأعداء بالسهام المسمومة وقد كتب اسمه على كل سهم من السهام ليثبت اسمه في ديوان الحسين (ع)، ولما رشقوه بالحجارة وأخذوه أسيراً إلى معسكر الطاغية بن زياد قال له: ما حملك إلى ما صنعت بنفسك؟ وقد قلنا في مستهل الحديث عن وضوح الفكرة والقناعة التامة عند أصحاب الحسين (ع)، وبما أجاب هلال قساة القلوب هؤلاء؟ أجابهم بعبارة موجزة وقال: إنَّ ربي يعلم ما أردت، هو يعلم مافي قلبي من النية، ثم أمر فقطع عنقه رضوان الله عليه.
جون مولى أبي ذر مثال الوفاء..!
ومن هؤلاء ذلك العبد الي كان مولى لأبي ذر، وهو جون الذي قال له الإمام الحسين (ع): (أَنْتَ فِي إِذْنٍ مِنِّي فَإِنَّمَا تَبِعْتَنَا لِلْعَافِيَةِ فَلاَ تَبْتَلِ بِطَرِيقِنَا – أنت عبد يمكنك أن ترجع من حيث أتيت، فهبط ليقبل رجل الإمام (ع) وقال – يَا اِبْنَ رَسُولِ اَللَّهِ أَنَا فِي اَلرَّخَاءِ أَلْحَسُ قِصَاعَكُمْ وَ فِي اَلشِّدَّةِ أَخْذِلُكُمْ وَ اَللَّهِ إِنَّ رِيحِي لَمُنْتِنٌ وَ حَسَبِي لَلَئِيمٌ وَ لَوْنِي لَأَسْوَدُ فَتَنَفَّسْ عَلَيَّ بِالْجَنَّةِ فَيُطَيَّبَ رِيحِي وَ يُشَرَّفَ حَسَبِي وَ يَبْيَضَّ وَجْهِي لاَ وَ اَللَّهِ لاَ أُفَارِقُكُمْ حَتَّى يَخْتَلِطَ هَذَا اَلدَّمُ اَلْأَسْوَدُ مَعَ دِمَائِكُمْ ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ)[٢٢]، لم يكن يقبل بالرحيل إلا أن يختلط دمه الأسود كما قال بدماء أهل البيت (ع) الزاكية.
وكان آخر من قتل من أصحاب الحسين (ع) سويد بن عمر الخثعمي؛ الذي كان جريحاً عندما سمع القوم يقولون قتل الحسين (ع)، ويقال أنه انتفض كما ينتفض الأسد الجريح وحمل على القوم فلم يجد سيفه وظفر بمدية فحمل عليهم يطعنهم بها حتى فر القوم مذعورين، وقد ظنو أن أصحاب الحسين قد عادت إليهم أرواحهم، وهذه نماذج من بسالة أصحاب الحسين (ع) وشجاعتهم.
وأختم حديثي هذا بعلي الأكبر (ع)؛ وكما تحدثنا عن أصحاب الحسين (ع) نأخذ عينة من ذرية الحسين (ع)، ولا بد أن نستحضر عبارة من الحسين (ع) بحق علي الأكبر عندما نستذكر مقتله، والحسين كجده النبي (ص) الذي كان يصف الزهراء (ع) بالأوصاف المعهودة، لم يكن ليصفها على أنها ابنته بل أنه كان يقول ما يوحى إليه، وقبل أن يذهب إلى القتال أطال النظر إليه وكأنه كان يريد أن لا تفارقه صورة علي الأكبر وأن يشبع من منظره وحتى قيل أنه أمره بالمشي حتى يرى جمال وجهه.
وللعلم، إنَّ الحسين (ع) كان يرشح علي الأكبر لمن كان يتمنى رؤية النبي (ص) ليكون مذكراً بجده المصطفى، وعندما برز علي الأكبر؛ رفع الحسين (ع) شيبته إلى السماء في حالة استعطاف وتذلل لله رب العالمين وقال: (اَللَّهُمَّ اِشْهَدْ فَقَدْ بَرَزَ إِلَيْهِمْ غُلاَمٌ أَشْبَهُ اَلنَّاسِ خَلْقاً وَ خُلُقاً وَ مَنْطِقاً بِرَسُولِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ كُنَّا إِذَا اِشْتَقْنَا إِلَى نَبِيِّكَ نَظَرْنَا إِلَيْهِ فَصَاحَ وَ قَالَ يَا اِبْنَ سَعْدٍ قَطَعَ اَللَّهُ رَحِمَكَ كَمَا قَطَعْتَ رَحِمِي)[٢٣]، وحتى الحسين (ع) كان ينظر إليه عندما كان يشتاق إلى جده (ص).
علي الأكبر يطلب من أبيه شربة ماء..!
ولذلك دعى عليهم الإمام (ع) دعوة بليغة وقال: (اللهمّ امنعهم بركات الأرض، وفرّقهم تفريقا)[٢٤]، (ثمّ صاح الحسين عليه السّلام بعمر بن سعد: مالك؟ قطع اللّه رحمك، ولا بارك اللّه لك في أمرك)[٢٥]، ثم نظر إلى ولده وهو يقاتل في الميدان وإذا به يرجع إلى أبيه ليقول له هذه الكلمات التي فعلت بالحسين (ع) ما فعلت: يا أبي إن العطش قد قتلني، وهو لا يرضى بلا شك أن يؤذي والده ولكن شدة العطش جعلته يبوح بما في نفسه ولعله كان يتمنى أن يكتمه لحين استشهاده ولكنه أباح بهذا السر، وقال: وثقل الحديد أجهدني فهل إلى شربة ماء من سبيل؟ وصلى الله عليك يا علي ماذا تريد من هذه الشربة؟ قال: أريد أن أتقوى بها على الأعداء يا أبتاه، لا أريد الماء لكي أبل غليلي ولكن لأقاتل مرة ثانية بحماس أكثر.
وكيف يجيبه الإمام ولا ماء عنده؟ وهنا دعا له الإمام وقال: (واغوثاه! ما أسرع الملتقى بجدك فيسقيك بكأسه شربة لا تظمأ بعدها أبدا)، ومد الإمام (ع) لسانه وجعله في فمه فكان كشقة مبرد من شدة العطش (ع)، ويقول الخوارزمي في مقتله أن الإمام أعطى خاتمه لعلي الأكبر وطلب منه أن يجعله في فمه، ولعلها عملية رمزية؛ أن الحسين لا ماء عنده فليجعل هذا الخاتم في فمه.
مصيبة علي الأكبر
وسرعان ما استجيبت دعوة الحسين (ع)، وقد توجه بفرسه نحو الأعداء الذين تأججت قلوبهم حقداً على أهل البيت (ع) وماذا يفعلون بغلام الحسين (ع) وقد جاء فرسه إلى معسكرهم، وهذه العبارة في الواقع تقطع القلب وأنا لا أذكر هذه العبارة في هذا اليوم وأنت يا صاحب الأمر غني عن ذلك، فقال علي الأكبر: (يا أبتاه هذا جدّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأ بعدها أبدا و هو يقول: العجل العجل فإنّ لك كأسا مذخورة .. فصاح الحسين عليه السّلام و قال: قتل اللّه قوما قتلوك، ما أجرأهم على الرحمن)[٢٦].
ولهذا قال الإمام (ع) عبارة لم يقلها حتى على بدن أخيه العباس: الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي وقال على الدنيا بعدك العفى، لقد استرحت من هم الدنيا وغمها وبقي أبوك وحيداً فريداً.
ولذلك عندما أتت السيدة زينب (س) ورأت الحسين (ع) على بدن علي الأكبر، رأته كالمحتضر يجود بنفسه ولهذا أطلقت الصرخة وقالت: وا أخياه وابن أخياه، ويقول بعض أرباب المقاتل: أنها توجهت نحو قبر أمها فاطمة (س) وطلبت منها المعونة لكي ترفع الحسين (ع) عن جسد ولده المذبوح، وعندما نظرت إليه وجدت الحسين (ع) قد وضع شيبته على وجه علي الأكبر (ع)، ثم رفع رأسه ودماء علي (ع) على وجهه ونادى: يا فتيان بني هاشم – وكان في بعض المواضع هو من ينقل جثث القتلى؛ إلا أنه لم يستطع ذلك مع علي الأكبر – احملوا أخاكم إلى الفسطاط:
يا كوكبًا ما كان أقصر عمره
وكذا تكون كواكب الأسحار
جاورت أعدائي وجاور ربه
شتان بين جواره وجوار[٢٧]
يا أبا عبدالله لقد قلت على الدنيا بعدك العفى، تعال وانظر شيعتك بعد أكثر من ألف وثلاث مئة سنة يسمعون وصف ولدك وهم يذرفون عليه الدموع الجارية، أما آن لك يا أبا عبد الله أن تنظر إلينا نظرة رحيمة؟ ونحن لا نريد منك حاجة من حوائج الدنيا بل نريد منك نظرة رحيمة في ساعة الموت وفي الليلة الأولى من ليلة الوحشة، في ذلك البيت المظلم، في بيت الغربة والوحشة والوحدة، يا أبا عبد الله خذ بيد أبيك أمير المؤمنين وزرنا في وحشتنا تلك واشفع لنا، وكذلك في عرصات القيامة لا تدعنا وحدنا وسقنا نحو حوض أبيك أمير المؤمين (ع)، صلى الله عليك عدد ما في علم الله، وصلى الله عليك مداد كلمات الله، وصل الله عليك زنة عرش الله وصلى الله عليك رضى ربنا.
[٢] تدفع.
[٣] سورة يونس: ٢٢.
[٤] سورة الحجر: ٩.
[٥] الکافي ج٨ ص٢٧٤.
[٦] هذه القصيدة العصماء من نظم العالم الكامل المرحوم الشيخ محمد علي الأعسم (ره).
[٧] مستدرك الوسائل ج١٠ ص٣١٢.
[٨] مستدرك الوسائل ج١٠ ص٣١٨.
[٩] مختصر البصائر ج١ ص٣٤٩.
[١٠] السيد جعفر الحلي.
[١١] كامل الزيارات ج١ ص٧٣.
[١٢] كامل الزيارات ج١ ص٧٢.
[١٣] مثیر الأحزان ج١ ص٤١.
[١٤] مثیر الأحزان ج١ ص ٢٧.
[١٥] المناقب ج٤ ص٨٨.
[١٦] نزهة الناظر ج١ ص٨٧.
[١٧] رجال الکشی ج١ ص١١٣.
[١٨] وقعة الطف ج١ ص١٩٣.
[١٩] وقعة الطف ج١ ص٢٠٥.
[٢٠] سورة الأحزاب: ٢٣.
[٢١] وقعة الطف ج١ ص٢٢٩.
[٢٢] مثیر الأحزان ج١ ص٦٣.
[٢٣] اللهوف ج١ ص٩٥.
[٢٤] عوالم العلوم ج١٧ ص٢٨٤.
[٢٥] عوالم العلوم ج١٧ ص٢٨٤.
[٢٦] عوالم العلوم ج١٧ ص٢٨٤.
[٢٧] أبو الحسن بن محمد بن فهد التهامي.
هاشتاغ
خلاصة المحاضرة
- لماذا الفتور عن الحضور في المجالس بعد العشرة الأولى؟ صحيح أن هذه الأيام هي قمة الأحداث؛ ولكن هل الحضور هو للبكاء فقط؟ فإن كان كذلك؛ فإن الإنسان تجف دمعته بعد العاشر، وإن كان لأجل الاعتبار وأخذ الدروس المؤثرة في الحياة؛ فما الفرق بين العشرة الأولى والثانية أو الثالثة من محرم؟
- إن الحسين (ع) بالإضافة إلى شحن أصحابه عاطفياً كان بين الحين والآخر يبين لهم أسباب ثورته ليكون إقدامهم ونصرتهم ناشئ عن قناعة تامة منهم، وكذلك الأمر في التربية؛ فما لم يستطع الإنسان أن يغير من قناعات الطرف المقابل لا يمكنه التأثير بحال من الأحوال.
- من الدروس التي نستفيدها من ثورة الحسين (ع) هو درس الخلود؛ فمن الذي حفظ الحسين وأهله طوال التاريخ وهم قد أبيدوا عن آخرهم ولم يبقى منهم إلا العليل والنساء وبعض الأيتام، ومن الذي كان يظن أن هذا الوجود المبارك سيستمر في أعماق هذه الأمة؟
- إنَّ الإمام الحسين (ع) الذي رد أم وهب التي أرادت النزول إلى الميدان والقتال في يوم عاشوراء، هو نفسه قد اصطحب معه النساء والحرائر من آل الرسول ليكملوا بدورهن الشق الثاني من المعركة وهو التبليغ فكن بحق صوت مظلومية الحسين (ع) وثورته..