إن سورة من سور القرآن الكريم مسماة باسم نبي الله هود، الذي عامله قومه أيضاً تعاملاً كتعامل الأنبياء السلف.. فصالح ابتُليَ بثمود، وهود ابتلي بقوم عاد.. ففي الآيات المتعلقة بصالح، نلاحظ تعبيرين.. واستعمل كتاب الله كلا التعبيرين بالنسبة إلى نبي الله هود.. ففي آية نبي الله صالح تقول الآية: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا}.. حيث عبّر عن صالح بأنه في مرتبة الأخ بالنسبة لهؤلاء القوم، فالله عز وجـل بعث الأنبياء من صميم الأمة، لئلا تأخذهم دواعي الحمية، إذا أُتي نبي من أمة أخرى، أو من قبيلة أخرى، أو من عشيرة أخرى.. فرب العالمين راعى هذا الطبع البشري، وكان بإمكان رب العالمين، وهو الآمر، أن يأمر قوماً بالانصياع إلى نبي من بلدٍ آخر.. لكن {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ}.. وهكذا النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم.
وعليه، فإن هذا أيضاً من الدروس العملية في الحياة.. فهذا الإنسان المنتسب إلى عشيرة، أو إلى فئة، أو إلى قوم، أو إلى بلد.. فإن اتحاده مع قومه في البلدية والجنسية والقومية والقبلية، من الأمور المساعدة لأن يؤثر فيهم.. فإذا أراد الإنسان أن يؤثر فليقدم عشيرته {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}.. فالله، الله، في أحب الأنفس إليكم!.. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}.. أي الأسرة وبعد ذلك العشيرة القريبة.
نفس هذا التعبير جاء بالنسبة لنبي الله هود {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً}.. وشعار نبي الله هود، هو نفس شعار نبي الله صالح، وجميع الأنبياء: {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ}.. هذا نبي الله صالح في قومه ثمود، وهذا نبي الله هود في قومه عاد، وهذا المصطفى في قبيلة قريش.. فأول دعوةٍ للأنبياء، هي دعوة إلى التوحيد، وإلى عبادة الله الواحد الأحـد.
إن فروع الدين مبتنية على هذه الكلمة، فالإنسان إذا آمن بأن هناك إلها، ينبغي أن يُعبد، وينبغي أن يُطاع.. فمن الطبيعي أن يبحث عن موارد الطاعة.. لذا عليه أن يلتجئ إلى شريعته: كالكتاب، والسنة، وكلام الفقيه والمجتهد.. كل ذلك تحقيقاً لهـذا الأصل الأساسي، وهذه هي العبودية.. ورحم الله بعض الماضين من علمائنا الأبرار، عندما كان يقول: (عليكم بوجدان حالة العبودية).. فالإنسان إذا رأى نفسه عبداً، يهدأ كثيراً، فلا طموح له زيادة عما رزقه الله عز وجل.. وإذا رأى شهوةً من الشهوات، لا يرى نفسه مأذوناً بأن يسترسل في شهوته.. لأن وجوده من رأسه إلى قدميه بين يدي الله عز وجل، كخلقة السموات والأرض {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}.. فالعقل خلقه الله عز وجل، قال له: أقبلْ!.. فأقبل، وقال له: أدبرْ!.. فأدبر.. نعم، المؤمن كله عقل، وكله يشبه هذا الوجود الذي يقال له: أقبلْ!.. فيُقبل.. ثم يقالُ له: أدبرْ!.. فيدبر، من دون منّةٍ على الله ورسوله.
فإذن، لا زال هذا الشعار هو شعار الجميع.. والإمام المهدي صلوات الله عليه عندما يظهر، أيضاً شعاره التوحيد، وليس له شعار إلا شعار صالح، وشعار هود، وشعار جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
{يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.. إن هذه حالة من الاستغناء عن الخلق، والتعالي على الناس.. فإذا أراد المؤمن أن يكون مؤثراً في عائلته، وفي عشيرته، فلتكن نصيحته لوجه الله عز وجل.. حيث أنه يلاحظ بعض الأوقات، أن الإنسان -من طرف خفي- يُشرك بالله عز وجل.. فهو يأمر زوجته ببعض صور الطاعة، وبالأخلاق الإسلامية، وبالمُثل –مثلاً- ليعود الأمر إلى نفسه.. لأنه يعلم لو أمر زوجته بالصلاح، فإنه سيكون مرتاحا معها.
فإذن، عاد الأمر إلى ذاته، فلم تكن دعوته لوجه الله خالصاً مخلصاً.. ولهذا شعار الأنبياء جميعاً {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً}، ولماذا يطلب الأجر من الفاني؟.. إن المستجدي إذا ذهب إلى فقيرٍ مثله ليستجدي، يكاد يُتهم بالحماقة والجنون.. والإنسان الذي يرى بأن في هذا الوجود، ما سوى الخالق، مفتقرٌ إليه وجوداً وبقاءً في كل شأنٍ من شؤونه، من الطبيعي أن لا يتوقع الأجر من الفاني.. ولكن هذه القاعدة الجارية على جميع الأنبياء والمرسلين، فإنها استثنيت في النبي الخاتم صلوات الله وسلامه عليه، عندما قال: {لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}.. نعم، النبي خالف قول الأنبياء السلف، ولكن لماذا؟.. لأنه يعلم أن هذا الأجر من متممات الرسالة.. فهذه الرسالة إذا لم تقرن بمودة ذوي القربى، فإنها ستكون ناقصة.. ولا نعني بالمودة الحالة القلبية، وإنما هي اتباع الشريعة.. فالشريعة دستور كان في العرش، ثم نزل إلى قلب النبي، ثم تجلى من خلال القرآن والسنة.. وبعد ذلك لا بد من التطبيق.. فهذه الشريعة التي كانت في العرش، ثم في القلب ثم في الكتاب والسنة.. ما قيمة هذه الشريعة إذا بقيت في هذه الأطُر؟.. إن التطبيق العملي، إنما هو بولاية أئمة الهدى عليهم السلام.. ومودتنا لهم، بمعنى اتخاذهم قادة، والمشي وراءهم.. وهذا الذي لم يقع في تاريخ المسلمين، فأصابهم ما أصابهم.
{وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ}.. أيضاً هنا إشارة قرآنية “استغفروا ثم توبوا” فالاستغفار حالة من الندامة القلبية، وحالة من العزم على عدم العود.. بعد ذلك توبوا، أي تحركوا.. فهذه الندامة القلبية ما قيمتها إذا كنت متسمراً في مكانك؟.. فعليك أن تتحرك، وعليك أن تسعى.
{ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ}.. عندما يتوب الإنسان إلى الله عز وجل، فما ثمرةُ توبته؟.. إن ثمرة التوبة -بحسب الظاهر- دخول الجنـة، والخلاص من النار، ورضى رب العالمين.. ولكن القرآن يعلم بأن هذا المعنى مفهوم.. فيضيف مفهوماً غريباً جديداً {يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ}.. أي إن كنتم تريدون المطر، والزرع، والثمار، وتحسن الاقتصاد، والكفاف في المعيشة؛ فإن طريق ذلك هو الاستغفار.. ويا للعجب!.. ما الارتباط بين المطر وبين الاستغفار؟..
نعم، هذه هي بركات الإنابة إلى الله عز وجل، {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا}.. فنحن عندما نلتزم بالشريعة، لا لأجل حيازة المقامات الأخروية فحسب!.. وإنما في الدنيا تنتظم أمورنا أيضا.. ولهذا يقال: إن الذي ابتليَ بعدم الذرية، وبعدم الإنجاب، فليستغفر ربه؛ فإن ذلك من طرق حيازة الذرية.. فالقرآن وعد بذلك عندما قال بأن ذلك من موجبات الإمداد بالبنين.. معنى ذلك أن الكوارث الطبيعية، من الجدْب وما شابه ذلك من روافد الذنوب المتتابعة.. وهذه الأيام هناك كثرة في الكوارث الطبيعية، قال الرضا (ع): كلّما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون، أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون.
{وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ}.. وكذلك إن كنتم تريدون القوة العسكرية والاقتصادية، فعليكم بالإنابة إلى الله تعالى، {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}.. إنها مفاهيم راقية من التوحيد، ومن الدعوة إلى الإنابة، من وعد بالحياة السعيدة، عندما يعود الإنسان إلى ربه.
ولكن اسمعوا إلى جوابهم السخيف، كسخافة باقي الأمم والأجيال: {قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}.. إن الرجوع إلى الماضي، وإلى السلف، وإلى الموروث، وإلى ما تعارف عليه الناس.. هذا ما كان يواجه الأنبياء أثناء دعوتهم لله تعالى، {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ}.
ثم انظروا إلى العزة الإلهية!.. {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم}.. أي أنا وكيلي رب العالمين، ربي وربكم، ثم يقول: {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.. لِمَ أخاف منكم؟.. فكل ما يدب على وجه الأرض بيد رب العالمين، إن أراد أن يأتيني بخير من هذه الدواب صرف إليَّ الخير، وإذا أراد أن يدفع عني الشر من هذه الدواب، صرف عني شر الدواب: إنسهم وجنّهم وبهيمتهم، لأن النواصي بيده.. انظروا إلى حالة العزة والاستقلالية والاطمئنان القلبي الذي يعيشه كل نبي، ومنهم نبي الله هود.
ثم قال: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}.. لا تهمني النتيجة، عليَّ أن أؤدي رسالة ربي، وأنتم عليكم العمل بالتكليف.. إن هذه قاعدة جميلة في الدعوة إلى الله، أي أن لا يجعل الإنسان عينه على الأهداف.. إنما عليه أن ينظر إلى تكليفه، ويؤدّي ما عليه تجاه الذرية والأسرة والمجتمع، ثم يفوّض الأمور إلى الله تعالى.
{فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}.. والختام هو الختام، ختام قوم صالح: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}.. وهكذا فإن يد العناية الإلهية، ترفق بالمؤمنين في أشد الأحداث، وفي أعظمها ثقلا على النفوس، حيث تأتي لتنتشل المؤمن في أشد الأزمات سواء في نفسه، أو في بدنه، أو في قومه.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.