اصطلاحات..
إن هناك عدة اصطلاحات تطلق على الإنسان الذي لا يقول الحقيقة، وهي: الكاذب، الكذاب، والموري.. أي هناك كذب، وهناك إنسان يمارس الكذب بشكل متواصل، وهناك إنسان يستعمل التورية.. والتورية ليست كذباً، إنما هي كلام ذو وجهين، الطرف المقابل يفهم أحد الوجهين؛ وهذا ليس بكذب.. ولو دار الأمر بين الكذب والتورية؛ فإن المؤمن يقدم التورية، وهذا له مصاديق وأمثلة في العبارات، وفي التاريخ، بل وحتى في القرآن الكريم على رأي!..
الفرق بين الكاذب والكذاب..
أولاً: الكاذب.. هو الإنسان الذي يكذب مرة لمصلحة؛ هذا يسمى كاذباً ولا يسمى كذاباً.
ثانياً: الكذاب.. هو الإنسان الذي يمارس الكذب بشكل متواصل وبكثرة، إلى أن يصل لدرجة يصبح الكذب طبعاً له.. فلا يُقبل منه شيء، حتى لو قال صدقاً!..
١. عن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): الكذاب هو الذي يكذب في الشيء؟.. قال: (لا، ما من أحد إلا يكون ذاك منه، ولكن المطبوع على الكذب)..
-(ما من أحد إلا يكون ذاك منه).. أي كل إنسان قد يصدر منه ذلك بين وقت وآخر، كأن تسأل الزوجة زوجها: أين كنت؟.. فلو قال الحقيقة، من الممكن أن تغضب عليه!.. لذا، فإنه يقول كلاماً فيه كذب؛ ولكن هذا ليس بكذاب!..
-(ولكن المطبوع على الكذب).. أي الذي صار الكذب له طبعاً!.. فبعض الناس طبعه أن: يمزح، أو يكذب، أو يغتاب؛ ولكن هذه المرحلة جداً خطيرة!.. والوصول إلى مرحلة الطبع، يأتي من تكرار العمل إلى درجة تجعل الإنسان يفقد قبحه، فإن قيل له: يا فلان، أنت كذاب؛ فإنه يضحك وكأن هذه الصفة صفة غير قبيحة!.. بينما المؤمن يغضب إذا وصف بهذه الصفة، ويعتبرها تهمة وفرية؛ لأن هذا بخلاف طبعه!..
٢. سُئلَ الصّادقُ (عَلَيهِ الّسَلامُ) عنِ القُصّاصِ: أيَحِلُّ الاستِماعُ لَهُم؟.. فقالَ: (لا)، وقالَ (عَلَيهِ الّسَلامُ): (مَن أصغى إلى ناطِقٍ فَقَد عَبَدَهُ: فإن كانَ النّاطِقَ عن اللّهِ؛ فقد عَبَدَ اللّهَ.. وإن كانَ النّاطِقَ عن إبليسَ؛ فقد عَبَدَ إبليسَ).. إن هذه الرواية هي من زمان الأئمة (عليهم السلام) ولكنها أنسب رواية يمكن أن تنطبق على الفضائيات الفعلية الآن!..
-(سُئلَ الصّادقُ (عَلَيهِ الّسَلامُ) عنِ القُصّاصِ: أيَحِلُّ الاستِماعُ لَهُم)؟.. تلك الأيام لم يكن هناك وسائل إعلام مرفهة، بل كان هناك جماعة يجلسون ويقصون القصص، مثل قصص: “كليلة ودمنة”، و”ألف ليلة وليلة”.. هؤلاء كانوا بمثابة التلفاز؛ شخص يتكلم والجالسون يتصورون ما يسرده عليهم، كأنه فيلم سينمائي ولكن في الخيال!..
-(فقالَ: “لا”).. هنا عدم الحلية، ليست بالضرورة بنحو الحرمة القطعية!..
-(وقالَ (عَلَيهِ الّسَلامُ)).. هذه الرواية ليس معلوماً إن كان قالها مباشرة، أو في مناسبة أخرى!..
-(مَن أصغى إلى ناطِقٍ؛ فَقَد عَبَدَهُ).. هذا القصاص، أو بطل الفيلم، أو الممثل في التلفاز -ما شئت فاعبر- عندما يصغي إليه الإنسان؛ فقد عبده.. وبعض من يشاهد التلفاز، إن كلّمه أحد لا يسمعه، بل لا يشعر به؛ لانشداده إلى هذا الجهاز الذي يمكن تشبيهه بالصنم في البيوت.. وبما أن الرواية تقول: (مَن أصغى إلى ناطِقٍ؛ فَقَد عَبَدَهُ) فإن هذا الإنسان عابد للتلفاز، مثلما كانت قريش تعبد: هبل، ومناة، واللات، والعزة؛ هو الآن يعبد هذا الجهاز.
أنواع البطانة..
إن لكل إنسان في حياتنا الاجتماعية بطانة يأنس بها، وقلّ ما يخلو إنسان من صديق.. وهذه البطانة على أقسام:
١. بطانة السوء: إن قسماً من الأصدقاء هم بطانة سوء؛ وهؤلاء كثيرون هذه الأيام!..
٢. بطانة لمنفعة دنيوية: إن هناك قسماً من الأصدقاء، يتخذهم الإنسان سلماً لمنافعه الدنيوية؛ كأن يكون صديقه إنساناً وجيهاً، فيستفيد من وجاهته ومن وساطته في الدوائر الحكومية مثلاً!..
٣. بطانة لمنفعة مالية: إن بعض الناس لهم ذكاء اجتماعي؛ فيعاشر إنساناً سنة أو سنتين: يسافر معه، ويدعوه إلى بيته؛ ولا يطلب منه شيئاً.. وبعد أن تستحكم المودة، يبدأ بالمطالب.. فإذن، هو يصادقه ليستفيد من أمواله، ولكنه لو قام بمطالبته من أول يوم؛ لكان الأمر مفضوحاً!..
٤. بطانة صالحة.. وهي أن يؤاخي المؤمن إنساناً ويصادقه: لا حاجة إلى دنياه، ولا طمعاً في شيء؛ وإنما يحبه لله، وفي الله عز وجل!.. لا ينظر إلى جيبه، بل ينظر إلى قلبه المستنير بنور الله عز وجل!.. فحبه لله، يدعوه لحب أحبائه، ومن يحبه.. فهنيئاً لمن كان بهذه المثابة!.. هذا الإنسان عندما يرتب سلم الأصدقاء والأخوان، يضع هذه الآية الكريمة نصب عينيه: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، يجعل هؤلاء في الخانة الأولى، ولو كان هذا الإنسان بعيد النسب، ثم الأمثل فالأمثل!.. رحم الله دعبل عندما وقف أمام الإمام الرضا (عليه السلام) قائلاً:
أحب قصي الرحم من أجل حبكم *** وأهجر فيكم زوجتي وبناتي
ثمرات الحب في الله..
أولاً: بناء برج في الجنة.. إن المؤاخاة في الله عز وجل، تكون: إما رسمياً كما في عيد الغدير، أو إيمانياً بلا عيد الغدير.. فهذا أيضاً أخ، وإن لم يستفد منه درهماً طوال عمره، ولكنه زاد للآخرة، روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (مَنِ اتَّخَذَ أَخًا فِي اللَّهُ؛ بُنِيَ لَهُ بُرْجٌ فِي الْجَنَّةِ)..
-(مَنِ اتَّخَذَ أَخًا فِي اللَّهُ).. أي من اكتسب أخاً جديداً.
-(بُنِيَ لَهُ بُرْجٌ فِي الْجَنَّةِ).. إنها رواية طريفة، فأهل الدنيا: بعضهم يتمنى أن يكون له بيت ملك، وبعضهم يتمنى أن يكون له برج بمئة طابق، في هذه الرواية وردت كلمة البرج.. فبالإضافة إلى ما له، يُبنى له برج في الجنة.. وشتان ما بين أبراج الدنيا، وأبراج الآخرة!.. فأبراج الدنيا في يوم من الأيام يجعلها رب العالمين قاعاً صفصفاً، كما ورد في قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا﴾، في ذلك اليوم: ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ﴾؛ ولكن البرج في الجنة؛ هذا برج أبدي!.. بالإضافة إلى أن رب العالمين، يعطي كل إنسان ما يريد، وإن كان برجاً بآلاف الطوابق!..
ثانياً: النظر إلى وجهه عبادة.. إن من بركات هذا الأخ المؤمن، إذا جلس معه في مجلس، ولم يتحدث إليه؛ فإن النظر إلى وجهه يكفي.. عن رسول الله (ص) أنه قال: (النظر إلى الأخ، توده في الله عز وجل؛ عبادة).. فإذن، إن العبادة ليست في النظر إلى الأبوين وإلى وجه العالم؛ إنما النظر إلى الأخ في الله عز وجل؛ عبادة أيضاً!..
ثالثاً: التذكير في الله.. إن النظر إلى وجه المؤمن، يُذكّر بالله عز وجل!.. قال الحواريون لعيسى (عليه السلام): (يا روح الله!.. مَن نجالس؟.. قال: مَن يذكّركم الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويرغّبكم في الآخرة عمله).. بعض المؤمنين وجوههم بالمقاييس الجمالية، ليست جميلة، ليست كجمال يوسف (عليه السلام)؛ ولكن فيها ملاحة!.. فبعض كبار السن بشيبتهم لهم جمال آخاذ -في عيون المؤمنين- أجمل من الشباب الذين لهم جمال!..
رابعاً: الشفاعة.. إن من بركات المؤمنين، شفاعتهم يوم القيامة، في الرواية قال أبو عبدالله (عليه السلام): (استكثروا من الأخوان؛ فإن لكل مؤمن شفاعة يوم القيامة)؛ وهذا شيء مهم جداً!.. فالإنسان المتورط في عرصات القيامة، التي حسناته متساوية مع سيئاته، يكون في الأعراف -التي هي منطقة وسطية- فينظر إلى أهل الجنة ويرى ضحك المؤمنين، فيطمع في دخولها، ويسمع زفير جهنم؛ فيعيش العذاب النفسي، يقول تعالى: ﴿..وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾، في هذه اللحظات يأتيه الأخ المؤمن، ليأخذ بيده!.. بل قد يؤمر بالعبد إلى النار، فيأتي هذا الأخ المؤمن، ويتشفع له قائلاً: يا رب، هذا أخي في الدنيا، طالما دعاني إلى بيته، وطالما أكلت من زاده؛ فكيف يدخل نار جهنم؟!.. روي عن النبي (ص): (يقول الرجل من أهل الجنة يوم القيامة: أي ربي، عبدك فلان سقاني شربة من ماء في الدنيا؛ فشفعني فيه!.. فيقول: إذهب فأخرجه من النار!.. فيذهب فيتجسس في النار؛ حتى يخرجه منها..).
آداب معاشرة الأخوان..
أولاً: التواصل.. إن هذه الرواية قالها أمير المؤمنين، ويعسوب الدين (عليه السلام)، كلهم أصحاب حكم، ولكن غرر حكمه تبهر العقول، يقول (عليه السلام): (رُبَ أخ ٍلك لم تلده أمك)!.. هناك من لا يزور أخاه ولا يراه لمدة سنة -وهذا خطأ- ولكن إذا غاب عنه أخوه في الله أسبوعاً؛ فإنه يحنّ إليه، ويشتاق إلى صوته.. هذه هي الأخوة في الله: إذا اتخذ الإنسان أخاً في الله؛ لا يجفوه، بل يزوره دائماً؛ لأن (الجفاء يُفسد الإخاء) كما قال الإمام علي (عليه السلام).. ولهذا يقول عند التآخي في الغدير: (قبلت، وأسقطت عنك جميع حقوق الأخوة، ما خلا الشفاعة والدعاء والزيارة).
ثانياً: عدم التكلف.. إن المؤمن خفيف على القلب، فإن أتى إلى منزل أخيه المؤمن، وأُعطي خبزة يابسة؛ فإنه يقبل منه ذلك، ولا مشكلة في البين، عن علي (عليه السلام): (شر الأخوان؛ من تكلف له).. أي أن الإنسان الذي يدعو أخاه ويخاف من كلامه إن قصر في إطعامه؛ لأنه قد يصفه بالبخل مثلاً؛ هذا شر الأخوان!..
ثالثاً: الاحترام.. إن من آداب المعاشرة مع الأخوان، عدم إسقاط الحشمة.. فمن يسافر مع أخيه المؤمن سفرة طويلة، عليه ألا يمزح معه كثيراً، ولا يُسقط الحدود بينهما.. بل عليه أن يجعل شيئاً من الأدب في التعامل معه، فلا يمزح مع أخيه بيده مثلاً: كأن يضربه ضرباً خفيفًا أو ما شابه؛ فهذا ليس بالأمر الطيب!.. قَالَ الإمامُ جَعْفَر بن محمد الصَّادق (عليه السَّلام): (لَا تُذْهِبِ الْحِشْمَةَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَخِيكَ، وَأَبْقِ مِنْهَا!.. فَإِنَّ ذَهَابَ الْحِشْمَةِ؛ ذَهَابُ الْحَيَاءِ.. وَبَقَاءَ الْحِشْمَةِ؛ بَقَاءُ الْمَوَدَّةِ)؛ الحشمة تعني حدود الأدب، أي لا تسترسل معه كثيراً.. ولهذا بعض المؤمنين إذا زاره أخ قريب، لا يجلس معه بثياب النوم، بل يذهب ويتأنق؛ حفاظاً على الحدود والآداب.
رابعاً: المحبة.. إن الإنسان بعض الأوقات لا يعلم إن كان هذا الإنسان يحبه أم لا؟.. يقول الإمام عليّ (عليه السّلام): (سَلُوا القُلوبَ عَنِ المَوَدّاتِ؛ فَإِنَّها شَواهِدُ لا تَقبَلُ الرُّشا)؛ أي؛ انظر إلى قلبك؛ إنه شاهد، وهذا الشاهد لا يقبل الرشوة!.. القلب إذا أحب إنساناً؛ فإن هذه علامة على أن هناك مودة بين القلبين.. عن صالح بن الحكم: سَمِعتُ رَجُلاً يَسأَلُ أبا عَبدِاللهِ (عليه السّلام)، فَقالَ: الرَّجُلُ يَقولُ: أوَدُّكَ، فَكَيفَ أعلَمُ أَنَّهُ يَوَدُّني؟.. فَقالَ: (اِمتَحِن قَلبَكَ، فَإِن كُنتَ تَوَدُّهُ؛ فَإِنَّهُ يَوَدُّكَ).
خامساً: قبول العذر.. إن الشيطان دائماً بالمرصاد، يقول تعالى: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا﴾.. فالمؤمن الذي يخدعه الشيطان، ويخطئ بحق أخيه الذي يعاشره منذ عشرين سنة ويقول كلاماً لا يليق بحقه؛ عليه أن يعتذر، وعلى الطرف الآخر أن يقبل منه ذلك.. جاء في البحار للعلامة المجلسي: (ملعون!.. ملعون!.. رجل يبدأه أخوه بالصلح؛ فلم يصالحه).. بينما بعض الناس يقطع عشرة ثلاثين سنة، بسبب هذا الخطأ رغم أنه يأتي إليه نادماً، ويطلب منه المغفرة، ولكنه لا يغفر له، بل يردد هذه الآية ﴿..هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾!.. لماذا هذا الفراق، إن جاء معتذراً؟.. ويمكن تطبيق هذه الرواية على الخلافات الزوجية أيضاً: فالمرأة التي تذهب إلى بيت أبيها دون عذر، ومع ذلك يذهب الزوج، ويدوس على كبريائه، ويطرق باب المرأة، ويعتذر؛ وإذا بها ترفض الاعتذار!.. والعكس أيضاً صحيح: امرأة أخطأت بحق زوجها خطأ كبيراً، ولكنها ندمت، وبعثت بعشيرتها، وبأخوانها؛ فيرفض الاعتذار.. والحال أن الرواية تقول: ملعون ملعون من أخذ هذا الموقف!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.