– إن صلاة الليل كانت فيما مضى من الأيام وقفاً على الصلحاء والعباد في الحوزات!.. فالبعض من الشباب يكتفي بالمفروض من العبادات: الصلاة، والصوم، وحج البيت، ودفع خمس ما يزيد من الأموال.. ويقول: نحن الشباب ما شأننا وصلاة الليل، والمناجاة وغير ذلك؟!.
– إن كل مكلف مطالب -بحسب منطق الشريعة- بالسير في الحركة التكاملية، والتقرب إلى الله -عز وجل-.. فالصيام يجب علينا من باب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وهذه الآية تعمم على كل مسلم ومسلمة، حتى البنت في تمام التاسعة من عمرها، لأن الآية مطلقة الخطاب.. فلماذا عندما يصل الأمر إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}، فإن ذهننا ينطلق إلى العلماء والحوزات، وغير ذلك {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ..}؟!..
– إن الخطابات القرآنية المتوجهة للنبي (ص)، هي متوجهة لكل المؤمنين: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا}، لأنه لو كان هذا الخطاب خاصاً بين الله وبين نبيه، لما أنزلها آية في القرآن الكريم!.. يقول العلماء في فضل صلاة الليل: يكفي أن القرآن أبهم الجزاء!.. فلم يذكر جزاءً محددا: لم يذكر حوراً، ولا قصوراًً.. بل أبهم الأمر فقال: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا}، واستعمال النكرة هنا لتفخيم الأمر!.. لم يقل: المقام المعلوم، ولم يقل: مقعد الصدق عند المليك المقتدر.. بل جعله مفتوحاً ليتزود كل واحد منا من هذا المقام المحمود، بحسب إتقانه لصلاة الليل.. وصلاة الليل التي كان يقوم بها النبي الأكرم -صلى الله عليه وآله وسلم- لا تقاس بصلاة ليلنا نحن!.. وبلغ من أهمية صلاة الليل في حياة الملحقين بالأئمة (ع) كمولاتنا زينب الكبرى (ع)، أنها في ليلة الحادي عشر من المحرم، وقد رأت ما رأت من المصائب والرزايا، ومع ذلك تجلس على صعيد كربلاء، وهي تشم رائحة الدماء الطاهرة، لتصلي صلاتها من جلوس!..
– إن باب الترقي والتعالي مفتوح على الجميع، فلماذا يُعطي أحدنا لنفسه الإجازة من هذه المراتب الكمالية؟.. فهل الموت للعلماء فقط؟.. وهل البعث والحشر للعلماء فقط؟.. فالبعض هذه الأيام يحاول أن يبذل قصارى همته، ليختار أفضل الجامعات، وأفضل التخصصات.. ويتمنى عندما يمر على بعض القصور، أن يكون له مثل هذا القصر!.. فالإنسان في هذه الحياة الدنيا له أمنيات عريقة، والبعض من الشباب يتمنى الزواج بفتاة لا يمكن أن تُنال بسبب الفوارق الطبقية مثلا، ومع ذلك يعيش هذه الأمنية والهاجس.. ولطالما سببت هذه الأماني التي لا تحقق، حالة الاكتئاب وغير ذلك، إلى حد الجنون لدى البعض.
– إن الإنسان في الحياة الدنيا لديه طموحات فوق القدرات الظاهرية، فلماذا في كف الآخرة لا يكون لنا مثل هذا الطموح؟.. وخاصة أن القرآن الكريم، يتعمد ذكر عينات في تاريخ الأنبياء والأمم السالفة، ممن ليسوا بأنبياء ولا بأوصياء.. فآسيا زوجة فرعون من فراعنة العصر، وأما مريم امرأة فضلها أن أمها نذرت ما في بطنها محرراً.. ولكن الله -عز وجل- تقبلها وأنبتها نباتاً حسناً، وجعل لها أستاذاً.. وللذين يشكلون أن الحركة لا يمكن من دون أستاذ، نقول: بأن رب العالمين هو المربي، وهو الذي يلقي في الروع، ويربط على القلب، كما حدث مع أهل الكهف {فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}، فهؤلاء الفتية عندما آمنوا، زادهم الله هدى، ولم يبعث لهم أنبياء ومرسلين.. وكان يرافقهم كلب لهم، فهذا الكلب أيضاً شملته الكرامة الإلهية، فنام معهم تلك النومة.. فأهل الكهف هم {فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ}، ولكنهم تحركوا: آمنوا واعتزلوا قومهم.. {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِه ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا}، فهؤلاء صدقوا في الحركة.
– إن وسائل التثقيف والترقي العلمي في هذه الأيام، أرقى من السنوات الماضية: حيث الكتب، والمؤلفات، والفضائيات، والمواقع.. فالمعلومات كافية جداً.. وقد قال الباقر (ع): (من عمل بما يعلم، علمه الله ما لا يعلم).. فإذاً، لنتخذ إلى الله سبيلاً.. نحن لا نريد أن نسلك مسالك الفرق الصوفية، وأهل الأذكار، والصوامع!.. نحن نريد أن تكون لنا حركة إلى الله -عز وجل- مراقبة في القول والفعل، وتركاً للحرام، وأداءً للواجب.. إن رب العالمين لا يريد شهادات حوزوية، ولا يريد من الإنسان أن يذهب إلى رأس جبل ويعتكف!.. بل يريد منه صدقاً في دعاءٍ، أو في مناجاة فمن واصل طرق الباب، لابد أن يفتح له!..
بعض النقاط العملية في هذا المجال:
أولاً: النية.. إن على الإنسان أن يعزم على القيام لصلاة الليل؟!.. والنية من أبسط الأمور في هذه الدنيا، ولا تحتاج إلى حركة.. فقط بإمكان الإنسان أن يقول: “يا رب!.. إن أيقظتني هذه الليلة لصلاة الليل، فلك عليّ أن أصلي لك”.. فلو نوى الإنسان هذه النية أربعين سنة، فإنه -بإذن الله تعالى- سيحشر يوم القيامة، وقد كتب في ديوان عمله صلاة الليل.. وذلك بناء على ما قاله النبي (ص): (نية المرء، خير من عمله).. وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -تبارك وتعالى- قال: (إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك: فمن هم بحسنة فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة.. وإن هم بها فعملها، كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة…).
– إن الذي ينوي قيام صلاة الليل، أو صلاة الفجر، فيستيقظ وهو متألم؛ فإنه سيعطى من الأجر ما لا يعطى الذي قام الليل.. وذلك لأن الله –عز وجل- يقول: (يا آدم!.. أنين المذنبين أحب إلينا من تسبيح المرائيين).. فهذا الإنسان عندما يستيقظ صباحاً، وينظر إلى الشمس الطالعة، فينكس رأسه ويقول: يا رب اغفر لي!.. لعلك البارحة رأيت مني شيئاً، فحرمتني صلاة الليل!.. جاء رجلٌ إلى أمير المؤمنين (ع) فقال: إني قد حُرمت الصلاة بالليل، فقال (ع): (أنت رجل قيدتك ذنوبك).. وعن أبي عبد الله (ع): (إن الرجل ليكذب الكذبة، فيحرم بها صلاة الليل.. فإذا حرم صلاة الليل، حرم بها الرزق).. ورب العالمين لا يُحب للإنسان أن يكون عاطلا عن العمل، ويعز عليه -عز وجل- أن يرى عبده المؤمن، وهو يعيش ذلة المعيشة، ويمد يديه إلى الغير، ويشكو أمره إلى لئام الناس.. فالمؤمن شأنه عند الله أعظم من الكعبة، وقد ورد: (إذا رأيت قساوة في قلبك، ووهنا في بدنك، وحرمانا في رزقك.. فاعلم أنك تكلمت فيما لا يعنيك).. إذا كان الإنسان عبدا لله -عز وجل-، كما أن الجنين عبد في تقلباته: مستسلماً لله -عز وجل-، لا يعصي الله في بطن أمه: لا يرى حراماً، ولا يسمع حراماً، ولا ينطق بحرامٍ، وإنما وجودٌ طاهر مطهر.. ومن هنا رزق في بطن أمه من خلال المشيمة، والحليب في ثديي أمه؛ لأنه نور بريء معصوم بمثل هذه العصمة، وهذه البراءة.
ثانياً: عدم تحميل النفس ما لا تطيق.. إن سياسة الشريعة قائمة على التيسير {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، فالنبي (ص) جاء بالشريعة السمحة السهلة.. فمثلا: الإنسان المسافر: لا يصوم، ويقصر في صلاته.. إذا أردت أن تستذوق صلاة الليل، وكنت تستكثر الركعات الطويلة بحسب الظاهر!.. حاول أن تكتفي بالشفع والوتر، وحاول أن تُحسن من كيفية هذه الصلاة لا من كمها.. أي إنك في قنوت صلاة الليل، انطلق في الحديث مع الله -عز وجل- من خلال الدعاء المأثور، تلاوةً من كتاب الدعاء، أو حفظا.. ثم كلمه بما تُحب.. فهو أقرب إلينا من حبل الوريد!..
ثالثا: إطالة السجود.. حاولوا أن توجدوا أُنساً لصلاة الليل من خلال إطالة السجود، عن أبي عبد الله -عليه السلام- أنّه قال: (مرَّ بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- رجل وهو يعالج بعض حجراته، فقال: يا رسول الله، ألا أكفيك؟.. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: شأنك، فلما فرغ، قال له رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: حاجتك؟.. قال: الجنة، فأطرق رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم قال: نعم، فلمّا ولى قال له: يا عبدالله، أعنا بطول السجود).
– إن سلمان الذي هو أفضل صحابة النبي (ص)، والشخصية الأولى في الإسلام، والذي قال عنه النبي (ص): (سلمان منا أهل البيت).. يقول: (لولا السجود لله، ومجالسة قوم يتلفظون طيب الكلام، كما يتلفظ طيب التمر.. لتمنيت الموت).. يقول عليٌّ -عليه السلام- في نهج البلاغة: (ولولا الآجل الذي كتب الله عليهم، لم تستقر أرواحهم في أبدانهم طرف عين أبدا)!.. فالمؤمن وهو في الحياة الدنيا، يرى بعض صور النعيم (هم والجنة كمن قد رآها، فهم فيها منعمون)، والمؤمن لا يأنس إلا بالله، أو بالمؤمن.
– إن للسجود ملكوتا، وهذه الملكوت روحية، تُدرك ولا توصف.. هنالك مرحلة تسمى بالموت الاختياري، أو ما يسمى بخلع الروح.. فالإنسان في حالة السجود، وبعد فترة من المراقبة، والمواصلة، والمشارطة، وما شابه ذلك من حركة روحية.. يخرج من بدنه، لا خروجاً حقيقياً، بل يسيح في عالم آخر.. وهذه السياحة جداً جميلة ورخيصة، ولا تحتاج إلى حجز تذاكر، ولا إلى طلبِ تأشيرة، وبعض الأوقات تطول.. وفي حياة أئمة الهدى -عليهم السلام- الأمر كان عادياً.. كان الإمام الكاظم (ع) يسجد من الصباح إلى الزوال.. وعندما دخل السجن، شكر الله -عز وجل- لأنه كان يعيش اللذائذ التي لا تقارن!.. فأين لذائذ هارون في لياليه الحمراء، وأين لذائذ موسى بن جعفر في أغلاله!.. والمؤمن الذي يعتاد هذه السياحة، يكون قد وصل إلى قمة المتعة في هذا الوجود.. وإذا كان الله -عز وجل- مع الإنسان في كل لحظة من اللحظات، فإنه لا يستوحش.
رابعا: الاستغفار.. إن هناك محطتين للاستغفار في اليوم: استغفار صلاة العصر سبعين مرة في المحطة النهارية، والاستغفار سبعين مرة في جوف الليل في الوتر.. قال رسول الله (ص): (لكل داء دواء، ودواء الذنوب الاستغفار).. فالاستغفار يمحو الذنوب، وإن لم يقصده العبد لذنب معين.. فهو كالاستحمام الذي يذهب الدرن، ولو لم يكن صاحبه قاصدا ذلك.. والمؤمن الذي يلتزم بهاتين المحطتين، يخرج نظيفاً، ويبقى على طهارةٍ دائمةٍ.
خامسا: قضاء صلاة الليل.. إن الإنسان الذي فاتته صلاة الليل، يستحب له أن يقضيها، ولو على مستوى الشفع والوتر.. وإذا لم يكن لديه مزاجٌ أن يصلي صلاة الليل، فليقرأ القرآن، أو ليتفكر ويتدبر!.. وليقرأ هذا الدعاء: (إلهي!.. تعرض لك في هذا الليل المتعرضون، وقصدك فيه القاصدون، وأمّل فضلك ومعروفك الطالبون.. ولك في هذا الليل نفحات وجوائز وعطايا ومواهب، تمن بها على من تشاء من عبادك، وتمنعها من لم تسبق له العناية منك.. وها أنا ذا عبدك الفقير إليك، المؤمل فضلك ومعروفك.. فإن كنت يا مولاي تفضلت في هذه الليلة على أحد من خلقك، وعدت عليه بعائدة من عطفك.. فصلّ على محمد وآله الطيبين الطاهرين الخيرين الفاضلين، وجد علي بطولك ومعروفك يا رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وآله الطاهرين، الذين أذهب الله عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا.. إن الله حميد مجيد.. اللهم إني أدعوك كما أمرت، فاستجب لي كما وعدت، إنك لا تخلف الميعاد).. ثم فليقل: “يا رب!.. في هذه الليلة إمامنا صاحب الأمر والزمان، صلى صلاة الليل، فأشركني في صلاته”، ويدعو له بالفرج!.. يقول أحد العلماء: التزموا بالدعاء لفرج الإمام مع كل آذان، لأن أبواب السماء تفتح مع كل آذان.. ويطلب منه أن يشركه في صلاته، فالنبي الأكرم (ص) شارك صحابي في مقامه في الجنة بعد قيامه بأمرٍ بسيط.. فكيف بإمامنا صاحب الأمر -عليه السلام-، ألا يُشركه في عمله إذا كان من الباكين عليه، والنادبين له في صلاة الجمعة، والداعين له في كل قنوت، والمقيمين لعزاء جده الحسين -عليه السلام-؟!.. لابد أن الرعاية سوف تشمل هذا الإنسان الموالي!.
سادسا: مستحبات القيام لصلاة الليل.. إن من التوصيات للتوفيق لقيام الليل: هو قراءة الآية الأخيرة من سورة الكهف قبل النوم: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}.. وقال النبي (ص): (من أراد شيئاً من قيام الليل، وأخذ مضجعه فليقل: “بسم الله، اللهم!.. لا تؤمني مكرك، ولا تنسني ذكرك، ولا تجعلني من الغافلين.. أقوم ساعة كذا وكذا”.. إلا وكل الله -عز وجل- به ملكاً نبهه تلك الساعة)؛ أي بمشيئة الله يلقن نفسه، أن يستيقظ في الساعة الكذائية.. وعلى فرض أنه لم ينتبه، ثم قضى صلاة الليل بالنهار؛ أيضا سيكون من الفائزين، إذا علم الله -عز وجل- ذلك من نيته.. ومن مستحبات ما قبل النوم: الوضوء، وقراءة آية الكرسي، وقراءة سورة الإخلاص ثلاث مرات، وقراءة سورة الفاتحة أربع مرات.. وبهذه الحركات الذكية، يحول الإنسان نومه في كل ليلة إلى عبادة.. نعم، فكما قال الهادي (ع): (الدنيا سوق: ربح فيها قوم، وخسر آخرون).
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.