Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

إن من الظواهر الإيجابية هذه الأيام أنه بعد المحاضرة أو بعد الحديث، تصبح هناك تساؤلات، وهذا شيء جيد.. لا بأس، أن الإنسان عندما يسمع محاضرة أو حديث جمعة، أن يحاول أن لا يبقي عنده تساؤلاً من دون جواب.. ليطرحْ ما في باله من السؤال: (العلم مخزون عند أهله، فاقتبسوه من مظانه).. فإن المؤمن موجود مفكر، ويسأل ويحقق.

هناك مجموعة تساؤلات من الأخوة، نجيب عليها هذه الليلة.. وأعتقد أنه أمر حسن أن نجيب على الشبهات والإشكاليات، في هذا المجال..

س ١/ هل المرأة بإمكانها أن تتميز في سلوكها إلى الله عزوجل، باعتبار أنها تخضع لقيود :

أولاً: أن المرأة محكومة للرجال.. ولا يخفى أن ليس كل الرجال على مستوى مساعد لذلك.. إذ هنالك بعض الرجال متحكمون، ويقيدون المرأة في الذهاب والإياب.

وثانياً: طبيعة عمل المرأة.. لا خلاف في أن طبيعة عمل الرجل أكثر جدية من المرأة.. فالمرأة المتصدية لشؤون المنزل عملها محصور في أمور الطبخ والغسيل والتنظيف… إذن، قضايا غير جادة جداً في الحياة، بخلاف الرجل.. وذهاب المرأة للأماكن العامة ليس كالرجل، والرجل مواظب على الجمعة والجماعة، ويزور العلماء وجهاً لوجه.. كل هذه مزايا للرجل بالنسبة إلى المرأة.. فهل يمكن للمرأة أن تتميز في هذا الطريق؟..

نحن نعطي الحق للمرأة أنه بالفعل هناك بعض القيود.. ولكن أقول لأخواتي المؤمنات: ما من منقصة إلا وبجوارها إيجابية.. فبالإضافة إلى هذه السلبية، هنالك إيجابيات في المرأة، لا ينبغي أن نغفل عن هذه الإيجابيات، منها:

أولاً: المرأة موجود عاطفي.. من المعلوم أن عاطفة الأمومة لا تقاس بعاطفة الرجولة.. وهذا يتبين جلياً عند فقد العزيز.. فمثلاً: عندما تموت الأم، فإنك تجد الفرق واضحا بين تأثر البنت والولد.. وفي تربية الطفل: الطفل عندما يمرض، فإن الأب يسعى في أخذه للطبيب، ولكن الأم تصيح وتضج وتبكي.. فإذن، هذه العاطفة مزية كبيرة.. العاطفة تعني رقة القلب، تعني التألم من حادث سلبي؛ وهذه طبيعة معروفة في النساء.. لهذا ترى المرأة بعض الأوقات تعمل حادثاً بسيطاً، فتخرج من السيارة وهي مذهولة؛ بينما الرجل قد لا يعيش أي ارتباك في نفس الحادث.

وعليه، فإن هذه الميزة -رقة القلب-، حركة إيجابية أو مادة خام، يمكن أن توجه.. أنا لا أقول: أن هذه الحالة العاطفية دائماً في جانب الإيجاب، ولكن هذه الرقة على المرأة أن توجهها.. هذا الطبق الذي نلتقط به الفضائيات طبق سليم، وهنالك جهاز -رسيفر- سليم، ولكن لأنه موجه في زاوية، فيلتقط قنوات محرمة.. ونفس الجهاز لو حركته إلى زاوية أخرى، بإمكانك أن تسمع العزاء الحسيني.. فالمادة موجودة، ولكنها تحتاج إلى تغيير زاوية.. والمرأة كذلك، هي عاطفتها قوية، جهازها يلتقط بشكل جيد.. ولهذا نحن عندما ندعى لمجالس المؤمنات، هناك مثلاً نعي بسيط، وإذا بأصوات البكاء يتعالى.. إذن، هناك رقة، وهذه الرقة ينبغي أن توجه توجيهاً صحيحاً.

وبالتالي، فإن المرأة التي تتوجه إلى عالم الغيب، تكون سرعتها أكثر من الرجال.. إن المرأة الرقيقة الفؤاد، إذا توجهت إلى إمام زمانها مثلاً، وإذا توجهت للنبي (ص)، وتوجهت لله عزوجل، فإن تفاعلها مع عالم الغيب أسرع من الرجال.. ومن هنا بعض الأوقات نلاحظ أنه عندما تتوجه المرأة إلى عالم الأخلاق والتهذيب النفسي، أنها تحتاج إلى كبح جماحها، لتخفف قليلاً.. لأن صلواتها أصبحت أكثر من الحد اللازم، والبكاء أكثر من الحد اللازم.. وهنا يأتي دور التوجيه اللاحق، لأن هذه أيضاً حالة خطيرة.. فالعاطفة المتأججة حالة إيجابية، ولكن ينبغي وضعها في دائرة صحيحة.

ولهذا بعض الرجال لا يسمحون لزوجاتهم بالتوجه الأخلاقي، لأنه يخشى إهمال الزوجة للبيت والزوج والأولاد.. لأن هذه المرأة تظن أنه عليها أن تنسى كل ما سوى الله!.. والحال بأن هذا خطأ!.. نحن نقول: بأن هنالك التفاتا إلى الخلق، ولكن بالحق، وليس عدم الالتفات نهائيا إلى الخلق!.. إن هذا خلاف المطلوب!.. هناك سفر من الخلق إلى الحق، وسفر من الحق إلى الخلق، وسفر من الخلق إلى الحق بالحق.. هناك استعانة بالله عزوجل في العيش مع الناس.

ثانياً: ضيق الدائرة الحياتية عند المرأة وقلة المشوشات.. نحن نقول: بأن الدائرة الطبيعية للمرأة تربية الأجيال، تربية أولادها، لأن هذا الولد هو رأس مالها إلى الأبد.. وليس وظيفتها الأولية أن تكون كاتبة في وزارة؟!.. هذه الوظيفة ماذا تقدم أو تؤخر في حياتها؟!.. ومن المعلوم أن الدافع أمران: قتل وقت الفراغ، وهذه الدريهمات التي تشتري بها حلياً وحللاً.. وإلا هي أيضاً تعترف أنها لا تستفيد ذاتياً من هذه الوظيفة، والتقدم في الجانب المالي، وأن وقت الفراغ مُلئ.. فإذا كان الغرض هو قتل الوقت، وكسب الدريهمات، فإن هذا ليس منطقا شرعيا!.. لو هي مضطرة: كأن مثلاً لديها وقت فراغ كثير، وإذا لا تعمل ستصاب بأزمة نفسية؛ فإن هذه مسألة ثانية، إذن دخلنا في موضوع العنوان الثانوي، العنوان الثانوي يرفع التكاليف.. ولكن الضرورات -كما يقال في الفقه- تتقدر بقدرها.. إذا كان الموت يرتفع بشرب نصف كأس من الخمر -باعتبار أن الخمر سائل-، فلا يحق للإنسان أن يشرب كأساً كاملاً، فإن الجائز له هو بمقدار ما يرفع الموت والعطش المميت.

وعليه، فإن الحياة البيتية للمرأة، حياة مثالية.. ثم إن الاحتكاك بالجنس المخالف، ظاهرة وحركة غير إيجابية.. لا ينبغي أن ننكر أن العلاقة بين الرجل والمرأة، كالعلاقة بين الحديد وحجر المغناطيس.. أنت عندما تجعل المغناطيس في جانب والحديدة في جانب آخر، قد لا يكون هناك أي تجاذب، ولكن عند الاقتراب لا يمكنك أن تقول للحديدة: لا تقتربي، وللمغناطيس: لا تجذب؛ فالتجاذب قهري.. يمكن أن تجعل بين الحديدة وبين المغناطيس ورقة؛ حائلاً بينهما، ولكن بمجرد أن ترفع الحائل تم الالتصاق.

مادام هنالك ضغط: ضغط العرف، وضغط الأمور، وضغط قوة الإيمان؛ فإنه من الممكن أن يمنع الالتصاق؛ ولكن بمجرد أن يرتفع يتم التلاقي.. هذا الذي نفهمه في روايات الأئمة وأهل البيت (ع): أن (ما خلا رجل وامرأة، إلا وكان الشيطان ثالثهما).. أي أن الشيطان هو الوسيط الذي يرفع الموانع.. فموجبات الالتصاق موجودة، وما يحتاج إلى شيء من الخارج، كل شيء جاهز.. والذي يمنع: الإيمان، والتقوى، والعفاف، والتربية البيتية، والخوف من الفضيحة… ومن هنا الشيطان يأتي ليخفف من هذه القيمة، موسوساً: أنه الآن من يدري؟!.. ومجال التوبة مفتوح؟.. وألف توجيه في هذا المجال يأتي.

فإذن، إن المرأة عندما تكون في دائرة ضيقة، فإنها تعيش حالة التركيز.. هي لا تخرج، تصلي صباحاً، وتقضي بين الطلوعين، وترتاح قليلاً، ثم تستيقظ لتدبر شؤون المنزل قربة إلى الله تعالى.. وهي بإمكانها أن تبحث عن برامج كثيرة، لملء أوقات الفراغ.. إن مشكلة الأخوات أنهن لا يمتلكن برنامجاً لوقت الفراغ، فلابد أن يملأ في الدواوين والمجالس والحسينيات، حيث في بعضها لا يتم التوجيه الصحيح.. إذن الحل ليس في العمل، وإنما الحل في البرمجة لسد ساعات الفراغ.

وإجمالاً: إن الباب مفتوح، والقرآن الكريم أيضاً يصرح: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى}.. أي أن صلاة الليل التي تقيمها الأنثى، هذه الصلاة لها دور في التكامل.

إن البعض قد يرى الرجولة شيئاً إيجابياً، لأن الرجل أقوى من المرأة، والرجل كذا وكذا، والرجل بإمكانه أن يصلي في كل الأوقات، والرجل يصوم في كل الأوقات…إلخ.. ولكن هذه من مزايا البدن: بدن الذكر يختلف عن بدن الأنثى.. ولكن الأرواح لم نسمع أحداً من العلماء قال: إن روح الأنثى تختلف عن روح الذكر.. أي أن المرأة روحها روح أنوثة، والرجل روحه روح رجولة.. الرجولة معالم في البدن.. حتى سمعنا -في عالم الطب، في بعض الحالات- تغيير الجنسية من ذكر إلى أنثى أو العكس.. إذن، الأرواح هي هبة إلهية، قذفت في البدن، وهذا الذي قذف في الجنين الذكري، أو الجنين الأنثوي، على حد سواء.

بالإضافة إلى أن الله عزوجل له لطف خاص بالنساء، كما ورد عن النبي الأكرم (ص): (إن الله لا يغضب لشيء كغضبه للنساء).. باعتبار أنها موجود رقيقة الوجود، لها عاطفة قوية، ولها دور في تكوين الوجود البشري.. ومن المعلوم أن دور الأب في تكون الإنسان لا يقاس بدور الأم.. صحيح، في التلاقح هنالك بويضة وحيوان منوي، ولكن لا تنس أشهر الحمل، تسعة أشهر من العذاب، هذا أليس له دور؟.. وكأن هذه المرأة تتحمل، لتحقيق الإرادة الإلهية.. رب العالمين أراد أن يوجد إنساناً، فقال للمرأة -طبعاً بلسان التكوين-: يا فلانة، تحملي هذا الجنين تسعة أشهر، حتى أنا كرب أكوّن إنساناً.. هذه ليست بسيطة.. هنالك جميل، يُشكر من قبل الله عزوجل.. إن (الجنة تحت أقدام الأمهات)، ليس جزافاً، لأنها كانت هي المتحملة لتحقيق الإرادة الإلهية.. إن رب العالمين أراد أن يوجد النبي الخاتم (ص).. هذه التسعة أشهر من حمل أمه آمنة، ألا يصب في هذا الاتجاه؟.. إن رب العالمين منّ علينا بالنبي الأكرم (ص)، عن طريق تحمل آمنة لحمل تسعة أشهر.. إن رب العالمين مّن علينا بوجود إمامنا المهدي -روحي له الفداء-، ولكن التي تحملت هذه الأشهر أمه سيدتنا نرجس (ع).. وليس فقط تسعة أشهر، بل كما يعبر القرآن الكريم: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا}.. وهنالك سنوات التربية، فإلى سن البلوغ وهي تتعب في هذا المجال.

ومن هنا هذه دعوة لأختي المؤمنة أن تتفاوض مع الله عزوجل.. لو أن إحدى المؤمنات ناجت الله عزوجل بهذه المناجاة، فإنها تصبح في طريق الولاية الكبرى!.. قولي: يا ربي، أنا سخرت نفسي لوجود من أردت وجوده، فامنن علي بأن تجعل وجودي تحت نظرك!.. أنا أيضاً في عالم الأرواح مثل الجنين.. يا رب، هذا الجنين أيضاً تكفله بالرعاية، كما تكفلت أنا برعاية الجنين الذي هو من اللحم والشحم!.. يا رب، تكفلني وأنا جنين في عالم الأرواح: لا كمال، ولا جمال، ولا وظيفة أعضاء!.. أنا روحي روح بسيطة.. روح قد تكون مشوهة أيضاً، قد تكون كالجنين المشوه، ولكن أنت يا رب أصلح هذا الأمر!.. نحن عندما ننظر للمرآة، ألا نقول: (اللهم حسن خُلقي، كما حسنت خَلقي).. فتخلص الجواب: إن المرأة المؤمنة من الممكن أن تتكامل بهذه المنطق.

س٢/ ماذا نعمل مع حالات الإقبال والأدبار ؟..

نحن في هذه العشرة ذكرنا الموت وما بعد الموت، والبعض بنى على أن يعمل شيئاً، ولكن بعد العشرة قلّت هذه الهمة، وهكذا بعد أيام محرم وصفر، وإذا بأحدنا يرجع إلى ما كان متشبثاً به!..

للتقريب نضرب هذا المثال:

إن الطفل بعد إكماله السنتين، نلاحظ أنهم يأخذونه بقوة عن صدر الأم، ويضعون بعض الأدوية المنفرة على صدر الأم.. ولكن بمجرد أن يغفل الطفل، وإذا به يهجم على صدر أمه مرة ثانية.. لأن هنالك أنسا، يجعل الطفل يعود إلى صدر أمه.. هذا الطفل متى يتقزز من صدر الأم؟.. عندما يصبح بالغاً، ويأكل الطعام الشهي من المطاعم الفاخرة.. عندئذ صدر الأم ما قيمته أصلاً؟!.. لو يعطى هذا الحليب في ظرف، قد يتقيأ ذلك الحليب، لأن طعمه طعم سيئ، وهو الذي كان متشبثا بصدر أمه لمدة سنتين!..

نحن أيضاً بالنسبة إلى تشبثنا بالدنيا، لأننا مأنوسون بصدر الدنيا، وبحليب الدنيا، هذا الحليب البسيط.. إن مشكلة الدنيا أنها مثل حليب الأم، لها طعم ثابت، ومتكرر.. أينما تذهب أكل وشرب ونوم، وحرير ومسك وعود.. إنما التنوع هو في عالم الأرواح.. كما أن التنوع في عالم الأغذية، قياساً إلى عالم الرضاعة.. فكيف إذا كان الطعام من الدم؟!.. لو قيل للجنين في بطن أمه: هل تحب الخروج من رحم الأم؟.. فإنه لا يقبل ذلك، لأنه لا يتصور مكاناً أوسع مما هو فيه، ولا طعاماً أشهى من الدم الذي يأتيه عبر المشيمة.. في نظره أن هذا الطعام هو الطعام المثالي، وهذا المكان دافئ لطيف، ومكان محصن.. ولكن عندما يأتي للدنيا ويرى ما يرى؛ فإنه قد لا يمكنه أن يتخيل كيف أنه كان يعيش في تلك الظلمات الثلاث!..

نحن في بطن الدنيا ورحم الدنيا كذلك، لا نتصور نعيماً أفضل مما نحن فيه.. وبين أرحام الأمهات والكرة الأرضية هنالك نسبة، لو فرضنا مئات الملايين؛ لأنها نسبة بين محدودين.. ولكن الدنيا والآخرة لا نسبة فيما بينهما؛ لأنها نسبة بين المحدود واللامحدود.. هذه مفاهيم بديهية.. ولكن -مع الأسف- نحن نرى أن هذه المفاهيم البديهية في مقام العمل، تصبح مفاهيم عكس البديهية.. أي ينبغي أن لا يعتقد بها، وليس ينبغي أن يعتقد بها!..

الجواب على هذا السؤال:

إن حالة الإدبار بالنسبة للمؤمن السالك إلى الله عزوجل، أفضل من حالة الإقبال.. إن المؤمن إذا كان يؤدي واجباته، وبشكل متقن -وخصوصاً الصلاة-، ولا حرام في الحياة؛ عندئذ عليه أن لا يخشى لو لم يجد الخشوع.. الآن هو صلى صلاة الليل، مثلاً: إنسان جلس من النوم بتعب، وتوضأ بالماء البارد -إذا كان في الصحراء مثلاً-، وهو مصاب بمرض، وأدى صلاة الليل، وما بكى في صلاته.. ليس هنالك مشكلة.. المهم أنه كان في زي المطيعين.. إن الحالات الروحية -الإقبال والخشوع- هبات من الله عزوجل، ولا ينبغي أن نبحث عنها، وأن نتدخل في شؤون الرب.. لو راجعنا مناجاة المحبين، نلاحظ أن الإمام (ع) يسند الفعل كله لله تعالى: (إلهِي فَاجْعَلْنا مِمَّنِ اصْطَفَيْتَهُ لِقُرْبِكَ وَوِلايَتِكَ… وَهَيَّمْتَ قَلْبَهُ لإرادَتِكَ، وَاجْتَبَيْتَهُ لِمُشاهَدَتِكَ… وَقَطَعْتَ عَنْهُ كُلَّ شَيْء يَقْطَعُهُ عَنْكَ)..

إن العبد عليه أن يهيئ الأرضية، ويترك البقية على الله عزوجل.. ومن هنا نحن نلاحظ في عالم الزراعة أن المزارع هو الزراع والذي يكابد الجهد، ومع ذلك فالقرآن الكريم يقول: {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}.. إن الفلاح يبذر، والزارع هو الله عزوجل، هو الذي يفلق الحب: {إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}.. الله سبحانه وتعالى هو الفالق.. الزارع يضع البذرة في التراب، ويسقي الماء، وينام في كوخه، ورب العالمين يجري هذه التفاعلات.

لنلاحظ هذا المثال:

المزارع ماذا يعمل؟.. المزارع يضع البذرة في التراب، ويسقي الزرع، ثم يزيل الحشائش الضارة، وإذا كان هنالك ديدان في التربة أيضاً يزيل الديدان، ويضع إنساناً على شكل صليب ويلبسه ثوباً، ليخدع الطيور، بأن هذا إنسان واقف، لينفر الطير التي تأكل البذور في التربة؛ عندئذ يصبح له زرع.. في عالم التكامل الروحي، الأمر كذلك.. عليك أن تهيئ المقدمات، وترفع الموانع، وتوجد الشرائط المناسبة، ثم تفوض الأمر إلى رب العالمين.

مثلاً: مزارع يزرع القمح في أرضه، فيرى رب العالمين أن هذه السنة ربح القمح قليل، والقمح لا يشترى في السوق، فلا ينبت له الزرع.. وينبتها له في السنة المقبلة، في السنة القحط، وبالتالي، يبيع الحنطة بأضعاف مضاعفة.. وفي بعض البلدان معروف أنهم يرمون بواخر القمح وغيره في البحر، حفاظاً على الأسعار.

إن رب العالمين هو يقدر الأمور.. مثلاً: إنسان إذا يعطي هذه السنة منحة إقبال إلهية، قد لا يتزوج.. لأن الذي يعيش الأنس مع هذه العوالم، قد لا يرى حاجة للزواج في هذه السنة فعلاً.. بينما رب العالمين يرى أن زواجه مطلوب، ويوجب أن ينعقد منه نطفة متميزة.. فإذا أعطاه إقبالاً، لا يتزوج؛ وإذا ما تزوج، ما تأتيه ذرية؛ وإذا ما أتته ذرية، حرم نفسه والأمة عالماً كبيراً.. هذه حسابات في علم رب العالمين، فينبغي أن لا نتدخل في شؤونه تعالى.

ومن المناسب أن نذكر هذه المقولة لأحد العلماء الكبار، حيث يقول: إن بعض الناس يذهب لزيارة الإمام، ويتمسك بالضريح، ويبكي، ويقدم النذور وغيره؛ ولما يرجع يحمل في نفسه شيئاً من العتب على الإمام ويقول: ما قضيت الحاجة.. أين رأفة الإمام؟!.. أي كذا…؟!.. في حين أنه جاهل أن الإمام دعا له في عالم الغيب، أن يمد الله تعالى في حياته عشر سنوات، مقابل أن طلب منه مثلاً ألف دينار!.. ولك أن تنظر: عشر سنوات يمدد في عمره أين، وهذه الدنانير أين؟!.. ومن المعلوم أن هذه السنوات سنوات مباركة، لأنها بدعاء الإمام.

فإذن، إن على الإنسان أن يعمل بما عنده، والبقية على رب العالمين.. نحن بالنسبة إلى حالات الإقبال، علينا أن لا نفتح حساباً لهذا الباب.. ولهذا أنت عندما تصلي، فقط وظيفتك أن تدفع المزاحمات والأفكار والأوهام.. وأما النتيجة -أي أن تبكي- فأنت لست مطالباً بها.. ولهذا قلنا للإخوان: نحن لا نريد منكم صلاة خاشعة!.. إن أصل هذا التعبير، فنياً وعلمياً؛ خطأ!.. عليك أن تكون في مقام الخاشعين.. وأنت غير مطالب بالنتيجة: إن جاء الخشوع أو ما جاء.. ولك أن تتأمل في هذا المثال:

لو أن إنساناً أراد أن يلتقي بك، إنسان يحبك جداً، ولكن بينك وبينه عدوا غاشما، وكلما يقترب، ذلك الشخص يضربه على وجهه، وهكذا، طوال الوقت وهو يقدم، وفي كل إقدام ضربة على رأسه.. وإنسان آخر يأتيك بعد ذهاب هذا العدو، فتستقبله بالأحضان، وتدعوه إلى المنزل، وتقدم له ضيافة فاخرة.. أيهما أحب إليك؟.. هذا الذي طول الوقت يحاول أن يقترب منك، وكل ساعة ضربة على رأسه، أو ذلك الذي بسهولة أقبل عليك؟.. أنت عندما تصلي صلاة، وكل ساعة ضربة من الشيطان على رأسك، يأتيك من كل زاوية، وأنت في الأربع ركعات أو الركعتين كلها في صراع وعراك مع إبليس، فإن هذه صلاة ممتازة، أنت في قمة الخاشعين.. لا ينبغي أن تنظر إلى بعض ما أعطاه الله تعالى للبعض، من الهبات الخاصة.. أنت عليك أن تحاول ويكفي هذا المقدار.

س٣/ تمر علينا بعض الأوقات يكون القلب ملتفت -وبتعبيرنا الدائم: أنه يعيش حالة الحضور-؛ فماذا نعمل في هذه الحالة؟..

إن هذا مقام من ألذ لذائذ الوجود!.. وإن كان هذا المقام لا يعرفه إلا أهله ممن وصلوا، ولكن إن تصور هذا اللذائذ أمر إيجابي.. الحضور أي أن الإنسان يعيش حالة الأمن والأمان.. إنسان مثلاً يذهب إلى بلاد يكثر فيها الاغتيالات والتفجيرات، ولكن هو في ضمن فيلق، فالإحساس بالحضور في هذا المكان، يجعله مطمئناً، ومرتاحاً وهادئ البال.. بخلاف إنسان هو وحده يمشي في الشارع، وله أعداء كثيرون ويتربصون به الدوائر، فهذا في كل لحظة يعيش القلق.

إن المؤمن يعيش الحضور بين يدي الله عزوجل، في أحلك الظروف.. وهذا الذي رأيناه في قصة نبي الله إبراهيم (ع) عندما وضع في المنجنيق، وألقي في النار.. وبتأمل سريع في هذه القصة: نلاحظ أن المنجنيق في تلك الأيام عبارة عن مدفع، يضعون فيه الشخص، ثم يقذفونه في النار.. أي عكس ما يحدث هذه الأيام، إذ أنهم يضعون القذيفة، ويضربون به الشخص.. وتلك -بلا شك- أصعب من طريقة هذه الأيام.. ثم أن النار التي هيؤوها لإبراهيم نار متميزة.. فقد بلغ الجهل ببعض أعداء إبراهيم (ع) أنه كان ينذر بإحضار خشبة أو عود!.. وكانوا يتنافسون في أن يحضروا ما يزيد هذه النار اشتعالاً.

ولكن مع كل ذلك لنلاحظ هذا النص، الذي يصف لنا حالة إبراهيم (ع)، عندما وضع إبراهيم (ع) في المنجنيق، مقابل تحطيمه للأصنام: (أمر نمرود بجمع الحطب في سواد الكوفة عند نهر كوثا من قرية قطنانا، وأوقد النار فعجزوا عن رمي إبراهيم، فعمل لهم إبليس المنجنيق فرُمي به، فتلقاه جبرئيل في الهواء فقال: هل لك من حاجة؟.. فقال : أمّا إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل.. فاستقبله ميكائيل فقال: إن أردت أخمدت النار، فإنّ خزائن الأمطار والمياه بيدي، فقال: لا أريد.. وأتاه ملك الريح، فقال: لو شئت طيّرت النار، قال: لا أريد.. فقال جبرئيل: فاسأل الله!.. فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي).

إن إبراهيم (ع) كان بإمكانه أن يستجيب للملائكة، لتخليصه مما هو فيه.. إبراهيم (ع) نبي عظيم، ويحمل مهمة عظمى، وإذا يبقى حياً يعمل على هداية الأمة.. أضف إلى شماتة الأعداء، فأن يحترق ويصير فحماً أسوداً أمام النمرود وغيره، هذا أمر لا يليق بشأنه (ع).. فالمفروض أن إبراهيم (ع) يصيح بجبرائيل، أن يشفع له عند الله عزوجل، لينقذه من هذه النار، ولكن ما هذه الأعصاب الباردة عند إبراهيم (ع)؟!.. وذلك لأن إبراهيم يعيش الحضور، ومن هنا لا يهمه شيء مهما كان.. هو رب العالمين إذا أحب أن يراه محترقاً، كما أراد أن يرى سيد الشهداء (ع) ذبيحاً، فأين المشكلة؟.. وإذا بالنار تتحول ليس إلى نار غير محرقة، بل صارت مبرداً من أقوى مبردات الوجود: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}.

فالذي يسمع قصة إبراهيم (ع) -وهي ليست إسرائليات لنشك ونتهم أن هذا كذب-، والذي يسمع مسألة موسى (ع) وكيف أن البحر فلق له، والذي يسمع قصة عيسى (ع)، وقصة مريم (ع).. ومن المعلوم أن مريم (ع) لا هي نبية ولا وصية، امرأة حامل ومتهمة بالزنا.. لما قالوا لها: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}؛ فإن هذا الكلام كاد أن يقتل مريم (ع)، وبالفعل هي تمنت الموت، إذ: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا}.. مريم (ع) كانت تعلم بشأن هذا الوليد الذي كان في بطنها، ومع ذلك كانت تتمنى الموت، لأنها تخشى الفضيحة.. فإن حالتها لا يمكن أن يقبلها عقل ولا شرع.. إذ لا يوجد امرأة في تاريخ البشرية تحمل، وتدعي أنه لا زوج لها!.. وإذا بحركات إلهية بسيطة في ثوانٍ، وكل المشاكل ارتفعت:

جائعة، وإذا برب العالمين يوحي لها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}.

وعطشانة، وإذا برب العالمين يجعل لها نهرا جاريا: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا}.

ومتهمة بالزنا، وإذا برب العالمين ينطق عيسى (ع) ببراءتها: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}.

وعليه، إن الذي يسمع قصة مريم (ع)، وقضية موسى(ع)، وقضية إبراهيم (ع)، فهل هذا يخاف من مشكلة في هذا العالم؟.. الرب هو الرب.. هل الرب له علاقة خاصة بموسى (ع) -نعوذ بالله- نسبية أو سببية أو غيره؟.. وفي الحديث: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأبدانكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).. إن القلب الذي يرى أنه أزمة الأمور طراً بيده، والكل مستعدة من مدده، فإن هذا القلب مطمئن في أحلك الظروف.

إذن، الجواب على هذا الموضوع: أن الإنسان بالنسبة للعبادة إذا عاش المحضرية، في محضر الله عزوجل؛ عندئذ يقوم بالعبادات بمقدار الشهية.. وأما إذا لم يكن عنده حالة إقبال، فإن عليه أن يكتفي بالواجبات.. كما ورد عن الإمام الحسن العسكريّ (ع): (إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلتْ فاحملوها على النوافل، وإذا أدبرت فاقصروها على الفرائض).. أي لا داعي لقسر النفس على حركة لا يستسيغها الإنسان.. ولهذا عندنا باب في العبادات اسمه: (باب الاقتصاد في العبادة)، أي العبادة المستحبة.. وعليه، الواجب لا كلام فيه، أما المستحبات فيؤتى بها بمقدار الشهية.

والبعض قد يقول: إن صلاة الليل هي طول العمر خلاف المزاج!.. إذ الإنسان يقوم من النوم ويتوضأ… ومعنى هذا الكلام، أنه من اليوم فصاعداً لا مستحب في حياتنا!..

إننا لا نعني بهذا الكلام إنساناً ملتزماً بترك المستحبات.. وإنما نعني به إنساناً بناؤه أن يعمل المستحبات، ويعمل بها، إلا أنه يمر في ظرف معين، أو في ظرف نفسي؛ فهنا لا ينبغي له قسر النفس على العبادة.. وإلا إذا رأى إنسان نفسه عازفة عن المستحبات، فليعلم أن هذه حالة مرضية، وليست حالة صحية -أن الإنسان لا يشتهي إلا الواجب في الصوم وفي الصلاة في غيره-، وبالتالي، هذا الإنسان ينبغي أن يعالج نفسه.

إذن، جوهرة العبادة وأهم ثمرة للعبادة، هي أن نعيش حالة المحضرية.

س٤ / إن مشكلة الذين يعيشون حالة الرقة والشفافية الروحية، أنهم يعيشون حالة المفارقة مع الناس، فلا يتحملون التعامل معهم.. فماذا نعمل إذا وقعنا في هذا المطب؟..

أيضاً هذا مطب خطير!.. إن هذه الحالة للبعض مثل إنسان كل يوم يُعطى عسلاً، ولما أصبح مدمناً على العسل، يُؤتى له بمربى، أو حلوى من النوع السيئ!.. ولذلك، هذا لا يأكل، وبالتالي قد يصاب بضعف وانهيار؛ لأنه ليس عنده ذاك العسل، وهذه الحلوى لا تشبعه ولا يرضى بها.. إن بعض الناس هكذا، يتقدم في طريق الإيمان درجات، ومن ثم يؤخذ منه الإقبال، فيصبح هو لا يأنس لا بالعبادة، ولا يأنس بالجلوس مع الناس.. لا تغريه الديوانية، ولا يغريه المسجد.. فأين يذهب هذا الإنسان؟!.. وماذا يعمل؟!..

ولهذا أنا أعتقد أن هذه المشكلة هي العقبة الأساسية في هذا المجال، وهي السبب أن البعض لا يصل إلى درجة من الدرجات.. لتقريب المعنى، لنلاحظ هذا المثال:

نحن عندنا مدينتين: مدينة الدنيا، ومدينة الآخرة (أي الوصول إلى درجة السكون والاطمئنان في الدنيا).. وأغلب الناس إما في مدينة الدنيا، أو في الصحراء بين المدينتين.. فالكثيرون يخرجون من هذه المدينة، على أمل الوصول إلى تلك المدينة، ولكن في الطريق بين المدينتين، يقعون فريسة للشياطين!.. والسبب: أنه ليس معهم خارطة.. الذي يمشي على الجي بي إس (GPS) -كما يقولون هذه الأيام-، يصل، ولكنه لا يعرف الطريق.. والطريق هنا ما هو؟..

أولاً: الكتمان.. ينبغي للإنسان إذا أعطي شيئاً من المزايا المعنوية، أن لا يغير من تعامله مع الناس، وأن يحاول كتمان ذلك.. لماذا كلما رأيت مناماً، أذعته للناس: إني البارحة رأيت كذا وكذا؟!.. وفي صلاتي رأيت كذا وكذا؟!.. والبعض تراه إذا لم يتكلم مع عامة الناس، فإنه يتكلم مع الخواص والأصحاب؟!.. والحال، إن كتمان هذه الحالات أفضل، إلا عن أهله.. إذا رأيت إنساناً خبيراً في هذا المجال، فبالإمكان أن تطرح أمامه الأمر، كما تطرح قضية ما، لإنسان له دور في هذا المجال.. أنت عندما ترفع الليلة الثقل مئتي كيلو، بعد فترة تذهب إلى مدرب الفريق، لتقول له: أنه أنا رفعت مئتين، فكيف الطريق إلى أكثر؟.. لا أنه تمشي في الشارع وتنادي أيها الناس، أنا اليوم رفعت مئتي كيلو!.. أنت بهذا الكلام ماذا تستفيد من الناس؟!.. وبماذا تفيد الناس؟!.. وعليه، إن التعامل الصحيح في مثل هذه الحالات: أن تطرح القضية مع من يمكنه أن يعطيك اقتراحات في هذا المجال.

وثانياً: سياسية الإحراق.. مثلاً: افترض أن لك رحما، ولابد أن تجلس معه نصف ساعة، وتزوره، مع أنه لا يوجد كلام مشترك بينكما.. صحيح، هذا الإنسان قد لا يغري الحديث معه، ولكن ليس الحل أن تقطع زيارة هذا الإنسان.. وهذا الذي يشتكي منه الشباب هذه الأيام.. يقولون: ماذا نعمل بلغة التعامل مع الجيل السابق؟.. هم لا يفهمون كلامنا، ونحن لا نفهم كلامهم.. هم لهم اهتمامات، ونحن عندنا اهتمامات.. فليس الحل هنا القطع، وإنما الحل: أن تغير زاوية النظر.. فمثلاً: إنسان يعمل خادماً عند مرجع.. فلو أنك نظرت إلى هذا الإنسان على أنه إنسان خادم، فقد لا تلقى في نفسك احتراماً لهذا الإنسان.. ولكن أليس الأمر يختلف لو أنك تنظر إليه على أنه خادم المرجع؟.. خادم المرجع هو صحيح خادم، ولكن لأنك نسبته إلى جهة عليا، فاكتسب منها العلو.. كما قال الشاعر:

داريتُ أهلك في هواك وهم عدى *** ولأجل عين ألف عين تكرم

أنت عندما تنظر إلى خادم المسجد على أنه: هذا الذي يخدم بيت ربٍ أحبه، هذا خادم المسجد الذي أنا أصلي فيه لله عزوجل؛ فإن هذا الإنسان الذي لا وزن له، وإذا به يصبح إنسانا عظيما، وتصبح له شخصية جداً كبيرة.. كما يقول الشاعر:

وما حب الديار شغفن قلبي *** ولكن حب من سكن الديار

وكذلك في التعامل مع الزوجة.. ينبغي أن تنظر إلى هذه المرأة، بأنها أم أولادك التي تقر عينك برؤيتهم.. وأن الله عزوجل جعلها سبباً لتحقيق إرادته، في إيجاد خلقه من خلالها.. أعرف من الأخوة العلماء من له سبعة أو ثمانية من طلبة العلم، جميعهم ممتازون.. أي أن هذه الأم قدمت للأمة سبعة أو ثمانية علماء، ولكلٍ دوره في المجتمع.. فمثل هذه الأم ألا تحترم من هذه الزاوية؟.. أضف إلى الصفات الأخرى: الصفات الإيمانية، وحبها لأهل البيت، ويوم من الأيام كنت مريضاً وهي كانت على رأسك… إلخ.. وإن أردنا التأسي بالنبي (ص)، فلننظر كيف كانت معاملته لزوجته، وكيف كان وفاؤه.. فلقد كان رسول الله (ص) يكرم نساء في المدينة، لأنهن على صلة بخديجة (ع)، التي كان النبي (ص) ينظر إليها بإكرام واحترام.. وكان (ص) إذا ذبح شاة يقول: (أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة).

وعليه، فإنه من اللازم أن يغير الإنسان نظرته تجاه الآخرين.. ولكن لا يخفى أن هذه العملية تحتاج إلى لباقة، وإلى التفاتة، وإلى كثير من العناصر؛ لكي ينظر الإنسان إلى الوجود بنظرة إلهية.

س٥/ ماذا أعمل بمسألة العجب القهري؟..

يفهم من السؤال: إن هذه الحالة عنده ليست باختياره، هو ليس في نيته أن يعجب اختياراً، ولكن هو عندما يرى الناس، واشتغال الناس بالأباطيل وبالأهواء، يجد شيئاً متميزاً في نفسه على هؤلاء.. مثلاً: ذهب إلى حفل زفاف، ورأى الناس منشغلة بالطعام وغيره؛ بينما هو جالس يذكر الله تعالى، ورب العالمين تلك الليلة منّ عليه بذكر خفي رقيق، فجرت دمعته من خوف الله تعالى، ومن خشيته.. فمن الطبيعي، أن هذا الإنسان يرى نفسه أحسن من البقية.. لو أن إنساناً له القدرة على رفع مئتي كيلو، وأمامه إنسان لا يمكنه أن يرفع خمسة كيلو، من الطبيعي أن يرى نفسه بطلاً، ويرى شيئاً في وجوده يختلف عن الناس.. وهذا أيضاً من المطبات الخطيرة في هذا المجال!..

الجواب:

أولاً: الأمور تعرفُ بخواتيمها.. من قال أنك ستبقى بطلاً؟!.. يمكن في ثاني يوم تصاب بالشلل، ولا تقدر تحمل ربع كيلو، وذاك الذي كان يحمل خمسة، صار يحمل عشرة.. كم من الناس الذين في حياة الأئمة (ع) فقدوا ما فقدوا!.. يقال: إن من الذين كانوا في ركاب أمير المؤمنين (ع)، وكان يقاتل مع علي (ع) -ولعل كان في بدنه آثار الجراح في حربه مع علي (ع)-: كان شمر بن ذي الجوشن!.. لا أحد يعرف الخواتيم، وخاصة أنه في آخر الزمان، زمان المفاجآت.. وقد رأينا في حياتنا إذا العلماء تنقلب مواقفهم، فكيف بعامة الناس؟!.. إذن، لو فقط هذه الآفة، فإنها تكفي!.. ولهذا المؤمن أخوف ما يخاف عليه، سوء العاقبة.

أحد العلماء في مشهد الرضا (ع) كان له قريب، وكان في ساعة الاحتضار يتكلم كلاماً قاسياً، فقيل له: تتكلم مع من؟.. -فالمفروض أن ساعة الموت الإنسان يذكر، ويهلل، ويذكر الشهادتين- فقال: أنا أتكلم مع الشيطان!.. الشيطان الآن موجود، جاء يريد أن يسلبني إيماني في اللحظات الأخيرة!..

ومع الأسف، إن بعض الناس شبابه، خير من شيخوخته!.. هو أيام الثلاثين والأربعين من عمره، كان إنساناً جيداً، ويصلي الليل…؛ وهو الآن قبيل ساعة الاحتضار، أو في سنوات السفر إلى الله، وإذا بمستحبات كثيرة ذهبت من حياته.. كان إنساناً هادئاً، فصار إنساناً عصبي المزاج.. كان إنساناً منفقاً، والآن صار بخيلاً.. يا للعجب!.. هو المفروض يترقى، وإذا به يتسافل!..

وثانياً: الجهل بالبواطن.. قل: لعل خيري لنفسي ظاهر -أنا أرى الدمعة والله نزلت الآن من عيني-، وخير هذا باطن.. هذا الشاب الذي اليوم رأيته في هيئة غير معقولة، نعم هذه حركة سلبية، ولكن لعل اليوم في الجامعة، راودته فتاة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله!.. أنت من أين عرفت ملفات الناس؟!.. لماذا تقطع أن درجة فلان كذا، ودرجتك كذا؟!.. هو درجته صفر، وأنت درجتك عشرون!.. من أين لك العلم ببواطن الناس؟!.. ولهذا قد ورد: أن (الشاب السخي المعترف للذنوب، أحبُّ إلى الله من الشيخ العابد البخيل).. لأن هذا فاسق، ولكنه إنسان سخي، وبماله أحيا عوائل من الناس؛ بعكس ذلك الإنسان العابد.

في الأزمنة القديمة يروى أنه: غمامة أظلت شاباً مذنباً -كان يحتقر نفسه-، وعابداً.. فالشاب قال: إن هذه الغمامة قطعاً ليست من أجلي!.. أنا أين، وغمامة الرحمة هذه أين؟!.. بينما العابد قال: لا شك إن هذه الغمامة لأجلي!.. قطعاً أنها ليست لهذا الإنسان الفاسق!.. ولما افترقا، وإذا بالغمامة ذهبت مع الشاب المرهق بالذنوب.

فإذن، العجب إذا دخل في وجود إنسان، أهلكه وأسقطه عن الاعتبار.

س٦/ ماذا نعمل مع مسألة الغضب والحدة في المزاج؟..

إن من الأمور الصادة عن السبيل هي مسألة: تغير المزاج.. ومع الأسف إن هذه الآفة آفة شائعة في بلداننا!.. ترى إنساناً ليس عنده أي مشوش، ولا أي مزعج: فراتبه مؤمن، وزوجته مطيعة، ويملك داراً واسعة، وسيارة فارهة، وهو كما يصف رسول الله (ص): (إنّ من سعادة المرء المسلم أن يشبهه ولده، والمرأة الجملاء ذات دين، والمركب الهني، والمسكن الواسع).. فكل الأمور مجتمعة في حياته، ومع ذلك تراه إنساناً قطعة نار، وفقط يحتاج إلى كبريت لينفجر!.. لا أدري لماذا العصبية والغضب والحدة؟.. لو أنه إنسان فقير، ويحتد؛ لقلنا: عذره معه، لأنه ليس عنده لقمة العيش.. ولو أنه مريض، ويغضب؛ نقول: هذا من أثر الوجع والمرض.. ولو عنده مشاكل زوجية، ومع الأولاد؛ نقول: نعم عنده مشاكل.. ولكن هو إنسان من جميع الجهات مكتمل، فلماذا الغضب؟!..

إن هذا الغضب من المدمرات!.. ومن هنا إذا رأيت عالماً حكمته حكمة لقمان، وزهده زهد سلمان، وخطابته خطابة أمير المؤمنين (ع)؛ ولكن رأيته في مواقفه سريع الغضب، فإن هذا الإنسان لا يُتأسى به، لأن هذا الإنسان ليس له وزن كبير عند الله عزوجل.. إذا دخل الغضب في حياة الإنسان، فإنه لا يستفيد شيئا مع كل الملكات الحسنة!.. وقد ورد عن رسول الله (ص): إن (الغضب يُفسد الإيمان، كما يُفسد الخلّ العسل).

لنلاحظ هذا التشبيه:

لو يُؤتى لك بقدح فيه أرقى أنواع العسل في عالم الوجود، ولكن تنظر وترى فيه سواداً، وإذا بك تكتشف أن فارة ألقت فيه عذرتها!.. فقطعاً، إن هذا العسل لا يؤكل، إن هذا العسل لا قيمة له، وهو كالسم الذي أدخل في الشيء، أو كالقاذروة التي أفسدت الشيء.. ولهذا -مع الأسف- البعض منا جمعه للعسل جيد، هو ليس مقصراً في جمع العسل، وله نحل كثير، ولكن كل يوم يرمي عذرة في عسله؛ وبالتالي، فإنه يبقى بعيداً عن كل مدارج الكمال.

وعليه، فإن الذي يريد أن يتميز في هذا العالم، لابد له أن يقرأ قليلاً في الكتب الأخلاقية، من مؤلفات علمائنا الكبار في هذا المجال، ويقرأ قصص العلماء، وتأريخ العلماء.. وليحذر من بعض الكتب الأخلاقية المنحرفة، فإن بعض الكتب جداً خطيرة، وقد يحرم قراءتها.. فالتزود العلمي في هذا المجال، مقدمةً للوصول إلى الدرجات العليا.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.