Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

إن السيدة الزهراء -عليها السلام- جمعت بينَ صفتين: المخفيةِ قبراً، والمجهولة قدراً.. هذهِ السيدة جاءت إلى هذهِ الدنيا وذهبت، ولم يُعلم قدرها حقَ المعرفة.. فقط الذين عرفوها هم: أبوها، وبعلها، وبنوها.. ولهذا لا نستغرب أن الأئمة من ولدها، كانوا يبكون عندما يتذكرون جدتهم فاطمة، رغم السنوات الطويلة التي تفصلهم عنها.. ومن محطات زيارة الإمام المهدي وبكائه -عليه السلام- في هذهِ الغيبة الطويلة، زيارتهِ قَبر أمهِ فاطمة، فهو يعلم أينَ هذا القبر!.. ولا مانعَ من أن نقول: بأن لهُ بأمهِ فاطمة قدوة وأسوة!.. ففاطمة -عليها السلام- دافعت عن الإمامة، وكذلك الإمام الحجة -عليهِ السلام- هذهِ هي وظيفته.

رفع مستوى الهمة:
ينبغي للمؤمن أن يستفيد من مناسبات قادته المعصومين (ع)، فيتأسى بهم في حركة الحياة.. فلا نجعلهم -عليهم السلام- في لوحات زيتية راقية: رسماً، ووصفاً.. أي نصف القادة، ونفتخر بهم فقط دون الالتزام بأعمالهم وأقوالهم.. لأننا بذلك نكون -مع فارق التشبيه- كالذي يشجع الرياضيين، وهو إنسان كسول، لا يملك جسماً رياضياً.. بينما الذي يحب الرياضة، يجب أن ينزل إلى الميدان، ويتأسى بالرياضيين، ولو بدرجة من الدرجات!.. قد يقول قائل: لا نستطيع أن نكون كالنبي، وكالزهراء، وكعلي!.. فهؤلاء لا يمكن الوصول إلى رتبهم!.. نعم، لن تصبح نساؤنا كفاطمة، ولا رجالنا كعلي، ولا أولادنا كالحسنين.. ولكن ينبغي للمؤمن أن يرفع مستوى الهمة؛ مثلاً: لو أن هناك تاجراً دخل السوق، ويريدَ أن يكون صاحب ثراءٍ واسع؛ هذا حتى لو كانَ فقيراً، فإن سعيهُ يجب أن يتناسب معَ هذا الهدف.. وكذلك الإنسان الذي همهُ أن يُصبح كاتباً في وزارة، ويأخذ راتباً متواضعاً؛ فإن سعيه يكون متواضعاً بما يتناسب مع طموحه.

وإذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسام

فالإنسان كُلما علت همتهُ، زادَ سعيه.. ولهذا أيام الامتحانات، نُلاحظ حتى الكُسالى من التلاميذ، لا ينامون الليل.. لأنه جعلَ هدفهُ في ذلكَ الأسبوع، أن ينجحَ في الامتحان.. فلا يأكل، ولا يشرب، ولا ينام؛ لأنهُ يعيش هذا الهاجس.

فإذن، يجب أن نرفع من مستوى الهمة، كي نصبح كهؤلاء، إلا فيما لا يمكن تقليدهم فيه.. فالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كانَ يُوحى إليه، وباب الوحي انسدَ إلى يوم القيامة، ولكن باب الإلهام والتسديد مفتوح، كما فُتحَ لأمِ موسى (ع)، وغيرها من الصالحين طوالَ التأريخ.

ما هيَّ نقاط التأسي بالسيدة فاطمة (عليها السلام)؟..
قد يأتي في ذهن البعض: أنَ الحديث عن الزهراء -عليها السلام- يناسب في الدرجة الأولى النساء؛ لأنها امرأة، والإقتداءُ ينبغي أن يكون للنساء.. وهُنا نقول: الرجولة والأنوثة هذهِ صفات الأبدان، وإلا الأرواح أرواحٌ واحدة، لم يقل أحد لا قديماً ولا حديثاً، لا من الفلاسفة ولا من أهل الحديث: أنَ الأرواح على قسمين؛ روحٌ ذكورية، وروحٌ مؤنثة.. الروح هي أمانة الله -عز وجل- نفخت في بني آدم.. فإذن، الزهراء حقيقتها حقيقةٌ لا توصف: لا بالذكورةِ، ولا بالأنوثة.. وهكذا أرواح المعصومين والأنبياء (ع).. وبالتالي، فإنه يصح أن نقول: أن الرجال يمكنهم التأسي أيضاً بهذهِ السيدة الطاهرة كالنساء.

أولاً: الجمع بين التكاليف.. أول صفة تلفت النظر في حياة الزهراء -عليها السلام- كإنسانةٍ كاملة، هي الجمعُ بينَ التكاليف.. نحنُ مشكلتنا أننا نجعل لكُلِ شيءٍ ملفاً: فعندما نعمل، ننسى العبادة.. وعندما نتعبد، ننسى العمل.. وكأنَ الإنسان ينتقلُ من حقل إلى حقل؛ وهذا خطأ كبير!.. فالمؤمن يعيش كُل الحقول في آنٍ واحد!.. فالزهراء -عليها السلام- كان لها وظائف عبادية: فقيامُ الليل لفاطمة -عليها السلام- كقيام أبيها -صلى الله عليه وآله وسلم-، وكقيام أمير المؤمنين -عليه السلام-؛ كانت تمضي ساعات من العبادة الليلية.. ولها أيضاً نوافلها اليومية، وصلواتها، وصومها المستحب.. ولكن أنظروا إلى سيرتها في المنزل، عن علي (ع): (إنها استقت بالقربة حتى أثرّت في صدرها، وجرّت بالرّحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها).. لم يكن الأمر سهلاً على هذهِ السيدة، التي كانت في عمر الزهور، كانت تقوم بأعمال المنزل، وكانت في خدمة أمير المؤمنين كزوجة مثالية.. فالأسرة الأولى المثالية من خِلقة آدم -عليه السلام- إلى قيام الساعة، هيَّ أسرة عليٍّ وفاطمة.. هكذا كانَ حالها -عليها السلام- فقد جمعت بين عمل النهار المتعب، وبين العبادة.. تلكَ هي سيدة نساء العالمين، العابدة الأولى في تأريخ البشرية في صنف النساء!..

إن المؤمن ينبغي أن يكون ذاكراً في جو الغافلين!.. فإن دُعي إلى مجلس، تغلب عليهِ الغفلة: كالأعراسِ، وغيرهِ، يلقن نفسه يقول: يا رب، اشهد علي بأني سوفَ لن أكونَ من الغافلين كباقي الغافلين.. وكذلك إن كان في الوظيفة، وليس لديه عمل؛ يغتنم الفرصة، ويثقف نفسه.. إذ بإمكانه أن يقرأَ دورات فقهية، أو عقائدية، أو تفسيرية.. ويمكن أن يقوم ببعض المستحبات أيضاً، وبذلك يجمع بين العمل والعبادة!..

ثانياً: العفة.. عندما احتاجَ عليٌ -عليه السلام- للناصرِ والمعين، فاطمة -عليها السلام- ربة البيت، خرجت لتدافع عن إمام زمانها -عليه السلام- ولكن بشرطها وشروطها!.. مع الأسف بعض النساء يردن أن يتشبهن بفاطمة -عليها السلام- فيتحررنَ من القيود الدينية.. يقولون: فاطمة كانت ذات عمل سياسي، ونحنُ أيضاً نتشبه بها.. ولكن كيف دخلت الزهراء الميدان؟.. تقول الرواية: (لاثت خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمةٍ من حفدتها، ونساء قومها.. تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (ص)… فنيطت دونها ملاءة، فجلست ثم أنَت أنَةً أجهش القوم لها بالبكاء، فارتج المجلس.. ثم أمهلت هنيئة، حتى إذا سكن نشيج القوم، وهدأت فورتهم.. افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه، والصلاة على رسوله.. فعاد القوم في بكائهم، فلما أمسكوا عادت في كلامها).. لم تكن تمشي بشكلٍّ يتصفحها كُل رجل، بل كانت تمشي في وسط نسائي، من باب الاستتار والهيبة.. وكان كلامها مؤثراً، ففاطمة -عليها السلام- بأنتها أبكت القوم، فارتجَ المجلس وكأنهُ وقعَ زلزال.. بسبب ذلكَ التأثير الرباني الذي جعلهُ الله -عز وجل- في وجهها، وفي صوتها؛ وما ذلك إلا لأنها أخلصت العمل للهِ عزَ وجل.

ثالثاً: الحب الإلهي.. البعض يتكلم وكأنَ أئمة أهل البيت -عليهم السلام- كانوا يدعون الناس إلى أنفسهم، في قبال رب العالمين!.. بينما التوحيد، والتهليل، والتكبير؛ مفاهيم الوحدانية، والإنقطاع إلى الله -عز وجل- كانت تطفحُ من كلماتهم الشريفة.. فهذهِ فاطمة تقفُ في المسجد للدفاع عن إمامة أمير المؤمنين -عليه السلام- ولكن ما هو أولِ كلامها؟.. تقول (ع): (وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمن القلوب موصولها، وأنار في التفكر معقولها).. تشهد لله -عز وجل- بالوحدانية، ثُمَّ تُقسم التوحيد، إلى التقسيم الثلاثي المعروف.. فالتوحيد، والإمامة، والنبوة، والمعاد؛ هذهِ المفاهيم تحتاجُ إلى ثلاثة حقول تفاعلية:

الحقل الأول: الفكرة.. أي يفكر الإنسان، ويعتقد بالله -عز وجل- إيماناً.
الحقل الثاني: العاطفة.. أي يتفاعل معهُ بقلبه، ويغلف المفهوم بغلاف الحب والود.
الحقل الثالث: العمل.. كما أن الأوكسجين عندما يجتمع مع الهيدروجين؛ ينبثق الماء.. كذلك فإن النتيجة التي تتولد من الفكرة والعاطفة، هي الحركة في الحياة؛ أي العمل.. فالعمل لا ينفك عن الاعتقاد الراسخ، والعاطفة العميقة، عندئذ ينطلق الإنسان في العمل.. دائماً نسمع هذا التقسيم الثلاثي: الأفكار، والعواطف، والجوارح.. الزهراء -عليها السلام- في خطبتها تقول: التوحيد هي كلمة، ولكن لها واقع في الحياة (كلمة جعل الإخلاص تأويلها)؛ أي الإخلاص في العمل، هو تأويل التوحيد.. إن أردتَ أن تطبق التوحيد في الحياة، فكُن مخلصاً في حركتكَ في الحياة.. (وضمن القلوب موصولها)؛ أي هناك ارتباط بين القلبِ وبينَ عالم التوحيد.. وأخيراً (وأنار في التفكر معقولها).. فإذن، إنارةٌ في الفكر، ووصلٌ في القلب، وإخلاصٌ في العمل.. هذهِ المراحل الثلاث التي تُنادي بها فاطمة -عليها السلام-.

ليس هنالكَ موجود على وجه الأرض، أحب علياً كفاطمة.. عليٌ -عليه السلام- إمام زمانها، وزوجها، ووالد أولادها.. نحنُ علاقتنا بعليٍّ -عليه السلام- علاقة الإقتداء، والإمامة.. أما فاطمة -عليها السلام- فهنالكَ أكثر من علاقة، تربطها بعليٍّ -عليه السلام-.. ولكن هل هذا شغلها عن الحب الإلهي؟.. أبداً!.. الحب الإلهي كانَ متغلغلاً في قلب فاطمة، ويتجلى هذا الحب عندما تدخل الجنة، وتقول: (يا رب، أنتَ المنى، وفوق المنى)!.. جمعت بينَ حب اللهِ -عزَ وجل- وحب علي؛ ولكن في طابقين.. فالمؤمن يجعل للحب طوابق: الطابق الأول: حب الأهلِ والأولاد، هذا لا يتعدى للطابق الثاني.. والطابق الثاني: حب أولياء الله -عزَ وجل- من النبي، وآلهِ، والمؤمنين.. والطابق الثالث: هو الحب الإلهي؛ هذا طابق مستقل.. ولكل طابق غرفهُ، وأدوارهُ، وأثاثهُ.. فهل الإنسان يحب اللهَ -عزَ وجل- كما يحب النبي؟.. نحب النبي لأنهُ عبدٌ للهِ -عزَ وجل-، ونحب الزوجة لأنها مؤمنة.. ولهذا يقول دعبل في قصيدته:

أحب قصي الدار من أجل حبهم *** وأهجر فيكم أُسرتي وبناتي

فإذن، إن حب الزوجةِ والأولاد؛ مرتبطٌ بالثاني: بحب النبي وآله.. وحب النبي وآله، مرتبطٌ بالحب الإلهي.

رابعاً: الصبر.. لماذا هذا الخلود لذكر فاطمة -عليها السلام-؟.. هذا الخلود؛ لأنها صبرت، وتحملت الكثير بعد وفاة أبيها -صلى الله عليه وآله وسلم-.. فكانت عندما تقفُ على قبر أبيها -عليها السلام- تقول:

ماذا على من شم تربة أحمد *** أن لا يـشم مدى الزمان غـواليا
صبت عليّ مصائب لـو أنها *** صـبت على الأيام عــدن لياليا

فاطمة -عليها السلام- نسبتها إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لا كنسبة الثمرةِ للشجرة، لأن الثمرة عندما تقطف من الشجرة؛ تبقى إلى فترة.. أما الزهراء بالنسبة للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كالغصنِ للساق؛ عندما مات النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ ماتت فاطمة مع رسول الله.. ولهذا كانت تبكي في ليلها ونهارها، وروي: (إنها مازالت بعد أبيها معصبة الرأس، ناحلة الجسم، منهدة الركن، باكية العين، محترقة القلب، يغشى عليها ساعة بعد ساعة).

الخلاصة:

١- إن السيدة الزهراء -عليها السلام- جمعت بينَ صفتين: المخفيةِ قبراً، والمجهولة قدراً.

٢- أنه ينبغي للمؤمن أن يستفيد من مناسبات قادته المعصومين (ع)، فيتأسى بهم في حركة الحياة.

٣- إن أول نقاط التأسي بالزهراء -عليها السلام- كإنسانةٍ كاملة، هي العفة والجمعُ بينَ التكاليف، فعندما تعمل لا تنسى العبادة، وعندما تتعبد، لا تنسى العمل، وعندما خرجت لتدافع عن إمام زمانها خرجت تطأ ذيولها سترا وعفة، فكان لكلامها ذلك التأثير الرباني.

٤- أن العمل لا ينفك عن الاعتقاد الراسخ، والعاطفة العميقة، وعليه فإن الإخلاص في العمل، هو تأويل التوحيد.

٥- أنه ليس هنالكَ موجود على وجه الأرض، أحب علياً كفاطمة-عليها السلام- فهو إمام زمانها، وزوجها، ووالد أولادها، ولكن ذلك لم يشغلها عن الحب الإلهي الذي كان متغلغلا في وجودها عليها السلام.

٦- أن من نقاط التأسي بفاطمة -عليها السلام- صبرها الذي كان به خلود ذكرها، فكم صبرت وتحملت الكثير بعد وفاة أبيها -صلى الله عليه وآله وسلم-.

٧- أن الزهراء بالنسبة للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كالغصنِ للساق؛ فعندما مات النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ ماتت فاطمة –عليها السلام – معه.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.