Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

الصراط..
١. العبور على الصراط: في عرصات القيامة هنالك مرحلة ما يسمى بالعبور على الصراط، عندما نراجع الروايات، والآيات الواردة حول هذا الموضوع، الإنسان ينتابه الخوف، فعن عن الصادق (عليه السَّلام) في خبر: (والصراط أدق من الشعر، وأحدّ من السيف)!.. الناس جميعًا لابد لهم من العبور على هذا الصراط، يقول تعالى: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا﴾، ويقول في الآية الأخرى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾.. إذن معنى ذلك: أن الكل يمر على الصراط الممدود على نار جهنم، ولكن كيف نمر على الصراط؟.. ولماذا؟.. وما الفلسفة في ذلك؟.. وما الحكمة؟.. يقول العلماء: لعل السبب في ذلك، أن الإنسان عندما يجتاز نار جهنم، ويرى العذاب تحت رجليه، ويصل إلى الجنة؛ يعرف قدر النعيم.. قد يقول قائل: ولكن كيف نمر على جهنم، ألا يعد ذلك نوعاً من أنواع التعذيب؟..

الجواب: ورد في الروايات أن الناس في عبورهم على الصراط على درجات، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الناس يمرون على الصراط طبقات، والصراط أدق من الشعر، ومن حد السيف.. فمنهم من يمر مثل البرق، ومنهم من يمر مثل عدو الفرس، ومنهم من يمر حببا [مرا جرا] ومنهم من يمر حبواً، ومنهم من يمر مشياً، ومنهم من يمر [معلقاً] متعلقاً، قد تأخذ النار منه شيئاً، وتترك شيئاً).. يبدو أن هنالك مرحلة من مراحل التمحيص عند العبور على الصراط.

٢. العبور الناجح: إن عبور الصراط عبوراً سريعاً كالبرق الخاطف، بحيث لا نعلم شيئًا من عذاب هذه النار المشتعلة، يكون من خلال:
أ- رضا الله: الله العالم!.. أن هنالك علاقة وطيدة بين العبور الناجح على الصراط، وبين العبور على الصراط المستقيم في الحياة الدنيا.. في سورة الحمد هنالك بسملة، وحمد، وثناء على الله عز وجل، وفي المقابل هنالك طلب واحد: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾.. والآيات الأخرى توضيح لذلك: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾؛ الصراط المستقيم هو ذلك الطريق الذي بين الإنسان وبين رضا الله عز وجل، حيث أنه في كل شيء هنالك خيارات: عند الزواج هنالك خيارات، وعند الوظيفة هنالك خيارات، وعند بناء منزل هنالك خيارات.. المؤمن ينظر إلى أقرب الخيارات إلى رضا الله عز وجل؛ فهذا هو الصراط المستقيم.. أما الطرق المنحرفة؛ فإنها لا تؤدي إلى رضا المولى.

ب- المستحبات: قال النبي (ص): (من صلّى المغرب أول ليلة من رجب، ثم يصلي بعدها عشرين ركعة: يقرأ في كلّ ركعةٍ فاتحة الكتاب، و﴿قل هو الله أحد﴾ مرة، ويسلّم بعد كلّ ركعتين، قال رسول الله (ص): أتدرون ما ثوابه؟.. قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنّ الروح الأمين علّمني ذلك، وحسر رسول الله (ص) عن ذراعيه وقال: حُفظ والله في نفسه وأهله وماله وولده، وأُجير من عذاب القبر، وجاز على الصراط كالبرق الخاطف من غير حساب).

السبيل متعدد والصراط واحد..
إن القرآن الكريم ما ذكر “الصراط” بنحو الجمع؛ أي ما قال: “الصرط”، بينما كلمة “السبيل” في القرآن جاءت جمعاً ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾.. فلماذا السبيل متعدد، والصراط واحد؟.. الذي نفهمه -والله العالم بحقائق الأمور- أن الطريق إلى الله تعالى هو طريق واحد لا تعدد فيه، ولكنّ هنالك سبلاً “الطرق إلى الله، بعدد أنفاس الخلائق”.. من الممكن أن يكون الإنسان على الصراط المستقيم، ولكن لا على السبيل المطلوب منه.. مثلاً: من دخل الحوزة وتفقه في الدين، فقد سلك الصراط المستقيم.. ولكنّ في الحوزات هنالك سبلاً: سبيل التحقيق، وسبيل الوعظ والتبليغ، وسبيل الاجتهاد والفقاهة؛ كل هذه سبل في الطريق العام.. فلعل هنالك من يختار طريق التحقيق، وهو مؤهل لأن يكون من مراجع الأمة الكبار؛ هذا يأتي يوم القيامة ويرى أنه ما مشى في السبيل المطلوب، وإن كان هو في الجادة العامة؛ أي هو على صراط مستقيم، ولكن لا على السبيل المطلوب منه.. هنا من نعم الله تعالى على العبد، أن يمنّ عليه، ويجعله في السبيل الذي يريده الله -عز وجل- منه.. فالإنسان قد يصل إلى مرحلة من المراحل، رب العالمين يختار له جزئيات الحياة، ورد في الحديث القدسي: (يا موسى!.. سلني كلّ ما تحتاج إليه، حتّى علف شاتك، وملح عجينك)!.. حتى ملح عجين المؤمن، وعلف شاته، أمر مدروس ومقدر، ورب العالمين يأتي له بذلك حيث يشاء.

فإذن، الصراط من أهوال القيامة.. المؤمن يمر على الصراط من دون أن يرى شيئًا مخيفًا.

دخول الجنة..
إن الحديث عن الجنة لا مجال فيه للفلسفة، والتوسع في عالم الخيال، والحديث الشاعري.. إن نعيم الجنة كما ورد في القرآن الكريم: هنالك الأنهار من العسل والخمر والحور العين والغلمان، وهنالك الرضوان؛ ولكن الذي يجمع كل هذا النعيم كلمة واحدة: “فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر”!.. فنعيم الجنة -تقريبًا- يمكن أن يُقسّم إلى ثلاث مراحل: هنالك النظر إلى وجه الجبار، وهنالك الجلوس مع الأخيار، وهنالك الأنس بالأبكار من الحور العين.

أولاً: النظر إلى وجه الجبار.. إن النعيم المعنوي في الجنة، هو ذلك النعيم الذي كان يلتذ به أولياء الله في الحياة الدنيا.. فالنظر إلى وجه الرب المتعال، والرضوان الذي هو رحيق الجنة -إن صح التعبير-بإمكان أحدنا أن يعيشه، أو يعيش درجة منه في الحياة الدنيا، وعندئذ المؤمن لا يتفاجأ بالجنة كثيرًا.. فالذي يعشق الحور والقصور والغلمان، من الطبيعي أن يرى شيئاً جديداً؛ لأنه في الدنيا لم ير شيئًا من هذه الأمور.. ولكن الإنسان الذي أنس بالله عز وجل؛ فإنه يعيش حالة الرضا.. وقد ورد في الآية الأخيرة من سورة الفجر، التي من المصاديق البارزة لهذه الآية، سيد الشهداء (عليه السلام): ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾؛ والنفس الراضية المرضية في الحياة الدنيا، هي نفس مأنوسة مشغولة بالرضوان الإلهي.. ومن هنا المؤمن في هذه الحياة الدنيا، يعيش أرقى صور النعيم!.. وهذا الذي كنا نراه في حياة النبي (ص) والأئمة (عليهم السلام): عندما أُدخل الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) إلى السجن في بغداد، كان يشكر الله تعالى على نعمة الخلوة في السجن.. ويوسف الصدّيق (عليه السلام) ما صار صدّيقًا بمجرد مجاهدته لزليخا، كم من المؤمنين قاوموا في الخلوات، ولكنهم لم يصيروا كالصدّيق يوسف!.. فيوسف له مزية؛ مزيته أنه جعل الحياة في قصر زليخا وفي ذلك المكان في جانب، والسجن في جانب، ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ﴾؛ ما قال: السجن أنفع، أو أفضل.. لا!.. بل السجن أحب!.. في السجن هناك خلوة مع الرب المتعال، وأما مع زليخا ليس هنالك إلا هذا النعيم الفاني.. هذا الذي ميّز يوسف عن شباب العصور، لا شباب عصره.. فإذن، الذي يريد أن يكون متميزًا في عرصات القيامة، عليه أن يحاول الوصول إلى هذه المرحلة.

ثانياً: مجالسة الأخيار.. إن مجالسة الأخيار من نعيم الجنة، البعض في هذه الدنيا مبتلى بمجالسة الفسقة، أو غير الصالحين.. وأما مجالسة الحور والغلمان، فمحلهما الآخرة!..

ثالثاً: الأنس بالحور.. يمر الإنسان على أنهار الجنة، فيرى الحور النابتة على ضفاف النهر، وعندما يقتلعها؛ تنبت هنالك حورية أخرى مكانها!.. معنى ذلك: أن الإنسان إلى أبد الآبدين وله أن يستمتع بما لا حد له من الحور العين، إن كان يطلب الحور في هذا المجال.

الحب الإلهي..
إن القلب السليم هو القلب الذي يمر بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: أن يكون القلب خالياً من الملكات الفاسدة، فالإنسان الذي يُؤْمن جانبه: أي الخير منه مأمول، والشر منه مأمون؛ إنسان غير حقود، وغير حسود، ومتواضع؛ فهذه مرحلة من مراحل سلامة القلب.

المرحلة الثانية: أن يكون القلب خالياً من حب الدنيا، وهي مرحلة أعلى من الأولى.. فالزهد: هو أن يقطع الإنسان العلاقة القلبية بينه وبين الدنيا، والأمر لا يحتاج إلى ترك الدنيا، ولا إلى هجر النساء، ولا حتى القصور؛ بإمكان الإنسان أن يعيش في قصر ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ﴾ ولكن لا يكون متعلقًا به.

المرحلة الثالثة: أن يكون القلب مليئاً بذلك الحب المستوعب لكل جهات القلب: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾؛ القرآن الكريم أشار إلى هذا الحب المتبادل بين العبد وربه.. فتارة يعبر عن حب المؤمن لربه، وتارة يعبر عن حب الرب لعبده.. والملفت أن الحب الإلهي لعبيده جاء في آيات، منها: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ﴾؛ ﴿إنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾.. وهنا بشرى لأصحاب المعاصي!.. فالذي يرجع عن المعصية له امتيازات إيجابية؛ ولكن بشرط التوبة!.. ويكفي أن الله يحبه، ﴿يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾؛ والتواب كثير الرجوع عن الخطأ، وكثير الرجوع، هو كثير الزلل؛ ولكن ذلك الإنسان الذي لا يستهزئ بالله -عز وجل- في توبته.. فالإنسان العاصي له امتيازان:

الامتياز الأول: أنه جرب المحرمات.. فالمؤمن العادي قد يتمنى لو أن الخمرة حلال، أو الزنا حلال، أو لحم الخنزير حلال؛ ليجرب هذه الأمور!.. بينما العاصي جرب بعض هذه الأمور، فما رأى إلا السراب، ثم عاد إلى ما كان عليه.. ولكن لا ننسى أنه: ليس من أذنب وتاب، كمن لم يعص أبداً!.. حيث هنالك براءة، وكما يقال: حالة من البكرية في روح المؤمن.. فهنيئاً لمن كان بكراً في هذا المجال، قبل البلوغ كان بريئاً براءة الطفولة، وبعد البلوغ براءة الاستقامة!.. فهذا الإنسان العاصي الذي جرب المعاصي، عندما يرجع إلى طريق الإيمان، لا يفكر أبداً في الرجوع إلى المعصية التي آلمته أيما إيلام!..

الامتياز الثاني: أن أهل المعاصي -تقريباً- يُؤْمن منهم جانب العجب!.. فالمؤمن الذي لم يعص، من الممكن في يوم من الأيام أن يعجب بوضعه.. وهذا العجب قاتل؛ لأنه إذا دخل في حياة المؤمن؛ أسقطه في الامتحان.. بينما العاصي كلما قرأ مناجاة التائبين؛ يتذكر ذنوبه.. فعند قراءة هذه الفقرة: “قبح الذنب من عبدك”، الإنسان العادل الذي لم يعص في حياته، يقول: هذه مجاملة، أنا ما عندي ذنب قبيح.. ولكن أهل المعصية عندما يقرؤون مناجاة التائبين، تجري دموعهم على خدودهم، هذه الدموع لا تعوض بشيء، ألم يرد في الحديث الشريف: (يا آدم!.. أنين المذنبين أحب إلينا من تسبيح المرائيين)!.. هذا الأنين، وهذه الدمعة عند الله لها وزن كبير، تطفئ بحاراً من غضبه.

علامات المحب..
أولاً: الأنس.. إن المؤمن إذا وصل إلى مرحلة الأنس بالله تعالى، تصبح له علاقة قريبة جداً بالله عز وجل.. وبما أن كل إنسان صاحب حاجة: إما حاجة للدنيا، أو حاجة للآخرة.. إما يريد الحور أو الرضوان في الجنة، أو حاجة من حوائج الدنيا: كشفاء مريض، أو مال، …الخ.. فالمؤمن إذا وصل إلى مرحلة الأنس والدلال مع رب العالمين؛ فإنه يعيش حالة الارتياح في الوجود، وكلما وقع في ورطة، يدعو ربه!.. فإن جاءه الجواب فوراً، نعم المطلوب!.. وإن لم يأت الجواب، يعلم أن هنالك أحد أمرين:

١. التعويض في الآخرة.. إذا لم تجب دعوته، يعلم بأن هناك تعويضاً في الآخرة، فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إن المؤمن ليدعو الله في حاجة، فيقول الله: أخروا حاجته؛ شوقاً إلى صوته وسماعه!.. فإذا كان يوم القيامة يقول الله: عبد!.. دعوتني في كذا وكذا، فأخرت إجابتك، وثوابك كذا وكذا.. ودعوتني في كذا وكذا، فأخرت إجابتك، وثوابك كذا وكذا.. قال: فيتمنى المؤمن أنه لم يستجب له دعوة في الدنيا، لما يرى من حسن الثواب).

٢. ليس هنالك مصلحة له.. المؤمن عليه بالدعاء، ولا يستعجل الإجابة، فهو لا يعلم أين الصلاح: (ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي، لعلمك بعاقبة الأمور)!.. ولهذا المؤمن لا إصرار في دعائه، لأنه لا يعلم الخواتيم.. مثلاً: الشاب الذي يحب الزواج من فتاة، ويدعو الله تعالى وبإصرار؛ هل يعلم أنه ستنجب له ولداً صالحاً، أو هل ستنجب أصلاً؟.. أو هل تستمر عيشتها معه؟.. من أين يعلم المصلحة؟.. لذا، عليه أن يقول: يا رب، إن كان فيها الصلاح، يسر الأمر.. والذي يسأل الله -عز وجل- المال الوفير، من أين له العلم، أن هذا المال لا يكون وبالاً عليه؟.. فليسأل ولا يُعلّم رب العالمين ما هي المصلحة!..

ثانياً: الدلال.. من علامات أو من آثار هذا الحب الباطني الدلال، ومن الأمثلة على ذلك:
١. إن إبراهيم (عليه السلام) خليل الرحمن -خليل: تعبير يفهم معنى القرب الشديد، وهو الصديق- عندما جاءته البشرى، وجاءت الملائكة الموكلة بإهلاك قوم لوط، أخذ يجادل رب العالمين في قوم لوط ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا﴾.. وصل الأمر بإبراهيم في القرب من الله عز وجل، أن يتفاوض مع الله -سبحانه وتعالى- في أمر قد أُبرم وحُسم.. فقربه (عليه السلام) من رب العالمين، يجعله يناقش ويتفاوض مع الله -عز وجل- في رفع العذاب عن قوم لوط.

٢. وهذا موسى (عليه السلام) يؤمر بالذهاب إلى فرعون، فيقترح على الله -عز وجل- اقتراحاً: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ﴾!.. يطلب من الله -عز وجل- أن يؤيده بأخيه هارون.

٣. عندما سأل رب العالمين موسى (عليه السلام): ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾؟.. هل رب العالمين يحتاج إلى إيضاح؟!.. ولكن انظروا إلى طبيعة العلاقة المسترسلة: ﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾، موسى رآها فرصة للحديث مع الرب.. هو سئل عن العصا، وإذا به يسترسل، ولم يكتف بما قال ﴿وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾، وكأنه ينتظر أن يُسأل: ما هذه المآرب يا موسى، كي يُكمل الكلام في خواص العصا مثلاً!.. يُعطى العبد هذه الدرجة من الدلال، إذا وصل إلى مرحلة من مراحل الامتثال للأوامر الإلهية، بحيث يصبح عنده الامتثال أمراً مطابقاً للوجدان.. فالذي يعمل بالطاعات ويترك الحرام على مضض؛ هذا الإنسان قد لا يُعطى هذه الدرجة.

٤. (خرج موسى (عليه السلام) ليستسقي لهم في سبعين ألفاً، فأوحى اللَّه -عزَّ وجلَّ- إليه كيف أستجيب لهم، وقد أظلمت عليهم ذنوبهم؛ سرائرهم خبيثة، يدعونني على غير يقين، ويأمنون مكري.. ارجع إلى عبد من عبادي يقال له: برخ، فقل له: يخرج حتى أستجيب له. فسأل عنه موسى‏ (عليه السلام) فلم يُعرَف، فبينما موسى ذات يوم يمشي في طريق، إذا بعبد أسود قد استقبله بين عينيه تراب من أثر السجود، في شملة قد عقدها على عنقه، فعرفه موسى‏-عليه السلام- بنور اللَّه عزّ َوجلَّ، فسلَّم عليه وقال له: ما اسمك؟.. فقال: اسمي برخ، قال: فأنت طلبتنا منذ حين، اخرج فاستسقِ لنا.. فخرج فقال في كلامه: ما هذا من فعالك، ولا هذا من حلمك، وما الذي بدا لك؟.. أنقصت عليك عيونك (وفي نسخة أُخرى: تعصَّت عليك غيومك) أم عاندت الرياح عن طاعتك، أم نفد ما عندك، أم اشتدَّ غضبك على المذنبين، ألست كنت غفَّاراً قبل خَلْق الخطَّائين؟!.. خلقت الرحمة، وأمرت بالعطف، أم تُرينا أنَّك ممتنع، أم تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة!.. قال: فما برح حتّى اخضلَّت بنو إسرائيل بالقطر، وأنبت اللَّه -تعالى- العشب في نصف يوم حتى بلغ الركب. قال: فرجع برخ، فاستقبله موسى (عليه السلام)، فقال: كيف رأيت حين خاصمت ربِّي، كيف أنصفني)؟..

انظروا إلى طبيعة العلاقة بين العبد وربه، إلى أين تصل!.. إلى هذه المرحلة من الأنس والدلال في الحديث مع رب العالمين.. ذلك كلام إبراهيم: ﴿يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ﴾.. وذلك موسى (عليه السلام) يقترح على الله عز وجل: ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾.. هذا أثر من آثار الارتباط بذلك العالم!..

ثالثاً: الحب.. إن البعض يقول: حب الممكنات؛ كحب الطبيعة، وحب الوجوه الجميلة، وحب الثياب، وحب الحلي، وحب الأولاد؛ هذا ممكن، باعتبار أن هنالك وجوداً مادياً يُرى.. وما بعض مفاسد الشباب إلا من النظرة، فنظرة واحدة تجعل الإنسان ينقلب على عقبيه.. وبالتالي، فإن الجمال المادي سواء في الطبيعة أو الأشخاص، جمال مادي محسوس يُرى ويُسمع.. ولكن كيف يدعونا رب العالمين، كي نحب تلك الجهة التي لا يمكننا التفاعل معها بشكل حسي؟.. الإمام الصادق (عليه السلام) له مناجاة جميلة، يقول فيها: (سيّدي!.. أنا من حبّك جائع لا أشبع، وأنا من حبّك ظمآن لا أروى، واشوقاه إلى من يراني ولا أراه).. وعليه، كيف نحقق المساخنة؟.. وكيف الممكن يحب الواجب، والذي يرى يحب الذي لا يُرى، حيث هنالك وجود لا يمكن وصفه؟!..

هنا العلماء لهم تحقيق جميل وطريف في هذا المجال، يقولون: القضية عكس ذلك: أي هذه النفس نفس مجردة، لطيفة ربانية، إذا أحبت الوجوه الفانية؛ وتعلقت بمنظر مادي؛ عندئذ يكون الأمر غير طبيعي.. لأن هذه النفس التي نفخت في آدم، ولها صفات من التجرد وغير ذلك، مشابهة بنحو من الأنحاء مع ذات الربوبية.. إن كان هنالك في عالم الوجود شيء قريب إلى الله عز وجل، فأقرب الوجودات إلى الله -عز وجل- هي أرواحنا.. هذه الأرواح مرشحة أكثر، لأن تتعلق بعالم الغيب.. فإذن، القضية بالعكس: الروح الإنسانية هي المرشحة، لأن يتواجد فيها ذلك الحب المستوعب.. والذي يناجي ربه بمناجاة المحبين للإمام زين العابدين (عليه السلام)؛ يعلم ما هي المقامات التي رشح لها بني آدم!.. يقول تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾؛ الإنسان خليفة الله تعالى في الأرض، بدرجة من الدرجات، فقد رُشح لأن يكون حلقة الوصل بين الله -عز وجل- وبين باقي الممكنات.. وإذا بالإنسان يتنزل في قوس نزولي، هو خلقنا في أحسن تقويم قلباً وقالباً، ولكن في الأخير رددناه أسفل سافلين: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾.

فإذن، الإنسان بطبيعته الروحية، وبباطنه، وبجوهره، وبلطيفته الربانية؛ من الممكن أن يحقق هذا الهدف.. ولكن كما في حديث داوود (أوحى الله تعالى إلى داود (عليه السلام): يا داود!.. مَنْ أحبّ حبيباً صدّق قوله، ومَنْ رضي بحبيب رضي فعله، ومَنْ وثق بحبيب اعتمد عليه، ومَنْ اشتاق إلى حبيب جدّ في السير إليه.. يا داود!.. ذكري للذاكرين، وجنتي للمطيعين، وحبي للمشتاقين، وأنا خاصة للمحبين.. وقال سبحانه: أهل طاعتي في ضيافتي، وأهل شكري في زيادتي، وأهل ذكري في نعمتي، وأهل معصيتي لا أويسهم من رحمتي.. إنْ تابوا فأنا حبيبهم، وإنْ دعوا فأنا مجيبهم، وإنْ مرضوا فأنا طبيبهم، أداويهم بالمحن والمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب).

رابعاً: الخلوة.. إن مشكلة البعض، عندما يسمع هذه المزايا: مزية الأنس، ومزية الدلال، ومزية الحديث المسترسل مع الرب.. وهذه المقامات: الرضا والتسليم، والحور والرضوان.. فيجرب يوم، أو أربعينية، أو شهرين؛ ولا يرى شيئاً، وإذا به يرجع إلى حياته الدنيا، وإلى ركونه إلى الأرض، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾.. بينما الأمر يحتاج إلى مقاومة، وإلى ممارسة مستمرة، جل جناب الحق أن يكون شريعة لكل وارد!.. قال الصادق (عليه السلام): (كان فيما ناجى الله -عزّ وجلّ- به موسى بن عمران (عليه السلام) أن قال له: يا بن عمران!.. كذب من زعم أنه يحبني، فإذا جنّه الليل نام عنّي، أليس كل محب يحب خلوة حبيبه؟!.. ها أنا ذا يا بن عمران مطلع على أحبائي، إذا جنّهم الليل حوّلت أبصارهم من قلوبهم، ومثّلت عقوبتي بين أعينهم، يخاطبوني عن المشاهدة، ويكلّموني عن الحضور.. يا بن عمران!.. هب لي من قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع، ومن عينك الدموع في ظلم الليل، وادعني فإنك تجدني قريباً مجيباً)؛ هذه علامة من العلامات، إذن المؤمن الذي يريد أن يتميز، لابد أن يجعل لنفسه محطة في الليل ولو محطة خفيفة.

خامساً: العمل.. روي عن أنس أنه قال: (جاء رجل من أهل البادية -وكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية يسأل النبي (ص)- فقال: يا رسول الله!.. متى قيام الساعة؟.. فحضرت الصلاة، فلما قضى صلاته قال: أين السائل عن الساعة؟.. قال : أنا يا رسول الله!.. قال: فما أعددتَ لها؟.. قال: والله ما أعددتُ لها من كثير عمل صلاة ولا صوم، إلا أني أحبّ الله ورسوله، فقال له النبي (ص): المرء مع مَن أحبّ، قال أنس : فما رأيت المسلمين فرحوا بعد الإسلام بشيء أشدّ من فرحهم بهذا).. ليس بمعنى أنه تارك الصلاة، لعله كان يعني المستحبات، وإلا لا يعقل أن يترك الإنسان الصلاة، ويتمنى دخول الجنة.. ولكن انظروا إلى هذا الحب، الذي عندما يضاف إلى العمل الخارجي، وإذا به يعمل المعجزات!.. ونحن نجيب من يسأل: متى الفرج؟.. كما أجاب النبي (ص): ما أعددت للفرج؟.. فلو أن الإمام ظهر بعد سنة، أو بعد شهر، هل أعددت نفسك لأن تكون من ضمن من يكونوا في صحبه ومن أعوانه؟.. البعض يقول: نحن -بحمد الله- نحب الله، ونحب رسوله، ونحب أهل بيته؛ ولكن عندما تنظر إلى سلوكه اليومي، ترى خللاً في سلوكه.. العلماء يقولون: هذا ليس بحب، هذا نوع من أنواع الميل أو العواطف القلبية؛ لأن الحب يلازم العمل.. ولهذا الإمام الصادق (عليه السلام) وهو الذي له الحق أن يفسر ما هو الحب المؤثر، وما هي الشفاعة يقول:

تعطي الإله وأنت تظهر حبه *** هذا العمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقًا لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطيع

فإذن، علينا أن نعلم أن هنالك تلازماً بين الحب الصادق وبين العمل، حيث أن هناك دعوى الحب، وهناك ما يشبه الحب.. أما الحب الصادق، فهو ذلك الحب الذي يقترن بالعمل.. هنالك من يعمل، ولكن عندما يأتي يوم القيامة، وإذا به يرى أن عمله كان فيه بعض النقص.. هو لم يقصد ذلك، ولم يجعل حبه للنبي (ص) ولأهل البيت (عليهم السلام)، ذريعة للتخفيف في العمل؛ إنما عمل ما كان بوسعه في مقام العمل.. هنا يأتي دور الدعاء (واجعله لي شفيعًا مشفعًا)!.. فرب العالمين هو الذي يجعل النبي شفيعاً للمذنبين، ولكنْ هنالك ضوابط.. نقرأ في الصلوات الشعبانية: (أعنا على الاستنان بسنته فيه، ونيل الشفاعة لديه)؛ فالاستنان بالسنة، يكون في جانب رزق الشفاعة؛ أي يجب العمل في الحقلين.. ولكن هناك من يأتي يوم القيامة مقصرًا في الدنيا، بدعوى التعويل على الشفاعة!.. بينما الإمام الصادق (عليه السلام) قال عند احتضاره: لا تنال شفاعتنا مستخفًا بصلاته!.. (دخلت على أم حميد أُعزّيها بأبي عبد الله (عليه السلام) فبكت وبكيت لبكائها، ثم قالت: يا أبا محمد!.. لو رأيت الصادق (عليه السلام) عند الموت لرأيت عجباً، فتح عينيه ثم قال: اجمعوا لي كل من بيني وبينه قرابة، قالت: فلم نترك أحداً إلا جمعناه، قالت: فنظر إليهم، ثم قال: إن شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة)!.. هذه أيضاً محطة عملية وذكرى: أن يعملوا، وأن يجتهدوا.. فالنبي وآله كانوا من أكثر المجتهدين في طاعة الله عز وجل، كانوا يدأبون في قيامهم، وفي صلاتهم، ونحن بعد ذلك نريد أن نحوز على الشفاعة من دون جهد!..

إن المؤمن بمحبته للنبي وآله، وبفرحه لفرحهم، وبحزنه لحزنهم؛ يستغل هذه الشفاعة في رفع الدرجات في الجنة!.. أي يدخل الجنة بجهده وبعمله، وفي الجنة يقول: يا رسول الله، ارفعني إليك بحبي لك.. يستغل هذا الامتياز لترفع درجاته في الجنة، لا لأصل دخوله الجنة.. وعليه، فإن هذا الحب إذا لم يترجم في مقام العمل، من الممكن أن يزول.. وقد ذُكر في كتب الرجال وفي التأريخ، أن طبقة من أصحاب النبي (ص) ومن أصحاب الأئمة (عليهم السلام)، ما بقوا على ما هم عليه؛ لأنهم من خلال بعض المخالفات تغيرت حياتهم.. فهذا الحب أمانة معطاة، إن أدى الإنسان حق هذه الأمانة بقيت، وإلا من الممكن أن يتغير عن الحال الذي كان عليه.

سادساً: اليقين.. إن المحب يصل إلى مرحلة اليقين، هذا اليقين الذي إذا دخل إلى قلب إنسان، هانت عليه أهوال الدنيا.. حيث أنه ليس هنالك إنسان في هذه الحياة الدنيا حقق مآربه “تجري الرياح بما لا تشتهي السفن”.. فالدنيا ضيقة، والبشر محدودون، والموارد محدودة، والأموال محدودة؛ لذا لا يمكن للإنسان أن يحقق كل الأماني في هذه الحياة الدنيا.. ومن هنا، فإن غير المؤمن يصاب بانتكاسة، كلما أخفق في أمر، أو في طلب شيء.. وعندما تجتمع الانتكاسات، وإذا به في مستشفى الأمراض العقلية، أو ينتحر؛ لأن هذا الإنسان ليس له من اليقين، ما يُصبّره على بلاء الدنيا.. فاليقين هو نعم العون على تحمل البلاء!..

قال الصادق (ع) : (إن رسول الله (ص) صلّى بالناس الصبح، فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه، مصفرّا لونه، قد نحف جسمه، وغارت عيناه في رأسه، فقال له رسول الله (ص): كيف أصبحت يا فلان؟.. قال: أصبحت يا رسول الله موقناً، فعجب رسوله الله (ص) من قوله وقال له: إنّ لكل يقين حقيقة فما حقيقة يقينك؟.. فقال: فإنّ يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني، وأسهر ليلي، وأظمأ هواجري.. فعَزَفت نفسي عن الدنيا وما فيها، حتى كأني أنظر إلى عرش ربي وقد نصب للحساب، وحشر الخلايق لذلك وأنا فيهم.. وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتنعمون في الجنة، ويتعارفون على الأرائك متكئون.. وكأني أنظر إلى أهل النار، وهم فيها معذبون مصطرخون.. وكأني الآن أسمع زفير النار، يدور في مسامعي.. فقال رسول الله (ص): هذا عبد نوّر الله قلبه بالإيمان، ثم قال له: الزم ما أنت عليه، فقال الشاب: ادع الله لي يا رسول الله، أن أُرزق الشهادة معك.. فدعا له رسول الله (ص)، فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي (ص) فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر).

انظروا إلى العينات التي رباها النبي المصطفى (ص)!.. ومدرسة النبي لازالت قائمة، فالنبي ذهب بجسمه، ولكن رسالته، وقرآنه، وسنته، وأحاديثه، وكلمات آله بيننا؛ أي المدرسة قائمة، والمنهج لا زال موجودًا.. هذا الشاب الذي تخرج من هذه المدرسة، والذي ينظر إلى عرش الله وهو في الحياة الدنيا؛ هل يخاف من الموت؟!.. وهل يتفاجأ بمواقف القيامة؟!.. هذا هو المؤمن الجامع بين كل شيء، فقد طلب من رسول الله (ص) أن يدعو ربه كي يرزقه الشهادة.. فليله ليل ممتاز، ولكن ينقصه وسام الشهادة!.. بينما هناك من يستهويه جانب، فيتمسك به، ويترك الجوانب الأخرى: كأن يقيم الليل فقط، وأما في النهار فعطال بطال.

سابعاً: تقديم قربان.. إن المؤمن يعمل ما بوسعه، ورب العالمين يكمل المهمة.. فأم موسى نذرت ما في بطنها محررًا، هو نذر بسيط: أن تجعل هذا المولود خادماً لبيت المقدس، ولكن آمالها خابت، حيث وضعتها أنثى، وإذا بهذا النذر المقبول، يوجب هذه البركة في مريم ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾؛ تقبلها ربها، وأنبتها، وكفلها.. كل ذلك منسوب إلى الله عز وجل!.. كذلك المؤمن يعمل ما يجعله في هذه الدوامة المباركة؛ في دوامة النور.. فالذي يدخل الدوامة، الدوران لا يكون باختياره، هو عليه أن يقترب!.. وبما أن هذه الدوامة في وسط البحر؛ فلابد أن يبحر، ولابد أن يجتاز الأمواج؛ ليصل إلى دوامة النور هذه.. موسى (عليه السلام) سقى لبنات شعيب ﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾، وإذا به يصبح صهراً لنبي من أنبياء الله، وبعد ذلك تأتيه بركات وادي سيناء وغيره.. فإذن، لابد أن يقدم الإنسان شيئًا في هذا المجال!..

ثامناً: التلذذ بالطاعة.. إن الإنسان يتحول إلى مطيع مسترسل يتلذذ بالطاعة، يقول تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾.. المؤمن الذي يسلم تسليماً بين يدي الله -سبحانه وتعالى-، إن ذهب للقاضي من أجل مبلغ ضخم، ولكن القاضي الشرعي قال له: هذا المال لفلان، لا لك.. إن انزعج من هذا الحكم، فهو ليس بمؤمن.. ومن يتحايل في الأحكام الشرعية، مثلاً: عنده مبلغ مالي يهديه لأحد، ثم يرجعه بعد السنة الخمسية، حتى لا يدفع الخمس.. هذا الإنسان -بغض النظر عن الفتوى، وعن كونها مطابقة للقواعد الشرعية- لا يريد أن يعمل بالحكم الشرعي، إلا من خلال ما يحب ويهوى؛ بينما المؤمن المحب يتحول إلى وجود يتلذذ بالطاعة.. ولهذا الذي يتثاقل في قيام الليل، هذا الإنسان ما حقق الكمال المرجو.. أما الإنسان الذي تذوق حلاوة قيام الليل، فإنه يهجر الفراش ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾؛ عنده الوقوف بين يدي الله عز وجل، من ألذ لذائذ الوجود!..

تاسعاً: السجود.. أو تعلم أن البعض عنده من متع الحياة، أن يسجد بين يدي الله -عز وجل- في جوف الليل، فيذهب في سياحة روحية لا يعرفها إلا أهلها.. قال سلمان الفارسي (رض): (لولا السجود لله، ومجالسة قوم يتلفّظون طيب الكلام، كما يتلفّظ طيب التمر؛ لتمنيّت الموت).

نعم، لنفتح شهيتنا على عالم جديد، كفانا هذا الأنس بهذا العالم الأرضي!.. أضيفوا إلى هذا الأنس أنساً من عالم آخر، أنساً يبقى إلى الأبد الآبدين: فلذة قيام الليل في اليوم الأول بعد البلوغ، كلذة قيام الليل في ساعة الاحتضار، بل بالعكس تزداد أنساً بتلك الصلاة.. بينما بعض المتع الدنيوية تحتاج إلى سن معينة، إذ أن الإنسان في سن الخمسين والستين، لا يستمتع بكثير من متاع هذه الحياة الدنيا.. فرب العالمين جعل الفناء والخمول في بعض المتع الدنيوية، حتى نعرف قدر تلك النعم.

الخلاصة:
إن القلب السليم هو ذلك القلب الذي يرد على الله -عز وجل- ليس خالياً من الملكات السيئة فحسب، وليس خالياً مما سوى الله فحسب؛ وإنما فيه ذلك الحب الإلهي، الذي إذا وُجد في قلب العبد تغير مجرى حياته!.. ومن مصاديق هذا الحب، الإمام الحسين (عليه السلام)، حيث أنه كان في يوم عاشوراء، كلما اشتد عليه البلاء؛ أشرق لونه.. وكان يناجي ربه في ذلك اليوم قائلاً:

تركت الخلق طرًا في هواكا *** وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني في الحب إربًا *** لما مال الفؤاد إلى سواكا

الإمام الحسين (عليه السلام) لا يقول ذلك في محراب العبادة، بل في ميدان القتال.. وهو يقاتل القوم، وإذا بالحب الإلهي مشتعل في قلبه!.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.