Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

إن شهر رمضان شهر الله بحقيقة المعنى.. فكما أن الكعبة بيت الله، والقرآن كتاب الله، فكذلك هذا الشهر المبارك، هو أيضاً شهر الله عزوجل.. والشيء إذا انتسب إلى الله عزوجل، اكتسب العظمة والخلود؛ لأنه منتسب إلى عظيم أزلي وأبدي، فيُضفي على ذلك الشيء أنواع رحمته وبركاته.

تأملات في آية الصيام:

قال تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.. لو تأملنا في هذه الآية المباركة، فإننا نلاحظ النقاط التالية:

أولاً: أنها تتضمن كلمة {كُتِبَ}، ومن المعلوم أن القرآن الكريم لا يذكر هذه الكلمة إلا في مواضع مهمة، كما في قوله تعالى:{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.. فـ{كَتَبَ} كلمة صادرة من مقام الملك، والملكوت، والعظمة، تستوجب تمام الإذعان والطاعة، وتدل على عظيم التكليف الإلهي.. ففي هذه الآية يقول: {كَتَبَ}، وكذلك في آية الصيام يقول: {كُتِبَ}.. ولو كان الصيام أمراً هامشياً في حياة الإنسان، لما قال القرآن الكريم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}.. فإن الإسلام: بحجه، وبزكاته، وبخمسه؛ لو لم يكن فيه الصيام؛ لكان ناقصاً، ولما أعطى ثماره.

ثانياً: نلاحظ في قوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}، إشارة إلى أن الصيام لم يكتب على المسلمين فحسب، وإنما هو أداة تربية للأمم جميعاً، فالمسلمون لم يميزوا بالصيام، بل جميع الأمم السالفة أُمرت بالصيام.

ثالثاً: نلاحظ في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، بيانا للهدف من عملية الصيام.. إن الإسلام لم يكن ليفرض على الإنسان أن يتحمل عناء الصيام عبثا؛ بل إن الصيام له ثمرة.. لا شك أن الإنسان الذي يريد أن يشتري بستاناً، فإنه يشتريه باعتبار ثمره.. وإلا فمن يشتري البستان باعتبار الأوراق التالفة الزائلة؟!.. من يشتري البستان باعتبار الجذور المختفية في الأرض؟!.. من يشتري البستان باعتبار الحشيش الذي لا يسمن ولا يغني من جوع؟!.. وإنما يشتري البستان لثمره.. لو أن إنساناً دخل بستاناً ليشتريه، وكان بأرخص الأثمان، فإذا علم أن هذا البستان لا ثمرة له، إذا علم أن أشجار هذا البستان أشجار سقيمة، مبتلاة بديدان الأرض، بحيث لا تعطي ثمرة أبداً.. فهل يجهد نفسه ويسقي هذا البستان قطرة من الماء؟!.. أو ينفق عليه درهماً من أمواله؟!..

إن شهر رمضان بمثابة بستان فيه أشجار، وعلينا أن نعلم أن هذا البستان هل يعطي ثمرته أم لا، وأن نعلم ما هي ثمرة هذا البستان؟!.. فليست الثمرة هو الكف عن الطعام والشراب، إنما ثمرة هذا البستان هي التقوى.. وليس المراد بالتقوى في شهر رمضان فحسب، وإنما هي حالة إذا وُجدت في الإنسان، استمر على حالة من التعالي والتقدس والطهارة، تستمر معه إلى آخر أيام السنة.

لهذا علينا ونحن اليوم في بدايات شهر رمضان، أن ننظر إلى شهر رمضان الذي مضى؛ فإن كانت التقوى شعارنا في العام الذي مضى، فقد حققنا الثمرة.. فإن مدى ما تقربنا إلى الله عزوجل في ما أعطينا من أيام وليالي في السنة الماضية، هي ثمرة شهر رمضان الماضي.. وكذلك تُعلم ثمرة شهر رمضان الذي مضى، في هذا اليوم: اليوم الأول من شهر رمضان.. وليست في دعواتنا في ليالي القدر، وبكائنا وحنيننا ونوافلنا وصلاة ليلنا، وإمساكنا عن الطعام والشراب في السنة الماضية.. ولهذا فإن على المؤمن قبل أن يبدأ بشهر رمضان جديد، أن ينظر إلى السنة الماضية، فإنْ كان قد زاد في التقوى درجة، فهذا يعني أن شهر رمضان قد أعطى ثماره في العام المنصرم، وما عليه الآن إلا أن يشد الهمة للفوز بثمرة أفضل للعام المقبل، وهكذا كل عام والمؤمن في تصاعد في درجات الكمال، وهنيئاً لمن كان كذلك!..

وإلا إذا رأى المؤمن أن أيامه متشابهة، فإنه مغبون، مصداقا لقول الإمام علي (ع): {مَنْ اعتدل يوماه فهو مغبون}.. فمن تساوى يوماه، فهو مغبون.. وقياساً على ذلك نقول: من تساوت سنواته، فهو أيضاً مغبون بغبن أعظم وأشد!.. فإذا كان من تساوى يوماه فهو مغبون، فكيف إذا تساوت سنتاه؟.. فإن هذا هو الغبن، الذي يموت الإنسان حسرة لأجله في يوم التغابن ويوم الحسرة، إذ قضي الأمر.

رابعاً: في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ} إشارة إلى حقيقة مهمة جداً، وهي أن قضية التقوى ليست قضية تلقائية.. حيث أن شهر رمضان ليس شهر التقوى بشكل تلقائي، فليس كل من صام شهر رمضان، يحوز على ثمرة التقوى، وإنما يحتاج إلى أمور أخرى غير الصيام المتعارف.. وهل رأيتم إنساناً يكف عن الطعام والشراب في شهر رمضان، فيخرج بثمرة التقوى؟.. فلطالما رأينا الصائمين في نهار شهر رمضان، يفحشون في القول؛ وفي الليل يأكلون الحرام، وبدلاً من القيام وتلاوة القرآن، يكثرون فيه الفساد.. ونحن نلاحظ في شهر رمضان كيف أن أجهزة الإعلام المختلفة في شتى البلاد، تتسابق في عرض الأغاني والمسابقات وما شابه ذلك؛ بما يجر الإنسان إلى الانحراف عن جو شهر رمضان، وهذه الأيام شاع ما يسمى بالخيم الرمضانية التي تتصاعد منها أصوات الرقص والغناء والطرب.. فأي شهر رمضان هذا؟!..

فإذن، إن القرآن الكريم أراد أن يوصل لنا بأن شهر رمضان بداية، وليس بنهاية، أي أنه -كما في تعبير العلماء- يقتضي، وليس بعلة تامة؛ بمعنى أن الصوم يهيئ الأجواء.. فهنالك ضيافة إلهية في شهر رمضان، والناس فيها متفاوتون من حيث الاستفادة من هذه الضيافة، فكل بحسبه.. إن الذي يدخل قصر السلطان، بإمكانه أن يتنعم بأنواع الطعام الذي على مائدته.. ولكن قد يكون محروماً، لأنه يجلس في زاوية من زوايا القصر، بعيداً عن هذه المائدة، فيخرج من ذلك القصر دون أن يأكل لقمة واحدة من أطعمة ذلك السلطان.. ومن هنا يتضح لنا معنى قول أمير المؤمنين (ع): (كم من صائم، ليس له من صيامه إلاّ الظمأ.. وكم من قائم، ليس له من قيامه إلاّ العناء).. فيا له من حديث غريب ومخيف!.. إنسان يتعب ليلاً بالقيام، ويظمأ نهاراً بالصيام؛ وهو لم يدخل بحر شهر رمضان ولا خطوة واحدة!..

تأملات في خطبة النبي (ص):

ولهذا علينا أن نتعلم كيف نصوم، بالرجوع إلى ما قاله نبي الرحمة وقائد الأمة محمد المصطفى (ص).. ولنا هنا وقفة مع هذه الخطبة المباركة:

يقول النبي (ص) في خطبته التي ألقاها في استقبال شهر رمضان: (أيها الناس!.. إنه قد أقبل إليكم شهر الله، بالبركة والرحمة والمغفرة): وكأن شهر رمضان قافلة محملة بالبضائع، جاء ليعطي الصائم ما عنده مجاناً.. ما قيمة عملنا، مقابل قيمة ما يعطينا شهر رمضان؟.. ماذا نعطي لشهر رمضان؟.. وماذا يعطينا شهر رمضان؟.. لمجرد كف عن الطعام والشراب في أيام معدودة، كما يقول تعالى: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ}؛ ولكن ماذا في مقابل ذلك؟!.. من المعلوم أن موارد التنكير في اللغة العربية تفيد التصغير.. وكأن الله تعالى يقول ما هي إلا أيام قليلة، فلا تمنوا على الله عزوجل بصيامكم!.. وكان بإمكان الله عزوجل -وهو المالك على الإطلاق- أن يطلب منا صيام كل يوم؛ فهو خالق النفس، وخالق الطعام، فما المانع أن يقول: يا نفس أو يا بدن، لا تأكلي من هذا الطعام من الصباح إلى المساء؟.. ولكن الله عزوجل جعل لنا أياما معدودة في الصيام، وكذلك في الحج، وجعل مبلغاً محدوداً في الخمس والزكاة.. فكل شيء بقدر وبمقدار محدود، لنكسب منها ثمار الأبد!.. إن ثمار شهر رمضان ليست فقط لشهر رمضان، وإنما هي للأبد.. فالذي وفق للصيام في العام الذي مضى؛ فإن هذا الإنسان يحمل ثمرات شهر رمضان إلى أبد الآبدين، في جنة الخلد، وفي نعيم الله عزوجل.

إن الجهد الذي يبذله الصائم ليس إلا إمساك عن الطعام والشراب لساعات محدودة، وبعض المحرمات المعروفة: كالرمس في الماء، والكذب على الله عزوجل، وغير هذه الأمور التي هي في منتهى السهولة بالنسبة للإنسان المتعارف، ولكن ما ثمرة ذلك؟.. إن الثمرة هي هذه التي يذكرها لنا النبي الأكرم (ص):

(أقبل عليكم بالبركة والرحمة والمغفرة..): إن الله عزوجل بمنه وكرمه على عباده، قد جعل محطات في السنة، ليتخفف المؤمن من ذنوبه، من حيث لا يشعر.. كالإنسان المبتلى بأنواع الكدر، فإنه يدخل إلى الحمام -وهو لا يعلم ما عليه من الأوساخ- وبمجرد أن يخرج من الحمام، وإذا به يخرج نقياً نظيفاً طاهراً، من دون أن يعرف ما الذي حدث في الحمام؛ هو دخل حماما مظلما واستحم -صب على بدنه الماء-، وإذا به يخرج نقياً..

إن الإنسان يدخل شهر رمضان، وقد ارتكب من الذنوب ما لا يعلمها إلا الله عزوجل، الذي {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}.. فكم من الذنب القولي والفعلي والسمعي والقلبي قد ارتكبه طوال السنة، وقد نسيه، وقد {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}، ولكن {هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}، فيأتي شهر رمضان بالبركة والرحمة والمغفرة، فيعفو الله عزوجل عنه، وإن لم يتذكر تلك الذنوب.

(شهرٌ هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات…. :

(نومكم فيه عبادة): إن الإنسان النائم منقطع عن العمل.. فكما هو معلوم: أن الأعمال تغلق؛ بالنوم، وبالموت، وبالإغماء، وبالجنون.. ولكن الله عزوجل-ومن المتعارف كثرة نوم الصائمين ليلاً ونهاراً- يقول: نومكم فيه عبادة.. وأي عبادة؟!.. إنها عبادة مقطوعة القبول؛ لأنه لا رياء في النوم.. فالذي ينام لا يرائي في نومه.. قد يكون حج الإنسان هذا العام مشكوكاً، وقد تكون عمرته مشكوكة القبول، ولكن نومه في شهر رمضان عبادة مقطوعة القبول، لأنه لا رياء في هذا العمل.

(وأنفاسكم فيه تسبيح): من المعلوم بأن النفس هو شهيق وزفير، وهذا الزفير مادة سامة يتخلص منها الإنسان، ولو أن الإنسان زفر في فم أحد بدل الشهيق، لمات اختناقاً.. ولكن هذا النفس الذي لا قيمة له، هذا النفس الذي فيه الرائحة الكريهة؛ يتحول إلى تسبيح.

(ودعاؤكم فيه مستجابٌ): إن الإنسان عندما يتفكر، ويعلم وزنه، ويعلم أعماله؛ فإنه يستشعر في نفسه أنه علام يتكل بين يدي الله عزوجل؟.. فهو لم يقم بأي نوع من أنواع الجهاد؛ سواء كان قوليا، أو عمليا، أو ماليا، أو نفسيا.. ومن هنا فإن الإنسان يدعو الله عزوجل، وهو خجل من نفسه.. يقول أحدهم: (إن وجودي يا ربي معصية، لا تدانيه معصية)!.. فإذا كان الإنسان العاصي وجوده معصية، فكيف بأعماله؟!.. نعم، يأتي شهر رمضان، ليتصالح رب العالمين مع عباده المؤمنين.

(وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم): إن شهر رمضان شهر التقرب إلى الله عزوجل وشهر الإنابة والمغفرة، ولكنه لا يقتصر على ذلك فحسب!.. ومن هنا نلاحظ أن نبي الرحمة (ص) يمزج القلب بالقالب، والباطن بالظاهر، فيحث أيضاً بالإضافة إلى ذلك، على أن لا ينسى الإنسان واجبه الاجتماعي، فيدعو لإفطار الصائمين، والتحنن على الأيتام وإطعام الفقراء والمساكين.. إن النبي (ص) يريد بذلك أن يكون الصائم متكاملاً في كل أبعاد وجوده، فالإسلام يريد منك أن تكون عابداً زاهداً، ومتواصلاً، وكافلاً ليتيم، ومساعداً لفقير، ومجاهداً في سبيل الله عزوجل.. والذي لا يعمل بوظيفة من الوظائف، فهو بمثابة الإنسان الناقص في خلقته، ومثله مثل امرأة جميلة بوجهها، ولكنها قصيرة في يديها ورجليها، فهذه ليست بجميلة.. العين إذا لم تكن جميلة، فما فائدة جمال الأنف والوجه والشعر وغير ذلك؟.. ولهذا على المؤمن أن يجمل نفسه في كل الأبعاد.

(أيها الناس، من حسّن في هذا الشهر خلقه، كان له جواز على الصراط يوم تزلُّ فيه الأقدام): هنالك خطأ عرفي متأصل في الأذهان عن معنى حسن الخلق، فيظنون بأن حسن الخلق عبارة عن البشاشة في الوجوه، وكثرة المزاح والتهريج، واللغو في القول والدخول في ما لا يعني.. إن حسن الخُلق هو في مقابل حسن الخَلق.. إن الله عزوجل -كما يقول تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}-، جعل خلق الإنسان في أحسن تقويم، وأتقن صنعه في أحسن هيئة، فهذا خلق الله، فتبارك الله أحسن الخالقين؛ وفي المقابل إن الإنسان مأمور أن يجعل خُلُقه في أحسن تقويم، وعليه أن يتقن صنعه.. إن الله عزوجل حوله من نطفة قذرة إلى مخلوق متكامل، ولكن أمر الروح جعله إليه.. وإلا فإذا كان الله عزوجل هو الذي يحسن الروح كما حسن البدن، لانتفى الأجر وانتفى الثواب، ولكن إرادة الله عزوجل أن يعيش الإنسان حالة الكدح والمجاهدة إلى أن يلقى ربه عزوجل، كما يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيه}.. وعليه، فإن معنى حسن الخلق هو تنوير الباطن، وتجميل الملكات، والقضاء على الرذائل الباطنية، وليس هو ذلك المعنى الشائع بين الناس.. كم من إنسان يصوم ظاهره، ولا يصوم باطنه!..

موانع تحقيق التقوى:

إن الذي يريد أن يحقق ثمرة التقوى في هذا الشهر الكريم، عليه أن يلتفت إلى هذه الحقيقة، وهي: أن الثمرة يجب أن تتناسب مع الشجرة!.. إن الكف عن الطعام والشراب أمر بدني -أمر مادي-، يتعلق بالفم والمعدة والأمعاء؛ ولكن الثمرة -التقوى- أمر معنوي؛ فهل يعقل أن يأتي المعنى من المادة؟.. هل يعقل أن يأتي اللب من القشر؟.. هل يعقل أن يأتي القلب من القالب؟.. أبداً!.. التقوى ثمرة معنوية، فلابد أن يكون الصوم صوماً معنوياً.. الكف عن الطعام والشراب ليس حركة معنوية متكاملة، لابد أن نضيف إلى الصوم عناصر أخرى، ألا وهو صوم الخواص، أي أن تكف عن كل ما حرم الله عزوجل، فالكف عن الطعام والشراب هو عينة.. وإلا ما الفارق بين الطعام والشراب في نهار شهر رمضان، وبين الطعام والشراب المحرم في ليل شهر رمضان؟.. فهذا محرم، وهذا محرم.. هذا المال الذي لم يخمس، وهذا اللحم الذي لم يذكى؛ كلاهما حرام.. والأكل والشرب في شهر رمضان في النهار، أيضاً حرام.. فالذي يكف عن هذا، ولا يكف عن ذاك ماذا عمل؟.. أليس هذا هو النقص؟!.. الذي يصوم بفمه وبمعدته ولا يصوم بعينه، هل كف نفسه عن الحرام؟.. الإنسان الذي يكف عن الطعام والشراب، ولا يكف عن غيبة المسلمين والمؤمنين، فهل هذا الإنسان صائم؟.. ومن المعلوم أن في شهر رمضان بالخصوص تكثر المجالس والأحاديث الساهرة والجلسات اللاغية، فكم من اللغو والغيبة والبهتان والنميمة والفحش، نمارسها في ليالي شهر رمضان، بعنوان سهرات رمضانية؛ وهذا يخالف ثمرة شهر رمضان!..

توصيات عملية:

– الالتفات إلى حلية المأكل والمشرب: إن من المتعارف هذه الأيام أن الناس يتوجهون إلى الأسواق لشراء أنواع الطعام والشراب، وهذه حركة مباركة.. ولكن على المؤمن الالتفات إلى حلية المأكل والمشرب، فإن الأطعمة أغلبها من بلاد الشرق والغرب، ولا يعلم حليتها، فقسم منه مقطوع الحرمة؛ للنجاسة، وللميتة، وللمواد المستخرجة: بعض الأطعمة مستخرجة من مواد لا يجوز استعمالها وأكلها.. لذا، علينا أن نتأكد من هذا الطعام، الذي يراد أن يكون إفطاراً وسحوراً، وقوتاً للمناجاة بين يدي الله عزوجل.. ولنحرص حرصاً مضاعفاً على ذلك، فإن حلية المأكل والمشرب أمر ضروري دائماً، ولكنه في شهر رمضان أكثر ضرورة، إذ هناك ليالي القدر، والمناجاة في جوف الليل، فإن الإنسان الذي تغذى من السحت، لا يرجى أن يقوم بخير.. كما أن مال اليتيم حقيقته أكل للنار؛ فكذلك السحت والحرام، إنما هي نار نبتلعها دون أن نشعر!..

– الاستحلال: إن شهر رمضان شهر الفضيلة وشهر التسامح وشهر الإنابة والتوبة، لهذا من المناسب للإنسان أن يلقي ما عليه من التبعات.. فإن الكثيرين متورطين بتبعات العباد!.. كم من إنسان قاطع لرحمه، أو قاطع لأخيه المؤمن، أو له عداوة مع إنسان، أو مطلوب طلبات مالية وهو يستنكف عن أدائها.. علينا أن نبادر للاستحلال في شهر رمضان .. لئن كان الإنسان يخاف من الذل ومن الفضيحة ومن العار؛ فإن شهر رمضان شهر الإنابة، ومن الضروري أن يتخلص مما عليه من التبعات.. فإذا أتيت إلى أخيك الظالم وطلبت منه الاعتذار، فلا تحمل هذه الحركة على الذل، وإنما احملها على سماحة شهر رمضان.. وعندما تأتي إلى أخيك الذي ماطلته في أداء ديونك في أول الشهر، لتطلب منه السماحة والتأجيل، فإن هذه حركة مشكورة.. علينا أن لا نكتفي ببطاقات التهنئة، فليس فقط في كل اتصال نهنئ بعضنا البعض، بقولنا: (مبارك عليكم الشهر الكريم)، بل لابد أن نقدم عملاً يبين آثار وعلامات هذه البركة.

ولنبدأ الاستحلال بمن حولنا: الأب والأم، والزوجة والأطفال والأولاد.. ومن المعلوم أن الأم والأب إذا جلسوا وتحدثوا عن ابنهم المميز بشكل غير هادف وغير تربوي، فإن البعض من الفقهاء يرى أن هذا من مصاديق الغيبة المحرمة، أو من الشبهات في هذا المجال.. فكيف بمن يغتاب ابنه البالغ؟.. وكيف بمن يغتاب جاره، وصديقه؟.. ومن هنا في شهر رمضان علينا أن نبدأ حركة استحلالية، كما نبدأ الحركة الإستهلالية في هلال شهر رمضان.. فكما نستهل، علينا أن نستحل أيضاً من ذوي الحقوق.. وحتى الموتى علينا نذكرهم بخير في هذا الشهر المبارك.

– البرمجة: إن شهر رمضان شهر متكامل، أي على المؤمن أن يضبط برامجه من أول ليلة، فينظر إلى أعمال الشهر كاملة، ينظر إلى أعمال الليلة الأولى من شهر رمضان، ينظر إلى الأعمال المشتركة في هذا الشهر، سواء صلاة ألف ركعة وغير ذلك من الأمور التي تصلى وتقام بها في كل ليلة.. لأنه إذا لم يبدأ من الليلة الأولى، مثلاً وبدأ بهذا العمل في الليلة الثانية إلى ليلة الثلاثين؛ فإنه لن ينتفع منه النفع المقصود.. فهذا الأجر يعطى لمن يقوم بهذا العمل، من أول ليلة إلى آخر ليلة.

إن البرمجة ضرورية جداً لتحقيق خير شهر رمضان مر على الإنسان.. نحن شعارنا في كل سنة أن يكون هذا الشهر خير رمضان مر علينا.. ولقد رفعنا هذا الشعار في السنة الماضية، فهل كان كذلك؟.. إن لم يكن كذلك، لنتدارك الوضع الآن.. خاصة ونحن مقدمون على وضع لا يعلمه إلا الله عزوجل، فقد ألمّت بنا الفتن يميناً وشمالاً، ونحن لا نعلم مستقبل هذه الأرض، ومستقبل البلاد والشعوب.. السنة الماضية كانت سنة قوية حاسمة مليئة بالحوادث، علينا أن نبتهل إلى الله عزوجل بأن يدفع عنا شرور هذه السنة وآفاتها.. عليكم بدعاء اليوم الأول من شهر رمضان، فهو دعاء بليغ، حيث أن الإنسان يطلب من الله عزوجل أن يهندس حياته في السنة المقبلة، ويسأل الله عزوجل أن يجنبه كل آفة في سنته القادمة.

– التدبر في القرآن الكريم: إن شهر رمضان هو ربيع القرآن الكريم، فببركات هذا الشهر الكريم الكثيرون يوفقون لختم القرآن الكريم، لا مرة واحدة بل مرات عديدة؛ في حين لو أن الإنسان وزع ما قرأه في هذه الفترة القصيرة على مدار أشهر السنة قبل شهر رمضان، قد لا يمكنه أن يتم ذلك، وليس هذا إلا ببركة هذا الشهر الكريم.. ولكن -مع الأسف- نلاحظ هذه الحالة من هجر قراءة القرآن الكريم، ولعل البعض من شوال إلى آخر شعبان لم يختم القرآن الكريم إلا مرة واحدة، ولعل البعض لم يقرأ حتى جزءاً واحداً.. ومن هنا من المناسب للإنسان المؤمن أن يقف وقفة عاطفية مع القرآن الكريم، وأن يجلس جلسة اعتذار وبكاء، يبدي فيها تألمه على تقصيره في حق كتاب الله عزوجل.. فإذا أراد الإنسان أن يبدأ في ختمة القرآن الكريم، ليفتح القرآن على مصراعيه، ويضعه على صدره، ويتكلم مع القرآن الكريم.. وليقل: يا كتاب ربي، معذرة إليك!.. إني سأتلوك في هذه السنة حق التلاوة، بقدر ما يمكنني ذلك!.. فما المانع أن تخاطب القرآن الكريم، وها هو الإمام زين العابدين يخاطب هلال شهر رمضان: (أيها الخلق الدائب المطيع)!.. إن القرآن هو أولى بأن تخاطبه؛ لأنه يشهد عليك يوم القيامة.

إن الختمات في شهر رمضان أمر مطلوب، ولكن لتكن لنا ختمتان: ختمة التلاوة، وختمة التدبر.. فختمة التلاوة لتكن حسب الإمكان: ختمتان، أو أربع، أو خمس.. ولكن ختمة التدبر اجعلها ختمة واحدة، وحاول أن تقرأ تفسيراً مبسطاً ولو بهامش القرآن الكريم حول كتاب الله سبحان وتعالى.

– إفطار الصائم: إن البعض منا يفطر الصائمين بدواعي قد تكون غير إلهية، بدعوى العادة.. وفرق العبادة عن العادة، هو الباء، ولكن كل الفرق في هذا الحرف!.. فمثلاً: إنسان عنده عادة اجتماعية أن يقيم جلسة ختمة القرآن الكريم، ويفطر الصائمين، بناء على عادة مستمرة.. ولكن ليس هذا من الأجر العظيم أن يلتزم الإنسان بدعوى العادة هذا أولاً..

وثانياً: إذا كان الغرض هو الإطعام لوجه لله عزوجل؛ فلماذا لا تدعو الفقراء والمساكين إلى منزلك؟.. لماذا تدعو فقط الصنف الواحد إلى منزلك، من التجار والأغنياء والمترفين؟.. ما المانع أن تأتي إلى المسجد، وتأخذ بيد مجموعة من الفقراء والمساكين، وتدعوهم إلى بيتك؟.. أو إذا كان هناك أخ مؤمن غريب في هذه البلاد، أو أخ أعزب وله مشاكل وهموم ويعيش آلاماً نفسية؛ فإنك لو دعوته إلى بيتك في كل يوم، وأدخلت عليه السرور، خير من أن تدعو العشرات أو المئات، ممن لا يستفيد من الحضور عندك.. علينا أن نعلم أن إفطار الصائم حركة إيجابية، ولكن علينا أن نعطي له بعداً نفسياً واجتماعياً: ففيه إطعام، وفيه قضاء حاجة، وفيه تنفيس كربة من كرب إخواننا المؤمنين.

– الخلوة في جوف الليل: ينبغي للمؤمن أن يجعل لنفسه في اليوم والليلة وقتاً للخلوة مع رب العالمين -ولو خمس دقائق-، يناجي فيه ربه بفقرات من مناجاة أبي حمزة؛ فإنه قريب إلى الله عزوجل في شهر رمضان.. لئن كانت الذنوب قد أسقطتك من عين الله في غير شهر رمضان، فإن شهر رمضان شهر المصالحة، وشهر التقرب والتودد.. وحاشى أن يدعوك إلى ضيافته، ثم يعاملك معاملة غير ضيافته!.. وفي هذا ذكرى لأولي الألباب!..

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.