Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

س١/ هنالك عبارة في دعاء كميل تقول: (يا سَرِيعَ الرِّضا)، هل تعتبر هذه العبارة من موجبات بعث الأمل في النفوس الضعيفة؟..
إن دأب الداعين في دعاء كميل -ولا أقول القارئين، نحن فرقنا بين القراءة والدعاء.. فالقراءة من صفات اللسان، والدعاء من صفات القلب- عندما يصلون إلى هذه الفقرة، يكررونها عدداً من المرات، ولا مانع من ذلك.. ولكن لا على نحو الاستحباب، كما أنه يجوز في حال الصلاة تكرار بعض الآيات.
بلا شك أن هذه الفقرة تبعث الأمل في نفوس العاصيين، الذين تسربت حالة اليأس إلى نفوسهم، من جراء المعاصي بأنهم دون المواجهة والوقوف أمام الشهوات، أضف إلى ذلك وسوسة الشيطان، وتسويلاته المحبطة للعزائم، والقاتلة للهمم، فلسان حاله معهم: أنا الغريق فما خوفي من البلل!..
والحال، بأن رب العالمين عفو يحب العفو، فإذا رضي ليس رضاه كرضا المخلوقين.. فمجرد إسقاط لبعض الحقوق المالية أو المعنوية أو غير ذلك، يبلغ رضاه إلى درجة، تتحير العقول في فهم جوهر هذا الرضا، ويصل الأمر إلى أن يبدل سيئات عبده حسنات!.. {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}.. وقد فسر هذا التبديل: بأن الله تعالى يبدل السيئة بالحسنة، وفي قول آخر: أنه تعالى يوفقه للعمل الصال؛ تعويضاً لما فاته من مسيرة حياته المنحرفة.
نعم، إن سرعة رضا الله تعالى من موجبات بعث الأمل، ولكن يشترط أن نتشبه نحن أيضاً بهذه الصفة فيمن هم عيال الله، وكأن لسان حالنا أنه: يا رب نحن عفونا عن عبادك، فاعفُ عنا يا كريم!.. لا أن يأتينا إنسان معتذر، وإذا بنا نجعل له الشروط القاسية، ونعفو عنه بعد فترة من الإذلال والمماطلة.. والحال بأن النبي المصطفى (ص) يقول: (خير الرجال من كان بطيء الغضب، سريع الرضا).

س٢/ (فَإِلَيْكَ يا رَبِّ نَصَبْتُ وَجْهِي، وَإِلَيْكَ يا رَبِّ مَدَدْتُ يَدِي).. هل هذه الصورة تعكس لنا مراد الإمام علي(ع) بالانقطاع الكلي للعبد عما سوى الله، وهي سمة مفروضة على المؤمنين؟..
إن هذا المضمون التي أطلقه علي (ع) في دعاء كميل، ليس بمضمون غريب على ألسنة المتون المقدسة.. فنحن نعتقد بأن أكثر دعاء متحقق في حياة المسلم في يومه ونهاره -وإن كنا غافلين عن هذه الحقيقة- هي الفاتحة، – حيث لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب- تبدأ بالبسملة: {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ}، ثم الحمد: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ثم الوصف بالرحمة الخاصة والعامة: {الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ}، ثم {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، ثم الإقرار بالانقطاع المطلق لله جل وعلا بقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.. وبعد ذلك الإقرار، يأتي الدعاء بطلب الهداية: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}.
إن البعض قد يثير شبهة في هذا المجال، بأنه كيف يكون الانقطاع إلى الله تعالى مع الاستعانة بزيد وعمر؟!.. الجواب: هو أن الله تعالى أمرنا بالأخذ بالأسباب، وهذا لا ينافي الانقطاع إليه جل وعلا.
ومن هنا أيضا تأتي فلسفة التوسل والطلب بأهل البيت (ع)، فنحن عندما نطلب الشيء من الحي أو من النبي (ص) من باب أن هذه وسائل وعلل في طول العلة الكبرى، ورب العالمين هو الذي يتحكم في كل عناصر الوجود، وأذن لنا بأن نستعين بالغير في قضاء حوائجنا المادية والمعنوية.

س٣/ من المعلوم أن غاية السالكين هي الوصول إلى العبودية الحقة لله تعالى، إلى مرحلة القلب العاشق المتيم الذائب بحب الله عز وجل.. فكيف يصل العبد لهذه الدرجة العالية؟..
إن عليا (ع) في دعاء كميل، يطلب من الله تعالى طلباً بليغاً -لعله طلب خيالي- فنحن نتيم بالأمور الفانية الجميلة، بالمناصب الدنيوية، ونتيم بالمناظر الخلابة.. وأنى لنا بذلك الحب الذي أراده علي (ع): (وَقَلْبِي بِحُبِّكَ مُتَيَّماً)!…
فعلي (ع) أراد أن يرتقي بنا إلى درجة القلب الذي يملأ بكل جوانبه بحب الله تعالى، ومتى ما تحقق ذلك، ذهل الإنسان عن كل شيء في الوجود.. وللتقريب نورد هذا المثال: وهو ما حصل للنسوة -اللاتي قطعن أيديهن بلا شعور- عندما طلع عليهن يوسف (ع)، فهذه الحركة الغريبة من الذهول، كانت نتيجة ذلك الحب المفاجئ الذي وقع في نفوس أولئك النسوة.
ومن المعلوم – حسب الوارد في فقه اللغة العربية- أن القلب المتيم هو أرقى أنواع الحب: الوله، والصب، وغيره.. وقد يكون هذا اللفظ -متيما- مأخوذاً من اليتم، بمعنى اليتيم المنقطع الذي لا أحد له، أو تشبيه باليتيم الملتجئ إلى جهة أخرى.
وعليه، فإن القلب عندما يتغلغل فيه الحب الإلهي -إلى حد يصبح قلباً متيماً، مستغرقاً لكل جوانب القلب- سوف ينظر إلى الوجود بنظرة أخرى، (عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم)، ولو وصل الإنسان إلى هذه المرحلة -ولو قبل موته بسويعات- أعتقد أنه ختم الحياة بأغلى الثمرات، واكتسب أغلى الهبات في هذا الوجود.

س٤/ ورد في دعاء كميل عبارة، تقول: (يا حَبِيبَ قُلوُبِ الصّادِقِينَ).. لماذا خص الإمام الصادقين دون غيرهم في هذه العبارة؟..
لا شك بأن هذه العبارة، من أروع العبارات العاطفية البليغة في دعاء كميل.. حيث أنه من السهل على الإنسان إدعاء الحب، بإبراز بعض القطع النثرية أو الشعرية وما شابه ذلك، ولكن كل ذلك يظهر في مقام العمل.. فالذين يتمنون الحصول على بعض الدرجات الكمالية، ويظهرون حبهم لله عز وجل، وهم مخالفون له عملياً.. فرب العالمين يعلم بأمرهم، وهو لا ينتخب من عباده إلا من كان صادقاً في حبه، ولا يخفى هذا -حتى في مقام التعامل مع البشر- إن المحب يحرص على إطاعة محبوبه ورضاه .
تعص الإله وأنت تظهر حبه *** هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطيع

س٥/ لماذا الدعاء -في ختام دعاء كميل- بالصلاة على الحبيب المصطفى وعلى آله الأطهار؟..
إن الإمام (ع) بعد أن دعا ربه بالطلبات الكثيرة: القلب المتيم بحبه، واللسان اللهج بذكره.. الخ، يختم بختام جميل، حيث يقول: (وَأَفْعَلْ بِي ما أَنْتَ أَهْلُهُ)!.. لا ما أنا أهله، ثم يختم دعاءه بالصلاة على النبي وآله.
ومن المناسب أن نشير إلى أن الذي يصلي على النبي، ويثني على الله تعالى، ثم يدعو، ويختم أيضاً بالصلاة على النبي.. ورد في بعض النصوص -ما مضمونه- أن الله تعالى أجل من أن يقضي الطرفين، ويهمل الوسط.

س٦/ هناك ظاهرة جميلة: وهي إحياء هذا الدعاء المبارك في جو جماعي في المساجد والحسينيات.. هل لهذه الظاهرة أثر محمود في المجتمع؟..
أعتقد أنه لا مانع شرعاً من العمل الجماعي، سواء في دعاء كميل، أو في إحياء ليالي القدر، وما شابه ذلك.. فرب العالمين يحب الدعاء الجماعي، وهذا ما يبرر ما ورد من النصوص في فضل صلاة الجماعة، وتأكد استجابة الدعاء فيها.. قال النبي (ص): (لا يجتمع أربعون رجلاً في أمرٍ واحدٍ، إلاّ استجاب الله تعالى لهم، حتّى لو دعوا على جبلٍ لأزالوه).
أضف إلى أن التعبد الجماعي، من موارد التأثر التربوي.. فمن ناحية: التأثير في نفوس الأطفال، وجعلهم يأنسون بهذه الأجواء العبادية؛ مما يضمن لهم حصانة من الوقوع في الزلل في فترة ما بعد سن البلوغ.. ومن ناحية أخرى: إثارة حالة الغيرة المحمودة، في التفاعل مع أجواء الدعاء، فيمن هم يعيشون حالة لاهية بعيدة عن تلك الأجواء المباركة.
ومع ذلك نقول: إن الدعاء الجماعي لا يغني عن خلوة العبد بربه في جوف الليل، لتكون له انطلاقته الخاصة للتحدث مع رب العالمين.

س٧/ ورد في الخبر: (إن للقلوب إقبالاً وإدباراً ..) كيف يمكن الخلوص من هذا التأرجح للمؤمن، وتعزيز علاقته مع الله تعالى؟..
نحن مشكلتنا هذه الحالة الزئبقية في التعامل والسلوك: الإقبال وإلادبار، ومع الأسف فإن الإدبار هو سيد الموقف، والسمة الغالبة.. بينما علي (ع) -في دعاء كميل- يدعونا أن نطلب من الله عز وجل، أن يمن علينا الدوام في طاعته وذكره، حيث يقول: (أَنْ تَجْعَلَ أَوْقاتِي مِنَ اللّيْلِ وَالنَّهارِ بَذِكْرِكَ مَعْمُورَةً، وَبِخِدْمَتِكَ مَوْصُولَةً ..).. فلماذا لا نحاول ملء أوقات الفراغ بالذكر الإلهي والتوجه القلبي، حتى تصبح الحياة واحة من واحات متصلة؟!.. نحن نلاحظ أن البعض يعيش صحراء قاحلة، والبعض يمتلك واحات متوسطة متباعدة.. ولكن الأفضل من هذا وذاك، هو أن يعيش الإنسان -حالة الذكر الدائم- في بساتين متصلة. ومن هنا، فإن رب العالمين وزع الفريضة في أوقاتها المتنوعة الخمسة، من أجل أن نملأ الوقت بين كل فريضة وفريضة، بما يناسبه من الذكر في أزمنة الفترات والغفلات.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.