Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

هذه السورة على صغرها، فيها أرجى آية في كتاب الله -عز وجل- كما روي عن أمير المؤمنين (ع).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}.

{وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى}.. {وَالضُّحَى}: هنا قسمٌ بالضحى، والضحى: انبساط الشمس، وارتفاعها، وامتداد النهار.. {سَجَى}: سكن، وأظلم.. القرآن الكريم كثيراً ما يستعمل الأزمنة في القسم: {وَالْفَجْرِ}، {وَالضُّحَى}، {وَاللَّيْلِ} {وَالنَّهَارِ}، {وَالْعَصْرِ}.. والله العالم!.. ربما لأن الأزمنة، وحركة الكواكب؛ كلها مذكرة بأعمار الإنسان، لذا يقسم بها.. فهدر العمر، وهدر الوقت؛ هي آفة الآفات.. الصالحون آفتهم أنهم لم يعملوا أكثر!.. والطالحون آفتهم أنهم لم يعملوا صالحاً.

{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}.. التوديع الترك، والقلى بكسر القاف البغض أو شدته.. هذه محطة ملفتة في هذه السورة: الإنسان بعض الأوقات تمر عليه ليال وأيام، لا يقبل بها بقلبه: صلاة غير خاشعة، ينوي قيام الليل فلا يوفق لذلك، وقد ينام عن فريضة الفجر؛ وهو يعيش حياته من دون أن تألم!.. والحال بأن النبي (ص) وهو رسول مرتبط بالسماء، معصوم عن الزلل، متفان في محبة الله عز وجل، انقطع عنه الوحي أياماً حتى قالوا: إن ربه ودعه، فعاش ما عاش.. فنزلت السورة، فطيب الله بها نفسه: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}؛ أي رب العالمين ليس له غضب عليك يا رسول الله، وتأخر الوحي كان بسبب عدم وجود ما يوجب نزوله.. المؤمن هكذا يده على قلبه، ينظر إلى علاقته بالله -عز وجل- إذا رأى إدباراً، أو قساوة؛ يشكو أمره إلى الله عز وجل.

{وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى}.. بعض الأوقات يصبح هناك تزاحم بين مصالح الدنيا ومصالح الآخرة، ولكن المؤمن دائماً يعمل بهذه السياسة: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ}.. مثلاً: يحب أن يتبرع لمشروع، أو لفقير؛ يأتيه الشيطان ويوسوس له: أن هذا المبلغ إذا أبقيته عندك: تأكل، وتشرب، وتستمتع، وتسافر؛. فيثبط عزمه!.. بينما لو أعطاه للفقير؛ فإنه يبقى أبد الآبدين!..

{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}.. وقد اشتمل الوعد على عطاء مطلق، يتبعه رضى مطلق.. (دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على فاطمة وهي تطحن بالرحى، وعليها كساء من حلة الإبل، فلما نظر إليها قال: يا فاطمة!.. تعجلي، فتجرعي مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غداً.. فأنزل الله {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}).. ولكن كيف هذه السورة فيها أرجى آية من كتاب الله عز وجل؟.. يبدو أن مسألة الشفاعة، مسألة خلافية من أيام الأئمة (ع)!.. أخرج ابن المنذر، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية من طريق حرب بن شريح قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين: أرأيت هذه الشفاعة التي يتحدث بها أهل العراق أحق هي؟.. قال: إي والله!.. حدثني عمي محمد بن الحنفية، عن علي: (أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أشفع لأمتي حتى يناديني ربي: أرضيت يا محمد؟.. فأقول: نعم، يا رب رضيت).. ثم أقبل علي فقال: (إنكم تقولون يا معشر أهل العراق، إن أرجى آية في كتاب الله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}).. قلت: إنا لنقول ذلك، قال: (فكلنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب الله {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}.. الشفاعة).. ليس هناك سقف لهذا العطاء، فرب العالمين يشفع لمحبي فاطمة، ولمن له تعلق بفاطمة، ولمن أحسن إلى ذريتها، ولو لم يكن من شيعتها.. (فيوحي الله -عزّ وجلّ- إليها: يا فاطمة!.. سليني أُعطكِ، وتمنّي عليّ أُرضك، فتقول: إلهي!.. أنت المنى وفوق المنى، أسألك أن لا تعذّب محبّي ومحبّي عترتي بالنار، فيوحي الله إليها: يا فاطمة!.. وعزّتي وجلالي وارتفاع مكاني، لقد آليت على نفسي من قبل أن أخلق السماوات والأرض بألفي عام، أن لا أعذب محبيّك ومحبّي عترتك بالنار).

{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى}.. إشارة إلى بعض نعمه -تعالى- على النبي (ص).. رب العالمين له سياسة غريبة!.. رسول الله أشرف الخلق، أذاقه مرارة اليتم، ومن هنا قال: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ}.. فقد مات أبوه وهو في بطن أمه، ثم ماتت أمه وهو ابن سنتين، ثم مات جده الكفيل له، وهو ابن ثمان سنين فكفله عمه ورباه.. والمعنى: ألم يجدك وحيداً بين الناس، فآوى الناس إليك وجمعهم حولك!..

{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى}.. هذه الآية من الآيات التي فيها أبحاث عديدة.. فالضال ليس بمعنى الانحراف؛ وإنما لم تكن تمتلك هذه الرسالة، أنت ما كنت واصلاً لهذه الرسالة، فأوصلناك إليها.. فالآية في معنى قوله تعالى: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.. إذن ليس الضلال هنا بمعنى سلبي، إنما هذه منحة أعطيناك إياها، وهي نعمة الرسالة.. وقيل المعنى: وجدك ضالا بين الناس، لا يعرفون حقك؛ فهداهم إليك ودلهم عليك.

{وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى}.. العائل: الفقير الذي لا مال له، وقد كان -صلى الله عليه وآله وسلم- فقيراً لا مال له، فأغناه الله بعدما تزوج بخديجة بنت خويلد (ع)، فوهبت له مالها.. وكان لها مال كثير.. ومن هنا قال الرسول (ص): (ما استقام الدين إلا بسيف علي، ومال خديجة).. فالإسلام قام بثلاث: بسيف علي، ومال خديجة، ونصرة أبي طالب.. وقيل: المراد بالإغناء؛ استجابة دعوته.

{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ}.. القهر: الغلبة، والتذليل معاً.. والنهر: هو الزجر، والرد بغلظة.. وهنا توصية أخلاقية: السائل عندما يريق ماء وجهه، فعلى المؤمن أن يحترم هذا العمل، يقال في توصيات أهل البيت (ع): رد السائل بإحدى أمرين: إما ببذل يسير؛ أي بدل أن تعطيه ما يطلب؛ أعطه شيئا بسيطاً.. وإذا كنت لا تستطيع أن تعطيه شيئاً، فرده رداً جميلاً، قل: اللهم أغنيه!.. ولكن إياك أن تنهر السائل!.. بعض بلاءاتنا هذه الأيام من جراء نهر السائل، فإن المؤمن له وجاهة عند الله عز وجل.. قال الباقر (ع): (كان فيما ناجى الله -عزّ وجلّ- به موسى (ع)، قال: يا موسى!.. أكرم السائل ببذلٍ يسيرٍ، أو بردٍّ جميلٍ.. إنه يأتيك من ليس بإنسٍ ولا جان، ملائكةٌ من ملائكة الرحمن، يبلونك فيما خوّلتك، ويسألونك فيما نوّلتك.. فانظر كيف أنت صانعٌ يا بن عمران)!..

{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}.. التحديث بالنعمة، ذكرها قولاً، وإظهارها فعلاً، وذلك شكرها.. فاشكر نعمته بالتحديث بها ولا تسترها.. عن الحسين بن علي (ع) في قول الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}، قال: (أمره أن يحدث بما أنعم الله عليه من دينه).. البعض في شكوى دائمة، لا يرضى عن شيء.. بينما عليه أن يحدث بنعم ربه، ومنها نعمة الإيمان التي لا تقدر بثمن!..

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.