Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

نسبة السورة للإمام الحسين..
إن سورة الدهر -سورة الإنسان- مضامينها مرتبطة بأهل البيت (عليهم السلام) لأنها تروي قصة التصدّق بالخبز للفقير واليتيم والمسكين، فهي لها علاقة بِرسول الله (صلی الله عليه) لأنه عندما رأى أهل بيته بتلك الحالة، أنزل رب العالمين هذه السورة وقال: خُذها يا محمد (صلی الله عليه)!.. تقول الرواية عن ابن عباس: (أن الحسن والحسين مرضا؛ فعادهما رسول الله (صلی الله عليه) في ناس معه فقالوا: يا أبا الحسن، لو نذرت على ولديك!..‍ فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما: إن برءا مما بهما؛ أن يصوموا ثلاثة أيام.. فشفيا وما معهم شيء؛ فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعا، واختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا؛ فوقف عليهم سائل وقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة!.. فآثروه، وباتوا لم يذوقوا إلا الماء، وأصبحوا صياماً.. فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم، وقف عليهم يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك.. فلما أصبحوا أخذ علي بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله (صلی الله عليه) فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع، قال: ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم!. فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها، قد التصق ظهرها ببطنها، وغارت عيناها؛ فساءه ذلك!.. فنزل جبريل وقال: خذها يا محمد!.. هنأك الله في أهل بيتك؛ فأقرأه السورة).. فسورة الدهر تحوم حول هذه الشخصيات المباركة، والقصة واضحة في هذه الآيات، حيث يقول تعالى: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾.

كذلك هناك سورة من سور القرآن الكريم يمكن نسبتها إلى الإمام الحسين (عليه السلام) على ما رويّ عن الإمام الصادق (عليه السلام).. فنحن نقول: أن هذه السورة فيها مضامين مختلفة، ولكن الإمام الصادق (عليه السلام) يربط هذه السورة بمناسبة آخر الآيات التي فيها بالإمام الحسين (عليه السلام) والتي تبدأ من آية ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾.. يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (اقرؤوا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم؛ فإنها سورة الحسين، وارغبوا فيها رحمكم الله!.. فقال له أبو أسامة وكان حاضر المجلس: كيف صارت هذه السورة للحسين (عليه السلام) خاصة؟.. فقال: ألا تسمعْ إلى قوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾؛ إنما يعني الحسين بن علي (صلوات الله عليهما)، فهو ذو النفس المطمئنة الراضية المرضية، وأصحابه من آل محمد (صلوات الله عليهم) هم الراضون عن الله يوم القيامة وهو راضٍ عنهم.. وهذه السورة في الحسين بن علي (عليه السلام) وشيعته، وشيعة آل محمد خاصة؛ فمن أدمن قراءة الفجر كان مع الحسين (عليه السلام) في درجته في الجنة، إنّ الله عزيزٌ حكيم).. فإذن، إن سورة الفجر لها علاقة بصاحب أيام محرم؛ الإمام الحسين (عليه السلام).

-(اقرؤوا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم؛ فإنها سورة الحسين).. الإمام الصادق (عليه السلام) يدعونا لقراءة هذه السورة في الفرائض والنوافل؛ وما المانع في أن يلتزم المؤمن بقراءة هذه السورة في صلاة الفجر!..

-(وارغبوا فيها رحمكم الله)!.. أي عليكم بقراءة هذه السورة والرغبة فيها!..

-(فمن أدمن قراءة الفجر كان مع الحسين (عليه السلام) في درجته في الجنة).. إن المداومة على قراءتها، تجعل للإنسان علاقة مميزة مع الإمام الحسين (عليه السلام).. والسورة قابلة للحفظ، لذا فليحاول الإنسان أن يقرأها بين الوقت والآخر في فريضته ونافلته!..

سورة الفجر..
إن القرآن الكريم كتاب معجز ومذهل، ففي تفسير هذه الآية المتعلقة بنبي الله سليمان (عليه السلام) ﴿وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾، عدّ صاحب تفسير الميزان وجوه التفسير، وإذا بهذه المحتملات تزيد عن مليون احتمال!.. يقول: “فهذه نبذة من الاختلاف في تفسير كلمات ما يشتمل على القصة من الآية وجمله، وهناك اختلافات آخر في الخارج من القصة في ذيل الآية وفي نفس القصة، وهل هي قصة واقعة أو بيان على سبيل التمثيل؟.. أو غير ذلك؟.. وإذا ضربت بعض الأرقام التي ذكرناها من الاحتمالات في البعض الآخر، ارتقى الاحتمالات إلى كمية عجيبة وهي ما يقرب من ألف ألف ومائتين وستين ألف احتمال”!.. كذلك في هذه السورة، هناك كلام كثير حول هذه المفردات!..

-﴿وَالْفَجْرِ﴾..
الاحتمال الأول: إنه قسَمٌ بهذه الساعة المباركة!.. لذا، فإن الذين ينامون عن صلاة الفجر؛ هؤلاء قوم -على الأقل- خاسرون.. لأن هذه الصلوات الخمس هي بمثابة الدواء الذي يتناوله المريض: أي أن الذي لا يلتزم بموعد تناول الدواء؛ فإنه لن يستفيد منه؛ لأن هذا الدواء لا يؤثر أثره الكامل إلا عندما يتناوله الإنسان في موعده.. كذلك الأمر بالنسبة إلى الصلوات: فرب العالمين هندس الوجود، وهندس الروح الإنسانية؛ فرأى أن صلاة الفجر غذاء لهذه الروح.. ومن لا يستيقظ الفجر؛ فإنه لا يغذي نفسه بهذا الغذاء!.. وهناك تركيز من رب العالمين على هذه الساعة في أكثر من آية منها: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾، ﴿فَالِقُ الإِصْبَاحِ﴾، ﴿وَالْفَجْرِ﴾، ﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾.. فساعة الفجر العالم يضجّ بالملائكة؛ لأن ملائكة الليل تصعد إلى السماء، وملائكة النهار تنزل؛ أي وكأن هناك طريقاً بشارعين مكتظ ذهاباً وإياباً!.. فالذي يستيقظ ساعة الفجر؛ تراه ملائكة السموات والأرض وهو في حال عبادة؛ فترفع ملائكة الليل التقرير: بأن هذا المؤمن ختم ليله بقيام الليل، وملائكة النهار تشهد: بأن هذا المؤمن افتتح نهاره بصلاة الفجر؛ يا له من توفيق!.. قيل للصادق (عليه السلام): أخبرني بأفضل المواقيت في صلاة الفجر، فقال: (مع طلوع الفجر، إنّ الله تعالى يقول: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾؛ يعني صلاة الفجر تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، فإذا صلّى العبد الصبح مع طلوع الفجر؛ أُثبتت له مرتين: أثبتها ملائكة الليل وملائكة النهار).. فإذن، إن هذه الساعة ساعة مباركة.

الاحتمال الثاني: وقيل في الفجر هنا؛ فجر يوم مُعيّن، وهو فجر يوم العاشر من شهر ذي الحجة.. يقول صاحب تفسير الميزان: “ولا يبعد أيضاً أن يراد به فجر يوم النحر وهو عاشر ذي الحجة”.

الاحتمال الثالث: وقيل: المراد “فجر المحرم أول السنة”.

الاحتمال الرابع: وقيل: “فجر يوم الجمعة”.

-﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾.. أيضاً هنالك محتملات ثلاثة:
الاحتمال الأول: قيل: الليالي الأخيرة من شهر رمضان المبارك، حيث كان النبي (صلی الله عليه) يشد المئزر ويتفرغ للعبادة.. روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (كان رسول الله (صلی الله عليه) إذا دخل العشر الأواخر شدّ المئزر، واجتنب النساء، وأحيا الليل، وتفرّغ للعبادة).

الاحتمال الثاني: وقيل: العشرة الأولى من شهر ذي الحجة؛ هذه العشرة لها شرافة، سواء لمن كان في الموسم أو خارج الموسم.

الاحتمال الثالث: وقيل كذلك: الليالي العشر من أول شهر محرم.

وبناء على ما تقدم، فإن من أراد أن يحقق درجة من درجات القرب؛ عليه بإحياء العشرات الثلاث: في شهر رمضان المبارك، وعشرة ذي الحجة، وكذلك في عشرة محرم.

-﴿وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾..
الاحتمال الأول: الشفع هو يوم عيد الأضحى؛ لأن عدد الشفع زوجي.. وقيل الوتر؛ هو يوم عرفة اليوم التاسع: أي هذا شفع (العيد) وهذا وتر (يوم عرفة).. وهذا يناسب التفسير: بأن الليالي العشر هي الليالي الأولى من شهر ذي الحجة.

الاحتمال الثاني: وقيل في الشفع والوتر: الزوج والمفرد.

الاحتمال الثالث: وقيل: الشفع من صلاة الليل، والوتر من صلاة الليل.

-﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ﴾.. إن الإنسان عادة لا يُقسم إلا عندما يُشك في كلامه، لذا فإنه يروى أن أعرابياً عندما سمِع آية “﴿فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾، فصاح الأعرابي وقال: يا سبحان الله!.. من الذي أغضب الجليل حتى حلف؟.. ألم يصدقوه حتى ألجؤوه إلى اليمين؟.. قالها ثلاثاً، وخرجت فيها روحه”.. ورب العالمين يقسم في سور متعددة، ومع ذلك فإن بني آدم مع كل هذه الأقسام، لا يُبالي ولا يصدق في مقام العمل.. فهذه الأقسام فيها خاصية، ولكن لِصاحب العقل!.. وقد قال: ﴿لِّذِي حِجْرٍ﴾ٍ؛ لأنه -والله العالم- كأن العقل يحجر على صاحبه، كما يحدث في المحكمة عندما تُوقف التعامل المالي لإنسان؛ لأنه سفيه ومحجور عليه!.. فالعقل يُقيّد الإنسان، كما أن المحكمة تُقيّد السفهاء؛ حيث أن العاقل له محكمة داخلية، دائماً هذه المحكمة تُصدر قراراتها التي تُناسب مصلحته العليا!.. فإذن، ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ﴾ أي أن هذه الأقسام تنفع أصحاب العقول!..

-﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ﴾.. إن هذه الآيات فيها لحن سياسي، فهذه معادلة الأمم: أي أنه في كل زمان هنالك قوى كُبرى أو ما يسمى -هذه الأيام- بالقوى العظمى، ولكل زمان دولته!.. فهذه الأيام رمز التقدم العمراني هو: ناطحات السحاب، والمكوكات الفضائية، والأقمار الصناعية.. أما في الأزمنة الغابرة، فقد كان نحت الجبال مظهراً من مظاهر التقدم الحضاري والمدني، وهذه أهرامات مصر شاهدة على ذلك، فلو أرادت شركة من شركات المقاولات الكبرى هذه الأيام أن تبني مثل هذه الأهرام؛ فإنها تحتاج إلى معدات وإلى مدة طويلة، ولكن قبل آلاف السنين بنى الفراعنة هذه الأهرامات العملاقة.. فإذن، في كل زمان هنالك طاقات وقوى!..

-﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ﴾.. العماد جمع عمد، وهؤلاء القوم قاموا بنحتها من الصخر، وهذا الأمر يحتاج إلى همّة!..

-﴿الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ﴾.. القرآن الكريم لا يُبالغ، فهو كتاب رب العالمين ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾، يقول: كان لديهم حضارة متميزة في القمة من حيث القدرة.

-﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ﴾.. هؤلاء قوم آخرون، قطعوا صخر الجبال، ونحتوا منه بيوتاً.. فهذه هي قدرتهم من الناحية المالية والعمرانية، أما من حيث السطوة:

-﴿وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ﴾.. هذا لقب فرعون موسى، وهناك عدة روايات تذكر سبب هذه التسمية، منها:

١. تقول الرواية: “سألت الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: ﴿وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ﴾، لأي شيء سمي ذا الأوتاد؟.. قال: (لأنه كان إذا عذب رجلاً بسطه على الأرض على وجهه، ومد يديه ورجليه فأوتدها بأربعة أوتاد في الأرض، وربما بسطه على خشب منبسط فوتد رجليه ويديه بأربعة أوتاد، ثم تركه على حاله حتى يموت؛ فسماه الله عز وجل فرعون ذا الأوتاد لذلك)”..

٢. وعن ابن عباس قال: “أخذ فرعون امرأته آسية، حين تبين له إسلامها يعذبها لتدخل في دينه، فمر بها موسى (عليه السلام) وهو يعذبها، فشكت إليه بإصبعها، فدعا الله موسى أن يخفف عنها، فلم تجد للعذاب مساً، وإنها ماتت من عذاب فرعون لها.. فقالت وهي في العذاب: ﴿… رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ…﴾”..

٣. وعلى ما نقل أنه جعل على صدرها حجرا ثقيلاً كحجر الرحى؛ زيادة في التعذيب.. تقول الرواية: “إنها لما عاينت المعجز من عصا موسى (عليه السلام)، ووقوع الغلبة على السحرة، أسلمت.. فلما ظهر لفرعون إيمانها نهاها؛ فأبت.. فأوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد، وألقاها في الشمس، ثم أمر أن يُلقى عليها صخرة عظيمة، فلما قرب أجلها قالت: ﴿… رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ… ﴾…”.

-﴿الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ﴾.. الطغيان هي صفة عاد وثمود وفرعون.

-﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ﴾.. يقول صاحب تفسير الميزان: “والمعنى: فأنزل ربك على كل من هؤلاء الطاغين المكثرين للفساد، إثر طغيانهم وإكثارهم الفساد عذاباً شديداً متتابعاً متوالياً لا يوصف”.

-﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾.. أي: أيها الناس!.. أيها البشر!.. أيها المؤمنون!.. أيها المسلمون!.. لا يهولنكم فساد الظالمين، وإن بلغوا ما بلغوا من القدرة والفساد؛ فرب العالمين بالمرصاد!.. يمكن تشبيه ذلك برتل عسكري في أيام الحرب يمشي بكل خيلاء، وبكل اطمئنان.. ولكن خلف الجبل هناك جماعة من المقاتلين وبيدهم الراجمات والقاذفات، تخفوا ثم رموا القوم بما لديهم، وإذا بأولئك العسكر في لحظات يتحولون إلى فحم أسود!.. بني آدم قدراته محدودة، أما رب العالمين فإنه يقول: ليفعلوا ما يريدون، وليكثروا الفساد؛ فأنا بالمرصاد لهم جميعاً!..

وعليه، فإن قراءة التاريخ بين وقت وآخر أمر لا بأس به، ليرى الإنسان كم من الدول التي جاءت وحكمت ثم بادت، وبعض هذه الدول عندما تنتهي، لا يبقى لها أثر، وكأنها لم تكن!.. مثلما فعل الحكم الشيوعي البائد في بلاد روسيا، هؤلاء عندما جاءوا لم يُبقوا أثرًا للقياصرة الذين كان حكمهم حكماً ملكياً، لذا عندما جاءت “ثورة الفلاحين”، فلم يُبقوا لهم باقية ودمروهم عن آخرهم!.. وكذلك الأمر بالنسبة إلى دولة بني العباس، عندما جاءوا لم يبقوا أثراً لبني أمية، تتبعوهم تحت كل حجر ومدر‍!.. هكذا هي طبيعة الحياة: ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾!.. وهذه الأيام أيضاً عندما يسقط بعض الظالمين؛ فإن الذي ينتسب إليه انتساباً يلاحق في كل مكان!.. وهذا تأديب من رب العالمين، فهو يمهل ولكنه لا يهمل!..

فإذن، إن هذه الآيات تعطينا السنة الإلهية في الأمم وفي الشعوب، وهي مطمئنة للإنسان المؤمن، كي لا يصاب باليأس عندما يرى مدّ الطغيان، فالذين قتلوا الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء، لم يتوقعوا ثورة التوابين، ولا ثورة المختار.. فقد جاء في كتب التاريخ: “أن المختار كان يعاقب كل إنسان حسب جريمته”؛ هؤلاء رأوا جزاء عملهم في الدنيا قبل الآخرة!..

إن الآيات اللاحقة تنتقل من عالم إلى عالم: ففي الآيات السابقة كان الجو جواً عالمياً، أو كما يقال “أممياً”؛ ولكن هنا تنتقل الآيات إلى جوّ فردي!..

-﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾.. إن طبيعة بني آدم تجعله يرى النعمة هي علامة المزية، فيقول: رب العالمين أحبّني؛ فأعطاني: المال الوفير، والذرية الكثيرة، والمقام المميز.

-﴿إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾.. يقول صاحب تفسير الميزان: “أي: وأما إذا ما امتحنه واختبره، فضيق عليه رزقه؛ فيقول: ربي أذلني واستخف بي”.

يا له من تعبير لا يناسب مقام الربوبية!..

أولاً: إن تكرار كلمة ﴿ابْتَلاهُ﴾ في حالتي: النعيم، والتقتير؛ فهذا يعني: أن المال الذي يُعطى للإنسان؛ هو بلاء إلهي.. والمال الذي يُحرم منه؛ أيضاً بلاء إلهي: ﴿ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ﴾، ﴿ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾!.. وعليه، فإن المؤمن لا يفرح بالمال؛ لأن هذا بلاء بالنسبة له!.. ولا يحزن بفقد المال؛ لأن هذا أيضاً بلاء بالنسبة له!.. فهذا بلاء، وهذا بلاء: هذا بلاء الشاكرين، ليُعلم الشكر.. وهذا بلاء الصابرين؛ ليَعلم الصابر من غيره!..

ثانياً: إن المؤمن يرى كل ذلك ابتلاء من الله عز وجل، وهنيئاً لمن وصل إلى هذه الآية ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾.. فالإنسان الذي يُفاجأ بأنه ربح الملايين من دون احتساب، ولا يفرح؛ فذلك لأن هذا فيه حساب يوم القيامة، بل المؤمن في بعض الأوقات يفرح بالبلاء أكثر من فرحه بالرخاء!.. وعليه، فإن هذه الآية تدل على هذه الطبيعة الإنسانية.

-﴿كَلاَّ بَل لّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾.. هنيئاً لمن قام بهذا العمل؛ أي: أكرم اليتيم، وأكرم المسكين، وأكرم ذرية من ذراري رسول الله (صلی الله عليه)!.. فالمؤمن يبحث عن يتيم فقير من ذرية النبي (صلی الله عليه)؛ ليتكفله!.. وتقديم هذه الأموال البسيطة لليتيم، لا تُعدّ كفالة بالمعنى الكامل؛ إنما هي عبارة عن مساعدة.. أما الكفالة بكل معنى الكلمة، فهي:

١. أن يعامل اليتيم معاملة وَلَدِه؛ فيهتم بدراسته، وبتزويجه، وبرعايته: فكرياً، ودينياً كما تكفل أبو طالب (عليه السلام) النبي (صلی الله عليه)؛ هذه هي الكفالة التامة.. فهنيئاً لمن تكفل يتيماً؛ لأن جزاءه يوم القيامة، ما ورد عن الرسول الأعظم (صلی الله عليه) حيث قال: (من كفل يتيماً، وكفل نفقته؛ كنت أنا وهو في الجنة كهاتين.. وقرن بين إصبعيه المسبّحة والوسطى)؛ فكيف إذا كان اليتيم من ذرية النبي (صلی الله عليه)!..

٢. إن إكرام اليتيم فيه معنى أدق من الكفالة؛ فأن تكرمه بمعنى: أن تقدره في باطنك أيضاً، ولا تمُّن عليه.

-﴿وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾.. إن المؤمن موجود متنوّع، كما ورد عن الإمام علي (عليه السلام) في وصف المتقين، حيث يقول: (أمّا اللّيل: فصافّون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتّلونه ترتيلاً.. وأمّا النهار: فحلماء، علماء، أبرار، أتقياء..).. أي في الليل: عبادة مع رب العالمين، وفي النهار: خدمة للمجتمع وللغير!.. هكذا يُراد من المؤمن!.. بينما بعض المؤمنين يعيش ذاته وهمّ نفسه فقط، حتى أخروياً لا يفكر في الغير؛ هذا الإنسان ليس على نهج الحسين وآبائه وأبنائه (عليهم السلام).. فالمؤمن: إما أن يقوم بإكرام اليتيم، أو يحض على إكرامه إن كان عاجزاً فقيراً!.. فبعض المستضعفين مالياً قامت على يديه مشاريع عظيمة من خلال لسانه؛ وذلك لأن رب العالمين يجعل التأثير في كلامه أينما يذهب، وإذا به في شهر واحد، يجمع مالاً وفيراً لصدقة جارية.

فإذن، من لا مال له، فليكن حاضّاً ومشجعاً!.. فلسان الإنسان هو رأس ماله، لذا هناك من يكسب المال للخير بلسانه؛ أكثر مما يعطيه المعطون!..

-﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾.. إن رب العالمين وجه الخطاب مباشرة إلى النفس المطمئنة، لا عبر نبيه!.. ولكن هذه النفس من أين تأتي؟.. يقول تعالى في سورة “الرعد”: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.. أي أن الإنسان كلما رفع منسوب الذكر؛ كلما تقدم نحو النفس المطمئنة.. فالنفس المطمئنة بالدرجة الكاملة؛ هي النفس المشتغلة بذكر الله عز وجل في كل آن، وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) ما غفلوا عن الله طرفة عين!.. وهذا الأمر ممكن؛ لأن مقام الأئمة أعلى من مقام الملائكة الذين ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ﴾؛ فالملائكة لا تعجز عن التسبيح، لأن قوتها التسبيح، والمَلك إذا لم يُسبّح يموت؛ فكيف بأئمة أهل البيت (عليهم السلام) وعلى رأسهم النبي المصطفى محمد (صلی الله عليه)؟!..

فإذن، من يريد أن يصل إلى النفس المطمئنة؛ فإن الطريق إلى ذلك هو الذكر الكثير، كلما كثر الذكر؛ كلما اقترب من مقام النفس المطمئنة، الأقرب فالأقرب!.. ومن مصاديق النفس المطمئنة نفس الحسين (عليه السلام) الذي ما ترك ذكر الله عز وجل وهو يجود في مقتله، فكما ناجى ربه بالمناجاة المعروفة في أرض عرفة، كذلك ناجى ربه عند الزوال من يوم عاشوراء في مقتله قائلاً: (إلهي!.. رضا بقضائك، وتسليما لأمرك، لا معبود سواك، يا غياث المستغيثين)!.. ولعل الإمام ناجى بما لم يصل إلينا، فقد قبض الله عز وجل روحه وهو يلهج بذكر ربه.. فإذن،

-﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾.. إن الطريق إلى النفس المطمئنة؛ هو الذكر الكثير، والرضا بقضاء الله عز وجل: فمن يُريد الاطمئنان مع الله عز وجل؛ عليه أن يذكره ذكراً كثيراً.. وفي ساحة الحياة؛ عليه أن يكون راضياً!.. فإن كان راضياً؛ يصير مرضياً.. لأن الرضا الإلهي يأتي من بعد رضا الإنسان عن الله عز وجل: كن راضياً؛ تكن مرضياً؛ أي أن العلاقة علاقة متبادلة!.. وهذه النفس المطمئنة لها جائزتان، هما:

-﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي﴾.. إن عباد الله تعالى في عالم البرزخ، ولكن ما المانع أن نقول: أن المؤمن صاحب النفس المطمئنة، وهو في الدنيا يعيش مع جماعة المؤمنين، وروحه مع روح الأنبياء!.. وهو في الخلوة يعيش وكأنه مع الصالحين، وروحه مع النبي وآله (صلی الله عليه)!.. نعم، من الممكن أن يصل العبد وهو في الدنيا إلى درجة، أن يعيش المعية مع أرواح الأنبياء والمرسلين، وتكون روحه قريبة منهم.. ولهذا بعض المؤمنين ممن لا تسمح لهم ظروفهم بالذهاب إلى المشاهد، فإن الواحد منهم يكتفي بإغماض عينيه -وهو في المنزل، أو في الصحراء، أو على الجبل، أينما كان- ويقول: السلام عليك يا أبا عبد الله!.. وإذا به ينتقل بروحه إلى أرض كربلاء، وكأنه أمام الضريح فتجري دمعته!.. وإذا أراد أن يذهب للعمرة، يكفي أن يغمض عينيه ويقول: لبيك اللهم لبيك!.. وكأنه يطوف حول البيت؛ هذه المزية لا يصل إليها إلا من استذوق هذا الطريق!.. لذا على المؤمن أن يمشي في هذا الطريق، وفي يوم من الأيام قد يصل إلى مرحلة ﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي﴾.. ولهذا ورد في بعض الروايات: (كتبت إلى الهادي (عليه السلام): أنّ الرجل يحبّ أن يفضي إلى إمامه ما يحبّ أن يفضي إلى ربه، فكتب: “إن كان لك حاجةٌ فحرّك شفتيك، فإنّ الجواب يأتيك”)!..

فإذن، إن النفس المطمئنة تدخل في زُمرة عباد الله تعالى، وهذه هي الجائزة الأولى!..

ثانياً: ﴿وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾.. لقد ورد ذكر الجنة كثيراً في القرآن الكريم، مثل: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾، ﴿جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾، ﴿وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ﴾، ﴿جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ﴾، ﴿وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ﴾،.. الخ، ولكن هذه السورة الوحيدة التي يقول فيها رب العالمين: ﴿وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾!.. يقول صاحب تفسير الميزان -رحمه الله- “وفي قوله: ﴿وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ تعيين لمستقرها، وفي إضافة الجنة إلى ضمير التكلم تشريف خاص، ولا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنة إلى نفسه تعالى وتقدس إلا في هذه الآية”.. يبدو أن آسيا بنت مزاحم أدركت هذه الحقيقة لذا قالت: ﴿رَب ابْنِ لى عِندَك بَيْتاً فى الْجَنّةِ﴾.. والله العالم أن هناك جنة لعامة الناس؛ وهي جنات النعيم التي فيها الحور والقصور.. وهناك جنة خصوصية للبعض، هذه الجنة لا كجنة الناس؛ إنها ﴿جنّتي﴾ هذه الجنة فيها حتى ما لا يخطر على بال أهل الجنة!.. فهناك من يُعبّر عنها بـ”جنّة القرب”، أو “جنة الذات”؛ المعاني هنا دقيقة، كما يقال: وصل القلم إلى هنا وانكسر!..

وعليه، فإن المؤمن في هذه الدنيا لا يطمع في دخول الجنة؛ لأن هذا أمر مفروغ منه، إنما يطمع في ﴿جَنّتي﴾ -وهذه هي الجائزة الثانية- فهي لا تُعطى إلا لأهل النفوس المطمئنة، قال رسول الله (صلی الله عليه): (اتقوا الله معاشر الشيعة!.. فإنّ الجنّة لن تفوتكم وإن أبطأتْ بها عنكم قبايح أعمالكم، فتنافسوا في درجاتها).. يا لها من خسارة أن يعيش الإنسان في هذه الدنيا، ولا يحوز على هذه المرتبة!.. فهذه محلها الدنيا، لا في البرزخ ولا في القيامة؛ لأن هناك كل شيء يكون قد انتهى، لذا قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل).

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.