Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

إن كل إنسان منا يتمنى أن يكون سعيدا في حياته، ولكن المشكلة هي أننا لا نعلم ما هي مقاييس السعادة.. وهل أن السعادة تتعلق بلذائذ الأبدان، أما أن هناك لذائذ ما وراء الأبدان؟.. وهل المراد من السعادة النتائج الفعلية، أم أن القضية أعم من النتائج الفعلية والمستقبلية؟!..

إن على الإنسان محاولة برمجة حياته على أساس هذه المعلومة القصيرة: إن لكل منا رتبتين أو مرحلتين:

المرحلة الأولى: وهي مرحلة الواقع الذي هو فيه؛ فكل واحد منا يعرف نفسه {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}.. أي قد يمدح نفسه بشيء، ولكن عندما يخلو مع نفسه يعاتبها كثيرا،ً يقولون: أن فرعون عندما كان يخلو بنفسه، كان ينتقد ذاته؛ أي أين أنت وأين رب الأرباب!.. هو يعرف منزلته، ولكن هذه الدعوة لأجل استضعاف القوم!.. فإذن، المؤمن وغير المؤمن يعرف نفسه.

المرحلة الثانية: الجو المحيط به.. أي الزوجة والأولاد، هما أقدر على التشخيص من أي فردٍ آخر؛ وذلك لأنهم يرون حركاته الظاهرية.. أما الخلجانات الباطنية فالأعلم بها هو رب العالمين الذي {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}.. وبعد رب العالمين الذي يعلم خائنة الأعين، الإنسان نفسه هو الذي يعلم ذلك.. لا الزوجة التي تمشي مع الإنسان وهو يتظاهر بأنه لا ينظر إلى الحرام مثلاً، وهو يسترق النظر يميناً وشمالاً!..

فإذن، إن كل واحد منا يعرف ما هو فيه، ويعرف مستواه الفعلي، وأيضاً يعرف مستواه الشأني أو المقدر.. وعليه، فإنه هو بطاقاته وبقدراته من الممكن أن يكون أفضل مما هو عليه الآن.. المقصود هنا ليس الإنسان الكامل المتقي، ولا النموذج الأعلى والأرقى؛ لأن البعض قد يقول: أين أنا من تلك الدرجة؟!.. بل الإنسان العادي بقدراته الفعلية، وبوضعه الفعلي، وبوجوده الفعلي من الممكن أن يكون أحسن مما هو فيه الآن، وفي الاعتقاد بأنه لا يوجد على وجه الأرض مؤمن راضٍ عن نفسه، فإنه يرى أنه لو برمج نفسه من أيام شبابه وأيام بلوغه؛ لكان الأمر أفضل مما هو عليه الآن!..

بعض الأوقات المزارع يتفقد البستان، فيرى شجرة يابسة فيتركها.. ويرى شجرة حية، رطبة، أوراقها خضراء ولكن لا ثمرة لها.. ثم ينتقل إلى شجرةٍ مثمرة، ولكن المتوقع من هذه الشجرة مائة حبة من الثمار، وهو الآن يرى عليها عشر فيقول: لو سقيت الشجرة ماءً، ولو دفعت عنها الآفات؛ لكان الثمر أكثر مما هو عليه الآن!.. فهو من ناحية متأسف، ومن ناحية مؤمل لأن هنالك شيئا، ولكن ذلك الشيء لا يتناسب مع الجهد الذي كان من الممكن أن يُنتج تلك الثمرة العليا؛ وكذلك بالنسبة لنا.. فلينظر الإنسان إلى العظمة الإلهية كيف هي؟!.. إن رب العالمين يرسم لك ملفات حتى الملفات الوهمية، حيث أن لكل إنسان ملفين عند الله عز وجل: ملف حقيقي؛ وهو ما أنت عليه الآن.. وملف آخر لا يطلع عليه ولن يطلع!.. يقول: لو فلان كان كذا لكان الآن كذا، لو أيام ما بعد البلوغ لم يفعل تلك المعاصي الشبابية المتعارفة؛ لكان هو في سن الأربعين والخمسين بهذه المنزلة، ولأعطيناه هذه الرتبة!.. ولكنه عمل كذا؛ فصار كذا!.. فإذن، إن واقعنا شيء وما كان من الممكن أن نصل إليه شيءٌ آخر!..

إن هذه الفجوة الكبيرة التي بين الواقع الفعلي وبين الواقع الذي كان من الممكن أن نصل إليه، علينا معاهدة الله -عز وجل- أن نقللها.. لا نقول: أن نردمها تماماً؛ لأن الردم -تقريباً- شعار غير عملي.. ولكن نقلل هذه الفجوة قدر الإمكان!.. فالسعيد الذي رتبته الشأنية مقاربة لرتبته الفعلية، ولو كشف الغطاء يوم القيامة للإنسان، ورب العالمين أراه الرتبة الشأنية، فقال له: أنت الآن أسكن هذا القصر، ولكن لو عملت كذا، لو كنت كذا؛ لكانت هذه رتبتك!.. أيتهنأ الإنسان في الجنة؟.. أبداً!.. فرب العالمين يُنسي الإنسان هذه المرتبة؛ لئلا يعيش بعذاب وهو في جنانه.

إن هدفنا هو أن يرفع الإنسان من مستواه، لا إلى مستوى الأولياء والصالحين الكبار!.. ولكن يُحسن من وضعيته.. متعارف هذه الأيام في الدوائر الحكومية، أن الموظف يأخذ إجازة دراسية حتى يُحسن وضعه، كي يرفع من راتبه، وذلك لأنه قصر في دراسته أيام الشباب، وفاتته الدراسات العليا.. ولكن بأخذ دورات معينة، يُحسن وضعه إجمالاً.. هذا ما يقوم به العاقل!.. ولهذا قالوا قديما وحديثاً: (إن لم يكن ما تريد، فأرد ما يكون)، (الميسور لا يسقط بالمعسور)، وغير ذلك من القواعد في هذا المجال.

أفضل آية يمكن أن نجعلها شعاراً لهذه السلسلة من الأحاديث هي الآية: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}..

أولاً: من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى: هذه بشارة لجميع الأخوات المؤمنات، فالرجال باعتبار الإرث المضاعف لهم، وباعتبار القوامة على النساء، وبعض الأحكام الشرعية المختصة بهم، يظنون بأنهم أقدر على أن يصلوا إلى الله -عز وجل- من النساء.. فالمرأة تمر عليها أيام لا يمكنها الصلاة فيها ولا الصيام.. إذن، معنى ذلك أن المرأة في الدرجة الثانية في تحقيق القرب من الله -عز وجل- ولكن هذه الآية تسد الطريق أمام هذا التوهم.

ثانيا: إن صفة الذكورة والأنوثة من عوارض الأجسام، ولم نسمع في يوم من الأيام بمن يُقسم الأرواح إلى أرواح ذكرية وأرواح أنثوية!.. العواطف النسائية معروفة، ولكن الروح تلك اللطيفة الربانية في الذكر والأنثى على حدٍ سواء.. بل من الممكن أن تحقق المرأة درجات في القرب من الله -عز وجل- بشكل أسرع من الرجل!.. هذه دعوى، والإنسان المؤمن وحتى غير المؤمن، عندما يقول كلمة، يُتبع كلمته بالدليل فوراً، وإلا أصبح الكلام دعوى جُزافية.. والدليل على ما تقدم:

أولا: طبيعة المرأة الشاعرية والعاطفية.. مثلاً: نمر على منظر حادث مروع في الطريق، الرجال ينزلون من سياراتهم لتفقد الحادث، وهذا يصور وهذا ينظر، ولا ترى على وجهه أثرا من آثار التأثر الحقيقي!.. -ليس من المرجح أن يمر الإنسان المؤمن على هذه الموارد بهكذا وضعية، فهي من مقسيات القلب!.. ولذا ليس من المستحسن أن يديم المؤمن النظر إلى الموتى والقتلى-.. والمرأة عندما تمر أمام هذا المنظر، فتشهق بالبكاء لمنظر مؤلم، وهي لا تعلم من هو صاحب هذه الحادثة.. هذه الحالة الرقيقة في المرأة حالة جداً إيجابية، والمرأة التي تملك هذه القابلية العاطفية، لماذا لا توجه هذه القابلية، هذا النهر الجاري في طريق القرب إلى الله عز وجل؟..

المادة هي المادة، والمحبة هي المحبة، والود هو الود.. الأم التي تعطف على ولدها المزعج والمشاكس، بإمكانها أيضاً أن توجه هذا الحب تجاه رب العالمين.. ولهذا حتى في مجالس الدعاء وعزاء أهل البيت (ع) أكثر البكاء نسمعه من صنف النساء كما هو معروف.. فإذن، إن المرأة بطبيعتها العاطفية مُهيأة أكثر!..

ثانياً: فراغها.. إن المرأة لظروف قاهرة، استبدلت حياتها البيتية إلى حياة اجتماعية للضرورة!.. لهذا بنات شعيب عندما خرجن لمزاحمة رعاة الغنم -وسقي الماء عملية رجالية بحتة- في مقام التوجيه {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}؛ أي نحن عذرنا معنا.. والدين دين الواقعية: بنت نبي تخرج من بيتها بلا محرم، ولو كان معهن أخ لما سقى لهما موسى.. يبدو أنهما ابنتان غريبتان، والمتوقع كانتا شابتين؛ لأن موسى (ع) تزوج إحداهن.. والقادرة على سقي الماء، وجلب الماء؛ امرأة شابة لا امرأة كبيرة في السن.. معنى ذلك أن البنتين خرجتا، ولكن بعذر شرعي، وهو كبر سن نبي الله شعيب (ع).. رب العالمين له سنة في الحياة، فشعيب (ع) نبي يحتاج إلى ماء.. ألم يكن بإمكان رب العالمين أن يُكلف جبرائيل، أو من هو دون جبرائيل من ملائكة الرحمة، ويقول لهم: هذا عبدي شعيب في المنزل يحتاج شربة من الماء، أجلبوا له الماء؟!.. هل كان يعز ذلك على رب العالمين؟!.. كما أن آصف أحضر عرش بلقيس بطرفة عين، وآصف هو وصي نبي الله سليمان (ع)، وشعيب (ع) نبي لا وصي نبي!.. وتكليف شُعيب بأن يبعث بناته إلى سقي الماء، من أجل أن يعمل بقانون الأسباب.. فالذي يطلب من الله -عز وجل- المدد والتوفيق، ولا يجتهد كما يقول الرضا (ع): (من سأل الله التوفيق، ولم يجتهد؛ فقد استهزأ بنفسه).. نبي الله شعيب يحتاج الماء، يبعث بناته لجلب الماء.. ومريم (ع) تحتاج إلى رطب يُقال لها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}.

قد يقول قائل: إذا كان هكذا، فإذن ما الفائدة من الدعاء، نعمل ونتعب ولا نحتاج إلى الدعاء؟.. الجواب: نحتاج إلى الدعاء؛ حتى يؤثر هذا السبب البسيط بالتوفيق.. فمريم -عليها السلام- هزتها للنخلة كانت هزة بسيطة، ولكن الله -عز وجل- ببركة هذه الهزة البسيطة، أسقط عليها الرطب الجني!.. فالمؤمن يسعى سعيه ورب العالمين يقدر.. كما ورد في الحديث الشريف: (إن العبد يدبر، والله يقدر، والحكم لله)، التقدير ليس مفصولاً عن التدبير، فالذي لا يُدبر لا يُقدر له.

فإذن، إن المرأة أقدر من الرجل في تحقيق القرب إلى الله -عز وجل-؛ لعاطفتها الجياشة أولاً، ولفراغها ثانياً.. نساءنا في هذا العصر يتبرمن من البيوت، وشكواهن الجدران الأربعة عملت فينا ما عملت، فهذه الزهراء -عليها السلام- تفرح وتشكر الله -عز وجل- أن علياً -عليه السلام- كفاها مؤنة خارج المنزل.. هذه الحيطان الأربعة للبعض سجن، وللذي له برنامج مع رب العالمين كيوسف (ع) يقول: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ}؛ لأن في السجن ليس هنالك مزعج، ولكن في قصر زليخا هنالك ما يمنعه من ذلك.. وبعض المؤمنين الذين حبسوا ظلماً، وخاصة إذا حُبس لأمرٍ رسالي، عندما يقترب موعد إطلاق سراحه من السجن؛ يعيش العذاب والحسرة؛ لأنه سيفقد هذه الأجواء.. والبعض منهم يقول: تلك الأيام التي مرت علي يا ليتها تعود!.. كم كنا نعيش مشاعر لا توصف ونحن بين هذه الجدران الأربعة!.. إذا كان السجين المؤمن يستغل سجنه، فكيف بالمؤمنة التي يأتيها رزقها رغداً من كل مكان: زوج يتعب من الصباح إلى الليل، ليأتي لها بلقمة العيش، فتأكل هذه اللقمة وهي هنيئة مستريحة، لماذا لا تستغل هذا الجو؟.. والمؤمنة الواعية العاقلة فراغها عنصر إيجابي في هذا المجال.

ثالثاً: تربية الأجيال الناشئة.. لماذا المرأة أقدر من الرجل في تحقيق المكاسب؟.. لأنها تقوم بدورٍ الرجال محرومون منه، ألا وهو تربية هذا الجيل: هذا الذي أصبح عالماً، أو أصبح مجتهداً، أو أصبح إماماً للمسجد.. لذا على المؤمنين عندما تأتيهم الذرية، أول ما يدعون به: اللهم!.. اجعله من أنصار وليك، وإن لم تُقدر له ذلك يا ربِ، اجعل في نسله من يكون في زمرة إمامنا المهدي عجل الله فرجه.. والثواب الأعظم لهذه الأم التي تُغذيه بهذه التربية، والذي يمر على هذه المرأة في التسعة الأشهر، ومن ثم آلام الولادة؛ يعلم الله كم يرفع عنها من جبال المعاصي.. أما الرجال فلا يعيشون هذه الأجواء.

والخلاصة: أن المرأة ليس فقط لها قابلية مساوية للرجل، بل من الممكن أن تكون القابلية أكثر!..

ولكن قد يتبادر إشكال عند بعض الرجال: بأن هذه الدعوى نظرياً لا بأس بها: فالمرأة عاطفية عنصر إيجابي، ومتفرغة عنصر إيجابي، ومربية لجيل أيضا هذا إيجابي.. ولكن ما بالنا لا نرى الفقيهات، ولا نرى العارفات، ولا المؤلفات، ولا المتميزات؟.. ولهذا عندما يمزح الرجال، يمزحون بهذه الكيفية: أن النساء بعيدات عن هذه الأجواء، وليست لهن القابلية.

الجواب سهل جداً: ما الفرق بين مئة سنة واليوم من الناحية الجيولوجية: هل هذا النفط الموجود الآن تحت أرجلنا، خُلق قبل خمسين سنة؟.. لا، بل خلق من ملايين السنين!.. ولكنه لم يُستخرج، وعندما اُستخرج رأينا مظاهر: العمران، والحضارة، و…الخ.. والمرأة كذلك، والرجل كذلك: كلنا آبار نفط، ولكنها غير مستخرجة.. كلنا لنا القابليات الكبرى، ولكن كما يقول الشاعر:

كالعيس في البيداء يقتلها الظما *** والماء فوق ظهورها محمولُ

أول عذاب للمؤمن في عالم البرزخ؛ هو الحسرة.. الكافر عذابه الحيات والعقارب، أما المؤمن فأول عذاب له في عالم البرزخ هذه الحسرة: أنه ليتني عملت أكثر من ذلك!.. يقولون: إن الشيخ القمي -رضوان الله عليه- صاحب كتاب المفاتيح الكتاب الذي ملأ البيوت والمساجد، أنه رؤي في المنام، وكان يشتكي من تضييع بعض ساعات عمره، رغم أنه صاحب هذه المؤلفات الكبيرة: سفينة البحار، ومنتهى الآمال، والمفاتيح، ومنازل الآخرة … الخ.. فإذن، إن مشكلة الرجال والنساء: أن الكل لا يستثمر هذه القدرات والطاقات التي لديه؛ وهذه من شطارة الشياطين.. فالشيطان عمله مع الإنسان على عدة مراحل:

المرحلة الأولى: يحاول أن يشغل الإنسان بالحرام؛ بكبائر المحرمات.. إن يأس من ذلك -وهو المتوقع من المؤمنين- شغله بصغائر الذنوب.. وإن يأس من صغائر الذنوب؛ يُشغله بالمباحات عن المستحبات مثلاً يقول: نم هذه الليلة النوم مباح، واترك قيام الليل!..
المرحلة الثانية: إن كان عند الإنسان الإصرار الكبير للقيام بالمستحبات، يشغله بالمستحب الأدنى عن المستحب الأعلى.
المرحلة الثالثة: إذا يئس من كل ذلك، يحاول أن يفرغ المستحب من مضمونه وجوهره.
المرحلة الرابعة: وإذا يئس من ذلك كله يقول: يا ويلي هذا المؤمن يئست منه!..

إن من الكيد الإبليسي أن لا يدعك تستخرج الكنوز التي في باطنك.. قد يقول قائل: وهل عندي كنوز؟!.. أنا أصلاً بدولة ليس بباطنها آبار نفط،، أرض كباقي البلاد التي ليس فيها مستودعات نفطية؟!.. هذه الكلام ليس بصحيح، والدليل على ذلك: أن النفط في بعض البلاد يقترب من سطح الأرض، وترى على وجه الأرض الزفت وما شابه ذلك؛ فيعلم الإنسان أن هذه منطقة نفطية.. أوَ لم ير الإنسان آثار نفطه في بعض أيام السنة: كليلة القدر؛ التي يصبح فيها الإنسان وكأنه من كوكب آخر!.. وهو الذي كان قبل شهر رمضان يسهر الليل على الباطل أو الحرام -لا قدر الله- وإذا به من أول الليل إلى مطلع الفجر، وهو يحيي ليلة القدر.. ما الذي تغير؟!.. هو عزم على أن يحيي هذه الليلة.. وفي الحج ما الذي جعله يقاوم التعب والإرهاق يوم عرفة؟.. ليلة العيد، ويوم الحادي عشر، ويوم الثاني عشر.. فالحجاج لا يرتاحون إلا بعد عودتهم من الحج: حيث أن الثلاثة أيام من يوم عرفة إلى اليوم الثاني عشر: لا أكلٌ هنيء، ولا نومٌ مريح، وكله تعب في تعب.. ثم يرجع إلى وطنه، في اليوم الثاني والثالث والرابع، وإذا به يرتكب بعض المحرمات وهو الحاج، ذلك الذي كان يدعو في عرفة، لعله في ذكرى يوم عرفة في الأسبوع القادم، قد يكون عاكف على بعض الكبائر من المحرمات.

فإذن، كلنا لدينا هذه القابليات، ولكن كما قلنا: من حيل إبليس أن يحول بيننا وبين استخراج هذه الكنوز {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}.. فكروا في هذين الاصطلاحين: ما الفرق بين لنحيينه حياةً طيبة، وبين لنطيبن حياته؟!..

إن القرآن الكريم قال: {لَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} لم يقل: لنطيبن حياته.. والبعد بين التعبيرين بعد المشرقين!.. ومفتاح الحل هو: {لَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}.. الذي ليس في هذا الطريق، الذي ليس في سبيل العمل الصالح، والقرب إلى الله تعالى؛ هذا الإنسان في حكم الأموات!.. هذا ميتٌ لا حياة له: جسمٌ يمشي، وفمٌ يأكل، وجسدٌ يتمتع، وأنفٌ يشم الروائح الطيبة!.. هذا الإنسان جسمٌ يتلذذ كما نراه اليوم في عالم الشرق والغرب.. الذين ماتت أرواحهم، هؤلاء لا روح لهم، هؤلاء ميتو الأحياء.

أما الذي في الطريق إلى الله -عز وجل-، فرب العالمين وعده بروحٍ أخرى غير هذه الروح الحيوانية.. نحن نستمتع هذه المتع بروحنا الحيوانية.. الحصان أو غير الحصان أيضاً يتلذذ بالبرسيم وما شابه ذلك.. المعادلة هي المعادلة، لولا التزاوج لما رأينا هذه الحيوانات على وجه الأرض: التناسل والتكاثر والمناسلة والمعاشرة والأكل والشرب، صفةٌ مشتركة بين الأرواح الحيوانية.. الروح الحيوانية التي في الإنسان، هي نفس الروح الحيوانية التي في البقر والغنم.

إن القرآن الكريم يقول: أن الإنسان عنده أرواح أخرى، هذه الأرواح حبسناها في عالم آخر لا ننزل هذه الأرواح إلا لمن يستحق!.. ولا يعني ذلك أن غيرنا حيٌ، ولكن حياته غير طيبة.. هو في الأصل لا حياة له.. فرق بين حياةٍ موجودة غير طيبة، وبين حياةٍ غير موجودة.. فالمؤمن حيٌ بهذه الروح الإنسانية.. فإذن، إن علينا أن نتعلم كيف نكتسب هذه الروح الإنسانية، التي بها تطيب حياتنا؛ وإلا ينطبق علينا قول الله تعالى {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ}.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.