Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

– إن المراد من هذه الأحاديث، هو أن يصل الإنسان إلى درجة معرفة هذه الأمور الثلاثة: يقول الإمام علي -عليه السلام-: (رحم الله امرأ أعد لنفسه، واستعد لرمسه.. وعلم من أين، وفي أين، وإلى أين)؟.. الإنسان الذي يرى نفسه في سفر إلى الله -عز وجل- وأن هنالك مبدأ ومقصدا، وأن هنالك زادا ورحلة؛ هذا الإنسان يكون له شأن آخر في الحياة.. إن الإنسان في ليلة السفر، له جو خاص في المنزل، وقديماً قالوا: إن المسافر كالمجنون.. من باب الذهول الذي يعتري المسافر؛ فالمسافر الذي يريد أن يسافر، له جوه النفسي.

وعليه، فإن الإنسان الذي يرى نفسه في هذا السير التكاملي -الذي يفهم من خلال النصوص المختلفة: أن البعض يرى كلمة “السير” هذا، خاص ببعض الفرق، والسائرين إلى الله -عز وجل-، وبأهل السير والأخلاق والعرفان وما شابه.. وهذه من الأمور التي يؤسف لها، حيث أنا جعلنا هدف الخلقة والحياة، خاصاً بجماعة من الناس.. والحال بأن الله -عز وجل- ما دام أنه خلق الإنسان مكلفاً وعاقلاً وشاعراً وملتفتاً، فإن كل هذه التكاليف متوجهة إليه بلا شك ولا ريب.. والقليلون الذين يعيشون حقيقة هذا السفر-.. يعيش حقيقة هذا السفر، ويعد له العدة.. والمصيبة الكبرى أن الإنسان بمجرد أن يذهب من هذه الدنيا، يستفيق على سفره؛ ولكنه يستفيق وقد وصل إلى المحطة الأخرى، وليس له زاد في تلك المحطة.

– إن الكتاب الذي جمع خطب الإمام علي (ع)، هو نهج السعادة، قبل أن يكون نهجاً للبلاغة.. إن على الإنسان عندما يسمع وصية لعلي (ع) أو خطاباً من علي لأصحابه، عليه أن يجعل نفسه في زمرة أصحابه، ولا يقول: إنما المخاطب كميل، أو المخاطب سلمان.. لا، أبداً!.. بل المخاطب كل إنسان ينتمي إلى مدرسة علي، ومدرسة علي (ع) هي مدرسة القرآن الكريم.. وهنيئاً لهذا الصحابي -كميل- الذي توج حياته أخيراً بالشهادة بين يدي الله عز وجل.. كان أمير المؤمنين -عليه السلام- جالساً في مسجد البصرة، ومعه جمع من أصحابه، فسأله أحدهم عن تفسير الآية الكريمة: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}.. فقال الإمام عليه السلام: (هي ليلة نصف من شعبان (أي ليلة 15 شعبان))، ثم أقسم الإمام قائلاً: (والذي نفس علي بيده!.. ما من عبد إلا وجميع ما يجري عليه من خير أو شر، مقسوم له في ليلة النصف من شعبان إلى آخر السنة في مثل تلك الليلة المقبلة، وما من عبد يحييها، ويدعو بدعاء الخضر -عليه السلام- إلا أستجيب له).. وانفض المجلس وانصرف الإمام.. حل المساء وانتشر الظلام وأوى الناس إلى النوم، وفي تلك الساعة نهض كميل بن زياد إلى أمير المؤمنين وفي قلبه سؤال.. طرق الباب، قال الإمام -عليه السلام-: ما جاء بك يا كميل؟.. فقال كميل بأدب: يا أمير المؤمنين، دعاء الخضر.. فقال له الإمام بحب: اجلس يا كميل!.. ثم قال: إذا حفظت هذا الدعاء، فادع به كل ليلة جمعة.. اكتب!.. تهيأ كميل للكتابة.. وراح الإمام يتلو عليه الدعاء، الذي يردده اليوم ملايين المسلمين حيث اشتهر بـ “دعاء كميل”.

– إن الله -عز وجل- قدم لكميل راوي ذلك الدعاء، الجائزة قبل العمل.. هو قدم نفسه شهيداً في طريق الإمامة، ولكن الجائزة المعجلة أنه وصل إلينا هذا الدعاء الذي لا يخلو منه بيت مؤمن، ولا يتركه مؤمن في ليالي الجمعة.. أئمة أهل البيت (ع) يحبون أولئك الذين يقفون على كل كلمة من كلمات الأحاديث، فيستخرجون منها درساً.. فكميل كان هو المبادر: حيث أنه ذهب إلى دار علي (ع)، ولعله كان في وقت غير متعارف فيه الزيارة، وطلب من الإمام ذلك الحديث.. ولكن في هذا الحديث الشريف يقول: (أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فأخرجني إلى الجبان.. فلما أصحر، تنفس الصعداء، ثم قال: يا كميل، إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها).

– ما هو الدرس العملي من هذه الفقرة؟..

أولاً: مضاعفة الاهتمام بمن فيه بادرة خير.. إن عليا (ع) رأى من خلال هذه الشخصية -شخصية كميل- مادة مستعدة، فلم ينتظر كميلا ليطرح تساؤله، وإنما أخذ بيده.. وهذا درس للعلماء العاملين في المجتمع: حيث أن على العالم أن ينثر علمه، فهو بمثابة زارع ينثر بذره.. فإذا رأى نبتة مستعدة، يجعل هذه النبتة في منزله، ويخصها بالرعاية المستمرة؛ لأن هذه نبتة فيها علامات النمو والتميز.. فهذه من وظائف المربين في المجتمع، أن يضاعفوا الاهتمام بمن يرون فيه بادرة خير.

ثانياً: تهيئة الأجواء المناسبة.. علي (ع) يرى في كميل قابلية، فيأخذ بيده في خلوة، ويأخذه إلى الجبان.. فإذن، إذا أردت أن تنصح أحداً، لابد من تهيئة الأجواء المناسبة.. طالما وعظنا الناس: الزوجة والأولاد وغيرهم، ونحن في حال الغضب.. فالذي ينصح أخاه المؤمن أو أخته المؤمنة أو زوجته وهو في حال الغضب، هذه النصيحة ترتد إليه.. بل قد يجعل الشخص يتحداه في نصيحته!.. إن بعض الفتيات عندما يردن أن يسجلن موقفاً أمام الأب المؤمن، فأول خطوة لهن هي خلع الحجاب؛ لأنها تريد بهذه الحركة أن تستفز الأب، الذي لم يعقد علاقة أنس ومحبة مع أولاده: ذكوراً أو إناثاً.. فإذن، لابد من تحين الفرص المناسبة.. فعلي (ع) كان بإمكانه أن يعظ كميلا وهو في بيته، ولكنه أخذ بيده وذهب به إلى المقبرة؛ ليعيش شيئاً من أجواء الآخرة.

– إن هنالك محطات على الأرض، تربط الإنسان بالدار الآخرة: منها زيارة المرضى.. فالمريض يذكّر الإنسان بشيء من عوالم الآخرة، وخاصة المريض الذي يعيش سكرات الموت.. فهؤلاء النظر إليهم، يستدر الدعاء، ادع للمريض!.. والنبي الأكرم (ص) يقول: (إنّ عائد المريض، يخوض في الرحمة.. فإذا جلس، غمرته).. وروي عنه (صلى الله عليه وآله) أيضاً: (ما من رجل يعود مريضاً، فيجلس عنده، إلاّ تغشّته الرحمة من كلّ جانب ما جلس عنده.. فإذا خرج من عنده، كتب له أجر صيام يوم).

– إن الذي يجعل نصب عينيه مراحل ما بعد الحياة الدنيا، فإنه يرى هذه النتيجة الحتمية بشكل يقيني.. يقول تعالى في سورة البقرة: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}.. فالإيمان بالغيب، يشمل الإيمان بالآخرة.. ولكن في ختام هذه الآية، تخص الآخرة بالذكر، {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}.. فمن موجبات إثارة هذا اليقين، وتنمية هذا اليقين، الذهاب إلى المستشفيات وإلى المقابر أيضاً؛ ولكن لا بالشكل المذهل.. فالبعض قد يذهب إلى المقابر وقد يرتكب الحرام فيها، فبدلاً من أن تكون آلة التنبيه، تصبح المقبرة أداة المعصية.

فإذن، إن الذهاب إلى المقابر، هو من المحطات الجميلة في حياة الإنسان المؤمن.. نعم، يكون ذلك إذا حولنا المذاق.. فمن الأمور التي يهتم بها الإنسان المؤمن، تغيير ذائقته وذوقه والحلاوة التي يستشعرها في وجوده.. إن المؤمن يصل إلى درجة، تتحول لديه المذاقات.. قطعة الحلوى لذيذة وحلوة، إلا أنها لا تغري المؤمن كثيرا.. فالحلوى خارج الفم لا طعم لها، وبعد التجاوز من الحلقوم والدخول في المريء والمعدة، أيضاً لا طعم لها؛ لأنها تصبح مادة حمضية، ولها رائحة كريهة.. فهي تمر على اللسان ثوان، وتنزل في المريء؛ لذا فإن المؤمن لا يرى أن القضية مغرية.. فالمؤمن يترقى في مزاجه، ليتحول إلى إنسان يستذوق حلاوة أخرى، ما بعد هذه الحلاوات.. هنالك حلاوة واستمتاع بالمطعوم، وهنالك استذواق أو استمتاع بالمشموم، ثم الملمس، وهنالك روافد من العين.. العين تنظر للمناظر الجميلة، وطبلة الأذن تلعب عند الاستماع للأصوات الموسيقية.. فالمؤمن في عملية تحليلية -هي من أفضل أنواع العمليات الجراحية في الوجود؛ لأن ثمرة هذه العملية ثمرة غالية جداً- يذهب ليبحث عن مراكز تحسس اللذائذ.. فالذي يدرك اللذة هي الروح، هو هذا الجهاز الباطني.. والمؤمن يذهب ليتلاعب في هذا الجهاز؛ بمعنى أنه يبحث عن لذائذ معينة، ويجعلها في إبرة، ويضع هذه الإبرة في ذلك المركز الخفي، ويجعل اللذة في ذلك المكان.. بمثابة إنسان يستعمل المخدرات شماًًًً، وإنسان يدخل المخدر في دمه مباشرة.. طبعاً هذه تأثيرها أكثر.

– إن المؤمن يحاول أن يكتشف أين اللذة في حياته، ومصادر اللذة الباطنية، ويحاول أن يؤنس نفسه بهذه الحلاوة الباطنية.. ولهذا الإمام الكاظم (ع) عندما يدخل السجن، فإنه يشكر الله على هذه النعمة -نعمة الفراغ-، وذلك لأن الإمام إذا كان خارج السجن، فهو مبتلى بشؤون الأمة وبمراجعات الآخرين.. وإذا كتب الله له أن يدخل السجن، فإنه يحول السجن إلى روضة من رياض الجنة؛ أنساً بالله -سبحانه وتعالى-، ويشكر الله -تعالى- على هذه النعمة.. ولكنه دعا على نفسه: (يا مخلص الشجر من بين رمل وطين وماء… خلصني من يدي هارون) للهتك الذي ورد عليه (ع)، لذا طلب من الله تعالى الفرج.

– ما الفرق بين اللذائذ المعنوية واللذائذ الحسية؟..

– إن اللذائذ المعنوية لا سلبية لها.. الأكل الكثير فيه تذوق كثير، ولكن الإكثار من الحلوى، يؤدي إلى السّكر في بعض الحالات.. كل متع الدنيا، عندما نبالغ فيها -سواءً المتع الشهوية، أو البطنية، أو ما شابه ذلك- محفوفة بالمكاره.. القضية مكلفة لا كل أحد يمكنه أن يأكل شهد العسل -مثلاً- لأنه يحتاج إلى مال.. ولكن في اللذائذ المعنوية، ليس الأمر كذلك.. المؤمن في لحظة، بإمكانه أن يعيش أرقى لذائذ الوجود، إذ يكفي أن يتوجه إلى القبلة: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}، ثم يقول: الله أكبر!.. فيطير في عالم بعيد، (الصلاة معراج المؤمن)، لا الصلاة الواجبة فحسب!.. لم تقل الرواية: الفريضة معراج المؤمن!.. ولكن كلما اشتاق المؤمن إلى عالم الغيب، وكلما ضاقت نفسه في الدنيا، يقف بين يدي الله -عز وجل- ويقول: الله أكبر!.. ويسيح سياحة، تدرك ولا توصف.. حق لبعض العلماء الأبرار أن يقف في جوف الليل بعد الوصول لبعض هذه اللذائذ، يتحدى أهل الدنيا، ويقول: أين الملوك وأبناء الملوك من هذه اللذة!.. لذة لا تكلف الإنسان شيئاً أبداً!..

– إن الذي جعل يوسف صديقاً مقرباً ومعلّماً، لا مسألة انصرافه عن زليخا.. كثير من المؤمنين، طوال التاريخ وقعوا في مواقف مشابهة ليوسف (ع)، وغضوا أنفسهم عن الحرام!.. ولكن أين التميز في يوسف (ع)؟.. التميز في يوسف في كلمة مهمة جداً يذكرها القرآن الكريم، ولكن نمر عليها مرور الكرام.. في سورة يوسف، يقول: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}، لم يقل: أنفع إلي، ولم يقل: أكثرها مصلحة.. بل قال: {أَحَبُّ إِلَيَّ}؛ لأن في السجن رضا الله -عز وجل- هنالك خلوة مع رب العالمين.. فأين الخلوة مع الرب، وأين الخلوة مع زليخا، أين الثرى من الثريا؟.. لو أن الإنسان فترة من حياته فقط، تعالى عن الشهوات وعن الحرام.. فإن هذه الذائقة تتغير عنده، ولا يعد يستمتع بالدنيا ذلك الاستمتاع الكثير، فضلاً عن الحرام في هذه الدنيا.. فإذن، إن الدرس البليغ من هذا الحديث، أن نغير هذه الطبيعة في أنفسنا.. بحيث تتحول حلاوة الوجود عندنا، إلى حلاوة مرتبطة بعالم الغيب.

– إن كميلا قال: (فلما أصحر، تنفس الصعداء).. لماذا تنفس علي (ع) الصعداء؟..

– إن عليا (ع) عاش في هذه الدنيا، وهو يعيش البلاء تلو البلاء، والمرارة تلو المرارة.. يتّضح ذلك من كلامه -سلام الله عليه-: (فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى).. المؤمن له حزن خفي لا يفارقه، ولكن هذا الحزن ليس لهمّ المعيشة، ولا لكونه -مثلاً- باطلاً عاطلاً عن العمل، ولا لأنه أخفق في الوصول إلى امرأة يحبها، أو منصب يحبه.. المؤمن يعيش دائماً حالة حزن، هذا الحزن مربي، ما سمعنا أحد من أولياء الله -عز وجل- حزنه أدخله المستشفيات النفسية.. ولكن أهل الدنيا حزنهم يدخلهم المستشفيات، والبعض منهم قد ينتحر.. هذا حزن أهل الدنيا، عاقبته الانتحار؛ ولكن حزن المؤمن، حزن يربيه.

– ما هي روافد الحزن في المؤمن؟..

– إن المؤمن (حزنه في قلبه، وبشره في وجهه).. هذا الحزن من أين جاء:

أولاً: حزن رباني.. إن حزن المؤمن رباني، وحزن رسالي.. فرب العالمين بتعبير البعض: زبائنه قليلون، وزبائن الدنيا كثيرون.. فرب العالمين السائرون إليه هم الأقلون عددا في كل عصر.. لو فتشنا عن العدول من الناس في عامة الناس، كم تر من الذين يمكن أن تصلي خلفهم؟.. معنى ذلك أن من لا تحرز فيه العدالة، هو في مظان الوقوع في الإثم.. ونسبة المسلمين أقل من نسبة غير المسلمين بكثير، ومن المسلمين كم هم الملتزمون؟.. فالمؤمن يحزن عندما يرى هذه الرسالة غريبة، {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ}.. رب العالمين يصل به الأمر إلى أن يقول كلمة ثقيلة على بني آدم، لو أدرك بني آدم هذه الكلمة، للطم على رأسه.. أو تعلمون رب العالمين ماذا يقول عنا كبشر لا كمؤمنين؟.. {لَفِي خُسْرٍ}، {لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}، {ظَلُومًا جَهُولا}، {ضَعِيفًا}، {هَلُوعًا} كل هذه المعاني موجودة، ولكن يصل الأمر برب العالمين أن يقول: {قُتِلَ الإِنسَانُ}؛ أي الموت لك يا بني آدم!.. {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}؛ أي ما أشد كفره!.. ليس الكفر أن تعبد هبل واللات والعزى، إنما الكفر أن تغطي نعمة الله -عز وجل-، وأن تعيش في هذه المناخات الملائمة، وأن يمر عليك شهر رمضان المبارك، ولا تخرج بتغيير أبداً في باطنك.. نعم هذه صورة من صور الكفر!..

ثانياً: غيبة الولي.. إن المؤمن من روافد حزنه، هذا الذي نقرأه في كل ليلة في دعاء الافتتاح: (اللهم!.. إنا نشكو إليك فقد نبينا -صلواتك عليه وآله- وغيبة ولينا، وكثرة عدونا، وقلة عددنا، وشدَّة الفتن بنا…).. إلخ.. أو تعلم بأن المؤمن في كل سبت له حزن؟.. الأيام مقسمة على أسماء الأئمة (ع)، ولا غرابة في ذلك!.. الأشهر اثنا عشر شهرا، بعدد أئمة أهل البيت (ع).. يوم السبت يوم رسول الله (ص)، نقول في الزيارة: (فما أعظم المصيبة بك، حيث انقطع عنّا الوحي، وحيث فقدناك، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون).. الإمام (عج) يوم الجمعة يرى محبيه، ويرى مقدرات الأمة، ويرى كل شيء بيد غيره.. وهو الإمام الذي (بيمنه رزق الورى، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء)، (لولا الحجة، لساخت الأرض بأهلها).. هذا الموجود الذي عبد الله من أكثر من ألف عام نعم العبادة!.. السبب المتصل بين الأرض والسماء.. في دعاء الندبة نقرأ: (أين وجه الله الذي إليه يتوجه الأولياء)؟.. وإذا بهذا الوجه، وإذا بهذا السبب، وإذا بهذا الحبل الممدود، يعيش غريباً في الأرض.. نعم هذا من موجبات الحزن، فالإنسان كلما زاد ذكراً لإمامه، كلما زاد هماً وغماً.

ثالثاً: رقة القلب.. إن المؤمن له حزن يتحول على شكل مناجاة في جوف الليل، هذه المناجاة تستدر منه الدمعة.. إذا جرت من المؤمن الدمعة، فإنه يعيش ألذ لذائذ الوجود؛ لأنه إذا رق القلب، وجرى الدمع؛ فتحت له أبواب السماء.. فيأخذها فرصة، ليتكلم مع الله عز وجل.. مثل شاب يريد أن يلتقي بمن يحبها، وهي تتمنع عليه.. عندما يصاب بمرض من الأمراض، يتصل بها ويقول: يا فلانة أنا اليوم مريض، لابد أن أزورك.. فإذا حاز على اللقاء، يشكر الله على نعمة المرض، يقول: نعم المرض الذي أوصلني إلى من أحب!.. أليس كذلك؟!.. والمؤمن كذلك، فهو يعيش قساوة القلب، فإذا جاءه هذا الحزن، وجرت دمعته؛ يحول المجلس إلى مجلس أنس برب العالمين.. حاول أن تحول هذه الدمعة: دمعة الرثاء، ودمعة البكاء على مصائبهم، إلى دمعة المناجاة، وبث الهموم، وطلب التوبة بين يدي الله عز وجل.. ما المانع أن نحول دمعة الولاء، إلى دمعة التوحيد؟.. نعم القلب يرق بذكر أهل البيت، فيحوله الإنسان إلى ذلك.

رابعاً: مجهولية المستقبل.. إن الرافد الأخير للحزن، هو رافد مجهولية المستقبل: نحن سائرون إلى مستقبل مجهول.. نحن إلى أين سائرون؟.. لو الآن دخل هذا الملك الكريم الذي سنراه يوماً ما -بعض المؤمنين في الحج أو في غيره، يقوم بطواف وبأعمال ويهديها إلى الملك “عزرائيل”، يقول: حتى أصادقه في الدنيا، فعند قبض الروح لعله يرفق بي قليلاً.. نعم، هذه حركة جيدة!..- لو دخل هذا الملك الكريم وقال: أريد أن أقبض روح واحد منكم، من مستعد لأن أذهب به الليلة إلى عالم الآخرة؟.. ألا تعتقد أنه يا حار همدان من يمت يرني.. نعم إذا مات المؤمن، فقبره روضة من رياض الجنة.. من منا مستعد؟.. في سورة الجمعة يقول تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.. فالذي لا يتمنى الموت كأنه ظالم من الظالمين.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.