Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

نشر النداء الحسيني..
إن الإمام زين العابدين (عليهِ السلام) وعمتهُ الحوراء زينب، قاما بنشر النداء الحسيني، وإيصاله إلى الآفاق، وذلك عندما رفعا لواءَ الإعلام الحُسيني بعدَ واقعةِ كربلاء.. فإلى يومنا هذا هناك مساجد ومشاهد في عدة بقاع من الأرض، منها: العراق ولبنان والشام ومصر، تلك المشاهد عامرةٌ بالزوار؛ لأنها منتسبة إليهم (عليهم السلام).

تجدد الذكرى..
إن البعض قد يرى شيئاً منَ المُبالغة في إحياءِ ذِكر الإمام (عليهِ السلام) في العاشر من محرم.. وما يجري في الأربعين من إحياءِ ذكرهِ (عليهِ السلام) أعظم من يومِ عاشوراء!.. فيوم عاشوراء يومٌ عَظيم ويومٌ مشهود، ولكن بعدَ أربعين يوماً من استشهادهِ، نرى أنَ هذهِ الحَركة يبدأ زخمها من جديد، كنبتةٍ تورقُ ثمرتين في شهرين، هما شهري: محرم وصفر.. وهذا التجدد له أسبابه:

أولاً: الأذى المستمر.. لو أنَ أُماً علمت أن ولدها تعرض لأذى بليغٍ: إما من خلال قتل ولده، أو أنه هو الذي قُتل؛ كم تتأذى من هذا الخَبر؟!.. ولو أنَ هذه الأم لها ابنة؛ فإنه من الطبيعي أن تتأذى لأذى أمها، ولا تهدأ إلا عندما يتم الانتقام من القاتل!.. هنالك آيةٌ في القرآن الكريم تقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا﴾.. ورَب العالمين أوذيَ في الحُسين؛ وأيُّ أذى أعظم ممّا جرى على الحُسينِ (عليهِ السلام)؟.. هؤلاء الذينَ قتلوا سَيدَ الشُهداء؛ آذوا رسولَ الله (صلی الله علیه) ومن قَبلِ ذلك آذوا رَبَ العالمين.. نحنُ عندما نتأذى يظهر ذلك على شكلِ بُكاء أو على شكلِ شكوى، أما في جهة الربوبية فنحنُ لا يمكننا أن نعلم ماذا جرى!.. ولكن هُنالِكَ أذىً بليغاً وقعَ في عالم السماء، ومن مظاهر تأذي العرش لما جرى في يوم عاشوراء: بُكاء الملائكة االشعث الغُبر الذين يقيمون على قبرِ الحسين (عليهِ السلام)!..

ثانياً: عدم الانتقام.. إن هذا الأذى، وقع ولكن أي شيء عَوضَ هذا الأذى:
أ- هل رجع الحُسين (عليهِ السلام) للحياة، وانتقمَ من القَتلة؟.. أما ما قام به المختار؛ فإنه شَيءٌ بسيط بالنسبةِ لما جرى على الإمامِ (عليهِ السلام) في يوم عاشوراء.

ب- إن خَط أهل البيت (عليهم السلام) خَطٌ حَيٌّ نابض، ولكن هذا الخَط لم يستوعب الممالك والعالم.. فالذي يُهدئ الخَطب ويريح النفس؛ هو ظهورِ ولدهِم المهدي (عليه السلام)، الذي ينتقم من قَتلة الحُسينِ (عليهِ السلام) حيث يستند إلى جدار الكعبة منادياً، ومطلقاً تلك الصرخة الخالدة: (ألا يا أهل العالم إن جدي الحسين قتلوه عطشانا!.. ألا يا أهل العالم إن جدي الحسين طرحوه عريانا!.. ألا يا أهل العالم إن جدي الحسين سحقوه عرينا)!..

ثالثاً: الغضب المستمر.. إن رَب العالمين ما من آنٍ يَمر على الوجود بعدَ واقعةِ عاشوراء إلا ولهُ غضب، ألا نقرأ في سورة الحَمد في كُل يَوم: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾؛ فاللهَ عزَ وجل لهُ غضب، وأيُ غضبٍ أعظمُ من هذا الغضب!..

أ- إن السفير الذي يُقتل في الدولة المرسل إليها، أو يُهان فيها، وتُسبى عائلته؛ فإن ذلك يتسبب بمشاكل كبيرة، وقد يؤدي إلى قطيعة أو حروب بين الدولتين.. تارةً مواطن عادي يُقتل في تِلكَ البلاد، بل مائة مواطن؛ يُمكن احتمال ذلك، ولكن الأمر يختلف بالنسبة إلى مبعوث الدَولة؛ فكيفَ إذا كانَ السَفير من أفضلِ سفراءِ المملكة أو المَلك؟!.. والحُسين (عليهِ السلام) كان: الإنسان الأول، وحُجة اللهِ على الخَلق، وخليفة اللهِ في أرضه، وهو الذي كانت تتنزل عليه الملائكة في ليلة القَدر السابقة ليومِ عاشوراء، لقوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾.

ب- إن هذا الإمام هو سفيرُ اللهِ في الأرض، فهؤلاء كانوا أنواراً مُحدقين بالعرش.. ولو خُولِفَ هذا السفير؛ لهانَ الأمر!.. ولكنه في يومِ عاشوراء قُتل، والمأساة التي وقعت على الحُسين (عليهِ السلام) ليس هناك واقعة إنسانية على وجه الأرض -بعيداً عن الجانب الإلهي والديني- بهذهِ المأساة وبهذهِ الفاجعة!.. فالحُسين (عليهِ السلام) شخصيةٌ يعرفها ويقدرها حتى الذينَ لم يؤمنوا باللهِ عَزَ وجل: فالملاحِدة عندما يصلونَ إلى الحُسينِ (عليهِ السلام) يُطأطئون رؤوسهم تَعظيماً له، والعلمانيونَ الذينَ لا يؤمنونَ بالشريعة يُقدرونَ في الحُسين (عليهِ السلام) قيامهُ ضِدَ الباطل.. لقد كان رَب العالمين يُعذب الأُمم السابقة عندما يؤذون أنبياءهم، ولكن إلى الآن لم يعذب ظلمة الإمام الحسين (عليه السلام).

وعليه، فإن هناك هتكاً وقع لشريعة الله عزَّ وجلَّ، وهذا الهتك لم يرفع.. وهناك ظلامة وقعت بحقّ ولي من أولياء الله، بل من أعظم أولياء الله؛ وإلى الآن لم يتم الانتقام لدم الحسين (عليه السلام) ذلك الانتقام الذي يوجب السكون والارتياح.. وبالتالي، فإن هذهِ الواقعة هيَ واقعة متجددة لا في كُلِ سَنة، ولا في كُلِ عَاشوراء، ولا في كُلِ أربعين.. فما من آنٍ يَمرُ على البشرية إلا وهناكَ غَضبٌ من اللهِ عزَ وجل، وتأذي وأذىً للهِ ولرسوله.. والتعويض المناسب لهذه المأساة، يكون في انتقامين:

الانتقام الأول: يكون في زمان الدولة المهدوية عَجل اللهُ تعالى في فرجها.
الانتقام الثاني: يكون يوم القيامة، عندما يأتي الحُسين (عليهِ السلام) حاملاً رأسهُ على يَده، ويطلب من الله عزَ وجل أن يقضي بينهُ وبينَ قتلته.. في ذلكَ اليوم فقط تُصفى الحسابات.

فإذن، حتى في زمان دولة الإمام (عليهِ السلام) الصدور يبقى فيها شَيء، ولا يستبعد استمرار إقامة المجالس الحسينية في ذلك الزمان أيضاً، رغم انتقام الإمام من القتلة؛ لأن الانتقام الأعظم يكون في عرصات القيامة!..

الدروس والعِبر المستفادة من حركة سيد الشهداء (عليه السلام)..
أولاً: الخلود.. إن الحسين (عليه السلام) ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾؛ فكيف نُصبح حُسينيين وزينبيين وسجاديين؟..

أ- إن حُب الأبدية والخلود في طبعِ كُل واحدٍ منا وفي وجدانه؛ فمن منا لا يُحبُ أن يكونَ خالداً؟!.. هذهِ أمنية الأمم والأفراد، لذا الطب يحاولُ جاهداً رفع مستوى الأعمار في كُلِ العصور.

ب- إن الموت حَقٌ لا ريبَ فيه، لذا فإن الإنسان يُريد أن يُبقي بعدَ موتهِ: ذِكراً طيباً، أو صَدقةً جاريةً، أو عِلماً يُنتفع به، أو ولداً صالحاً يدعو له.. وكُل هذه الأمور هي بيد رَب العالمين، ألا يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾.. فهذا الهدف يمكن تحقيقه من خلال:

۱. ارتباط الفاني بالباقي: إن الإنسان عندما يرتبط بالمطلق؛ يصبح كالمطلق، ولكن مع الفارق الكبير؛ فأينَ الثرى من الثريا؟!.. وأينَ المُمكن من الواجب؟!.. مثلاً: لو أن هناك حفرة صغيرة بجانب شاطئ المحيط، هذه الحفرة متصلة بالمحيط من خلال جدول صغير، فإنه عندما يأتي الماء إلى هذهِ الحُفرة، ويجتمع فيها بمقدار إناء، يصبح هذا الماء -على فتوى العلماء جميعاً- ماء كراً، ولهُ حُكم المحيط.. أي أنها تطهر الأشياء النجسة كما لو أنها غُمست في المحيط، رغم الفرق الشاسع بينهما!.. ولكنّ هذا الجدول الذي يربطهما؛ يُعطي لهذهِ الحُفرة الصغيرة أحكامَ المُحيط.. وعليه، فإن العمل إذا ارتبط بالأصل؛ اكتسب خصوصيات الأصل: فخاصية التطهير والكُرية موجودة؛ لأنها اتصلت بالكُر الأكبر.. كذلك الأمر بالنسبة إلى الارتباط برَب العالمين، وما أدراكَ ما رَب العالمين؟!.. فالحَديثِ عن الله عزَ وجل يكفي أن نقول: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.. فنحن عبارة عن مياه قليلة تتنجس بأدنى نجاسة؛ ولكن لو ربطنا أنفسنا بالكُر الأبدي الباقي؛ نكتسب هذه الصفة.. وهذا الارتباط يكون بـ:

أ- استشعار العبودية: إن الإنسان المستضعف الفاني، يحاول أن يرتبط بالباقي، يحاول أن يكون شأناً من شؤون الله عز وجل.. وذلك من خلال: الدعاء، أو السعي، أو المجاهدة.. فرَب العالمين لهُ كتب، ولهُ أنبياء، ولهُ قبلة، ولهُ عباد.. والإنسان هو عَبد لله، وإذا كان الإنسان للهِ عَبداً، فإن رَب العالمين إذا رآه منتسباً إليه؛ يعطيه:

* الحياة المميزة: يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾.. أي أنه قد لا يحتاج طوال عمره أن يستعين بمُحام؛ لأن محاميه هو رَب العالمين.. إذ يكفي إن آذاه إنسان أن يقوم في جوف الليل ويقول: يا رَب، انتقم لي من فُلان!.. فينتقم له رَب العالمين من عدوه في النهار.. فالمؤمن إذا صارَ شأناً من شؤون اللهِ عزَ وجل؛ يعطيه رَب العالمين من المزايا ما يُعطيه.

* البدن المميز: هناك قاعدة تقول: أن الجسم يتحلل بمجردِ موته!.. فهذه الوجوه الجميلة الفانية، وهذا البَدن الذي يتكالبُ الناس عليه؛ رخيصٌ جداً، بل يصبح منفرّاً بمجردِ أن تنفصل الروح عنه.. ولكن عندما يصبح الإنسان شأناً من شؤون المولى؛ فإنه حتى هذا الجسم يُصبحُ جِسماً سليماً، رَب العالمين لا يُحلله في التراب.. وخير دليل على ذلك: الشيخ الصدوق، عندما أريد بناء قبرهِ في بلدة الرَي، انكشفَ القَبر وإذا بالبَدن طرياً.. وكذلك الأمر بالنسبة لأحد المراجع الكبار، بعدَ سنوات من دفنه مؤقتاً في مقبرةٍ من المقابر، تم نقل جثمانه إلى أحد المشاهد المشرفة، وإذا به طرياً كساعة الموت؛ فرب العالمين لم يُسلط على هذا البَدن ما يوجبُ تلفه.

* الذرية المميزة: إن أُم مريم امرأةٌ صالحة، هذهِ المرأة الطيبة نَذرت ما في بطنِها مُحرراً؛ فقالت: ﴿ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.. ولكن عندما وضعت حملها خابت آمالها؛ لأنها كانت تريد ذكراً ليكون في خدمة بيت المقدس، فقالت: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾؛ ولكن النتيجة أنها أصبحت من شؤون اللهِ عزَ وجل؛ ورزقت بابنة مميزة، وبحفيد مميز هما:

مريم (عليها السلام): وما أدراكَ ما مريم!.. إنها سيدة نساءِ العالمين في زمانِها.
عيسى (عليه السلام): وهو الذي يدّعي الانتماء إليه، ويؤمن برسالته؛ أغلب من على وجه الأرض في يومنا هذا.

ب- التعرض لدائرة الجذب الإلهي: إن امرأة عِمران أصبحت في دائرة الجذب الإلهي، فهي عندما ارتبطت بالباقي، رب العالمين جعل ابنتها مريم متعلَقاً لهذا الجذب الرباني!.. فمريم (عليها السلام) اتصلت بالكر، فانتسبت إلى الله عز وجل لذا، ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.. وعليه، فإن المؤمن يحاول أن يتعرض لهذهِ النفحة الإلهية.

۲. الإخلاص: إن المؤمن يسعى لأن يكون نقياً، كما في الدُعاء: (اللهم!.. نقني)؛ أي اجعلني نقياً خالصاً، هذهِ المضامين كنزها في مناجاة المحبين.. فمن يُريد معنى الانتساب إلى الله عزَ وجل؛ فليراجع هذه المناجاة بكُلِ ما فيها من مضامين: (إلهِي!.. فَاجْعَلْنا مِمَّنِ اصْطَفَيْتَهُ لِقُرْبِكَ وَوِلايَتِكَ، وَأَخْلَصْتَه لِوُدِّكَ وَمَحَبَّتِكَ، وَشَوَّقْتَهُ إلى لِقَآئِكَ، وَرَضَّيْتَهُ بِقَضآئِكَ، وَمَنَحْتَهُ بِالنَّظَرِ إلى وَجْهِكَ، وَحَبَوْتَهُ بِرِضاكَ، وَأَعَدْتَهُ مِنْ هَجْرِكَ وَقِلاكَ، وَبَوَّأْتَهُ مَقْعَدَ الصِّدْقِ فِي جَوارِكَ، وَخَصَصْتَهُ بِمَعْرِفَتِكَ، وَأَهَّلْتَهُ لِعِبادَتِكَ، وَهَيَّمْتَ قَلْبَهُ لإرادَتِكَ، وَاجْتَبَيْتَهُ لِمُشاهَدَتِكَ، وَأَخْلَيْتَ وَجْهَهُ لَكَ، وَفَرَّغْتَ فُؤادَهُ لِحُبِّكَ، وَرَغَّبْتَهُ فِيمَا عِنْدَكَ، وَأَلْهَمْتَهُ ذِكْرَكَ، وَأَوْزَعْتَهُ شُكْرَكَ، وَشَغَلْتَهُ بِطاعَتِكَ، وَصَيَّرْتَهُ مِنْ صالِحِي بَرِيَّتِكَ، وَاخْتَرْتَهُ لِمُناجاتِكَ، وَقَطَعْتَ عَنْهُ كُلَّ شَيْء يَقْطَعُهُ عَنْكَ.. أَللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ دَأْبُهُمُ الارْتِياحُ إلَيْكَ وَالْحَنِينُ، وَدَهْرُهُمُ الزَّفْرَةُ وَالأَنِينُ، جِباهُهُمْ سَاجِدَةٌ لِعَظَمَتِكَ، وَعُيُونُهُمْ ساهِرَةٌ فِي خِدْمَتِكَ، وَدُمُوُعُهُمْ سآئِلَةٌ مِنْ خَشْيَتِكَ، وَقُلُوبُهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحَبَّتِكَ، وَأَفْئِدَتُهُمْ مُنْخَلِعَةٌ مِنْ مَهابَتِكَ، يا مَنْ أَنْوارُ قُدْسِهِ لأَبْصارِ مُحِبِّيهِ رآئِقَةٌ، وَسُبُحاتُ وَجْهِهِ لِقُلُوبِ عارِفيهِ شآئِقَةٌ، يا مُنى قُلُوبِ الْمُشْتاقِينَ، وَيا غَايَةَ آمالِ الْمُحِبِّينَ أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ كُلِّ عَمَل يُوصِلُنِي إلى قُرْبِكَ، وَأَنْ تَجْعَلَكَ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا سِواكَ).

فإذن، من أرادَ أن يكتسبَ الخلود والأبدية، فليكن على نهجِ الحُسينِ (عليهِ السلام)؛ أي يعطي وجودهَ للهِ عزَ وجل ليتولى تربيته!..

ثانياً: التعويض.. إن رب العالمين بناؤهُ على التعويض لمن قدمَ شيئاً في سبيله في الدُنيا قبلَ الآخرة.. وعلى سبيل المثال، التعويض الذي أعطي لـ:

۱. الحر بن يزيد: إن هذا الرَجُل لم يَكن من شؤون اللهِ عزَ وجل طوالَ عُمره، ومواقفهِ من سَيد الشهداء قبلَ واقعةِ عاشوراء معروفة، فقد أدخل الرعب على قلوب النساء.. ومع ذلك فإن هذا التاريخ مضى؛ وبلحظات أصبح الحُر من شؤون اللهِ عزَ وجل.. لذا، فإن رَب العالمين أعطاهُ ما أعطاه:

أ- صارَ من أصحابِ الحُسين!.. والحُسين إمامٌ لنبيٍّ ووصيٌ لنبيٍّ، ذلكَ النبي هو الحَبيب المصطفى مُحمدٌ (صلی الله علیه).
ب- أصبح من الشهداء الخالدين، الذين قلّ نظيرهم في تاريخ البشرية.
ج- له ضريح مستقل عن الشهداء، فيقف الزائر أمام الضريح ويخاطبه كما يخاطب أصحاب الحسين، قائلاً: (يا ليتنا كنا معكم؛ فنفوز فوزا)؟!..

۲. الحسين (عليه السلام): لأنه جرى عليه ما جرى في عاشوراء، فإن رب العالمين عوضهُ في الدُنيا هذهِ التعويضات الثلاثة:

أ- الأئمة من ذُريته: إن هناك تسعة أئمة، هي من ذُرية الحسين (عليهِ السلام).
ب- الشفاء في تربته: لا يجوز أكل تراب أي قبر من القبور، إلا ترتبه (عليه السلام) بغرض الاستشفاء.
ج- الإجابة تحتَ قبته: لقد روي عن النبي (صلی الله علیه) أنه قال: (إن الله خص ولدي الحسين (عليه السلام) بثلاث: الأئمة من ذريته، والشفاء في تربته، والدعاء مستجاب تحت قبته).

ثالثاً: الطمع والطموح.. إن الطمع في عالم المادة أمر مذموم، كأن يطمع الإنسان فيما لم يقدر له الله عزّ وجل فيه رزقاً.. فهنا القناعة أمر ممدوح، لقول النبي (صلی الله علیه): (إنَّ ما قلَّ وكفى؛ خيرٌ مما كَثُرَ وألهى)!.. ولكن في عالم المعنى، وفي عالم الكمال الروحي، المؤمن يطلب الكمال الأعظم؛ ألا نقرأ في دُعاءِ كُميل: (واجعلني من أحسن عبيدك نصيباً عندك، وأقربهم منزلة منك، وأخصهم زلفة لديك)!.. وفي زيارة عاشوراء نقول: (اَللّـهُمَّ!.. اجْعَلْني عِنْدَكَ وَجيهاً بِالْحُسَيْنِ (عَلَيْهِ السَّلامُ) فِي الدُّنْيا وَالاْخِرَةِ، لي ووجاهة الدُنيا).. ما للإنسان ولوجاهة الدنيا!.. وعليه، فإن الطمع في عالم المعنى والطموح أمر محمود!..

فإذن، إن الإنسان المؤمن لَهُ: طمعٌ محمود، ولهُ طموحٌ محمود!..

رابعاً: الصبر.. إن الامتحان يكون بحجم الدرجة التي يريدها الإنسان، فامتحان الثانوية العامة يختلف عن امتحان الدكتوراه.. حيث أن امتحان الدكتوراه امتحان مُعقّد، يحتاجُ إلى سنتين أو ثلاث سنوات من البَحث والغُربة، كي يتمكن الإنسان من دخول قاعة الامتحان.. وكذلك الأمر بالنسبة للإنسان الذي يريد المقامات العُليا، فعليه:

۱. الاستعداد للبلاء: إن المؤمن يُهيئ نفسهُ للبلاءِ المُناسب معَ تِلكَ الدَرجة، يقول الإمام علي (عليه السلام): (وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً، وَلَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً).

۲. تحمل البلاء: إن الذي يُريد المقامات، يوطن نفسهُ على تحمل البلاء.

إن الاستعداد للبلاء أمرٌ طيب، لأن من يتوقع إصابته بانتكاسة: مالية، أو بدنية، أو اجتماعية؛ فهو يُعد نفسه لذلك.. لذا، عندما تأتي الانتكاسة في هذهِ الحقول الثلاثة، وهو يعلم أنّها مقدمة للفوز بالدرجات العُليا، فإنه لا يتأذى بل يفرح ويخاف في نفس الوقت، فـ:

أ- الفرح: سببه أنه أصبح أهلاً للامتحان، وهناك شهادة ستُعطى له، فيكسب بها المزايا.
ب- الخوف: سببه الخشية من السقوط، وعدم الفوز!..

۳. تلقي الحكمة: إن أحد العلماء الكبار يقول -ما مضمونه-: كُنا في النجف الأشرف، فنزلت بنا بلية عظيمة، ألا وهو انتشار مرض الطاعون، وفي تلك الأيام كانَ هذا المرض يأخذ الناس زرافات ووحدانا.. فأصيبَ أستاذي بهذا المرض، ولكنَ اللهَ عزَ وجل عافاه.. وإذا به بعدَ الشفاءِ من المرض، يزداد علماً، وبصيرة في الباطن.. فرَب العالمين زاده عِلماً، بعد أن امتحنه، وهذا العِلم ليسَ في الكُتب، يقول تعالى: ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾.. لذا، فإن المؤمن يبحث عن مِثل هذهِ الحِكمة اللقمانية المُباركة!..

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.