Search
Close this search box.
  • الأنوار في السبيل الحسيني
Layer-5-1.png
عناوين المحاضرة
عناوين المحاضرة
Layer-5.png
Layer-5-1.png

الأنوار في السبيل الحسيني

بسم الله الرحمن الرحيم

سرعة الانقلاب على الأعقاب بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)

إن الإمام الحسين (ع) كان يتحين كل فرصة لبث ما عنده. فكان يذكر ما يتعلق بولايتهم ومدى ارتباطه بخط الولاية. لو أن مستشرقا لا يعلم ما هو الإسلام، ثم درس الإسلام لفترة قصيرة وبعد أيام عرج على واقعة كربلاء وسأل من هو الحسين (ع)؟ فقيل له: إن الحسين (ع) هو ابن فاطمة (س) بنت رسول الله (ص) ألم يكن ليقول: ما الذي جرى على هذه الأمة؟ أ يعقل ابن بنت نبيها أن يقتل هكذا؟ ولو قلنا: أن شيمة الأبطال المقارعة؛ فإما أن يُقتل وإما أن يَقتل ولكن ماذا عن السيدة زينب الكبرى؟ فهي كذلك حفيدة النبي (ص) وابنة الزهراء (س).

ظلامة السيدة زينب (عليها السلام)

تخيل ابنة أمير المؤمنين (ع) وأنت تسير في الكوفة أنها تمشي هذه البنت في هذه الأزقة فيقال: هذه بنت خليفة المسلمين، وهكذا يعرف أمير المؤمنين (ع) عندهم؛ وليس إماما مفترض الطاعة كما كان يفهمه عمار وغيره من خلص الأصحاب. وقد جرت العادة عندما يقال أن هذا هو ابن الأمير أو ابن الملك أو ابن الوزير يحسب الناس له حسابه ويقولون: أنه مرتبط بالجهة العليا. إن ابنة أمير المؤمنين (ع) وابنة الزهراء (س) هي حفيدة رسول الله (ص) مباشرة بلا واسطة؛ ولكن الذي يشجي أن الليالي والأيام لم تمر كثيرا حتى أصبحت هذه السيدة تمشي في الكوفة  على أنها خارجية. وكم كانت هذه الحادثة ثقيلة على أهل بيت النبوة (ع).

لهذا إن أئمتنا (ع) بصورة عامة وإمامنا زين العابدين (ع) في مسجد الشام كانوا يؤكدون على هذه العلاقة وعلى انتسابهم إلى رسول الله (ص). والمفروض على كل مسلم؛ لا الموالين فحسب، أن يشاركوا في عزاء الحسين (ع) احتراماً لرسول الله (ص) واحتراما لفاطمة (ع) فهي مصيبة الإسلام والمسلمين؛ بل مصيبة السماوات والأرضين.

إقدام أصحاب الحسين (عليه السلام) على الموت في أصعب الظروف القتالية

لقد روي عن أحد أصحاب الإمام الصادق (ع) أنه قال: (قُلْتُ لَهُ أَخْبِرْنِي عَنْ أَصْحَابِ اَلْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَإِقْدَامِهِمْ عَلَى اَلْمَوْتِ فَقَالَ إِنَّهُمْ كُشِفَ لَهُمُ اَلْغِطَاءُ حَتَّى رَأَوْا مَنَازِلَهُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ فَكَانَ اَلرَّجُلُ مِنْهُمْ يُقْدِمُ عَلَى اَلْقَتْلِ لِيُبَادِرَ إِلَى حَوْرَاءَ يُعَانِقُهَا وَإِلَى مَكَانِهِ مِنَ اَلْجَنَّةِ)[١].

إن أصدق موارد الفداء والتضحية أن يقدم الإنسان نفسه، فإن تقديم المال أمر هين. ولذلك نقرأ في التاريخ عن ذاك الرجل وهو عبيد الله الحر عندما طلب منه الإمام (ع) النصرة، قال له: خذ فرسي هدية لك. وأين هذا ممن يقدم نفسه بين يدي الله عز وجل. إنه مقام عظيم وهو منتهى الإخلاص والفناء في ذات الله عز وجل.

ثم إن المعارك في الأزمنة الغابرة لم تكن كحالتها الآن. إن في هذه الأيام تتقاتل الجيوش وإذا بانفجار هنا أو هناك ينقل الإنسان إلى ذلك العالم من دون أن يشعر المقتول بشيء. ولكن في الأزمنة الغابرة لم يكن الأمر كذلك وقد رأيتم صور من القتل في الأفلام التاريخية؛ حيث كان يلتحم الجيشان ويتواجهان فكان من الممكن أن يقتل الرجل منهم أخاه وهو في قمة المعركة؛ فقد كان يصعب في بعض الأحيان التمييز بين العدو والصديق، وخاصة إذا ثار غبار المعركة، وإنني عندما أتخيل تلك الحروب القديمة ينتابني الفزع.

وفي أيامنا هذه إذا جرح الجندي  ينقل إلى المستشفى ثم يعافى بعدها في شهر أو شهرين، ويخرج منها وليس عليه شيء من الجراح. إلا أن في تلك الأيام كان أحدهم يبقى في فراش المرض سنوات وهو يأن من وجعه. وبهذه الظروف كان أصحاب الحسين (ع) يقدمون على الموت. إننا نذكر هذه الرواية لا نريد بها السرد التاريخي ولا ملأ فراغ ولا التبرك فحسب؛ بل نريد أن نخرج بفائدة نريد أن نغير مجرى الحياة.

عد سريعا إن انحرفت عن الطريق

كم يتألم سائق الدابة إذا غشيه النعاس فانحرف عن الطريق ثم استيقظ ليرى نفسه في صحراء قاحلة؟ إنه سرعان ما يغير من اتجاه الدابة ليمشى على الجادة. إننا جميعا لم نتقن العبودية: (ما عرفناك حق معرفتك وما عبدناك حق عبادتك). إن من لم يتغير هذه الأيام ومن لم تشمله شفاعة الحسين (ع) ومن لم تزكه دمعة البكاء على الحسين (ع) فماذا ينتظر إذا؟ إن بعد شهر صفر ربيعين وجماديين ثم شهري رجب وشعبان إلى أن تصل إلى شهر رمضان المبارك الذي عسى ولعل أن توفق في ليالي القدر منه فتكسب شيئا. لا تفوت الآن الفرصة على نفسك فقد يرى بعض الصالحين وبعض كبار الأولياء أن أيام محرم وصفر هي من ناحية أكثر تأثيراً من ليالي القدر المباركة. وقد ذكروا أسباب ذلك.

قد تكون أيام محرم خير من ليالي القدر

من الأسباب أولا: أن البكاء يخرق الحجب. إن البعض منا أحيا ليلة القدر وقرأ دعاء الجوشن بأكمله ثم صلى مئة ركعة واستمر بالأعمال إلى الصباح ولكن لم تجر منه دمعة واحدة. إن إحياء ليلة القدر أمر مبارك ولكن العبد إذا رق قلبه وجرت دمعته فإن أبواب السماء تفتح له.

مقام أبي الفضل العباس (عليه السلام)

إن المؤمن تجري دموعه في كل ليلة في عشرة محرم الأولى. فأين قراءتك لدعاء طويل بإدبار وجفاف من الدمع وأين طلبك من بطل العلقمي الذي يقول عنه الشاعر، وهو من أفضل ما قيل في حق العباس (ع):

أحق الناس أن يبكى عليه
فتى أبكى الحسين بكربلاء

ويكفي هذا البيت لبيان مقام أبي الفضل (ع). فإن ذهبت ألى كربلاء وأصبحت بين الحرمين فكم سترتقي في الدرجات العلى إن بكيت وأنت تتمتم بهذه الأشعار. رحم الله أحد علمائنا الأبرار الذي ربى جيلاً من المراجع الكبار وقد أدركت بعض تلامذته يقول: كل البركات والكمالات خذوها من سيد الشهداء (ع) واعلموا أن الطريق إلى سيد الشهداء (ع) هو أخوه أبو الفضل العباس (ع). فهب أنك لا يمكنك الوصول إلى الإمام لأي سبب كان والإمام معرض عنك، ولكن بإمكانك أن تسأل أخاه أن يتوسط لك عند أخيه.

ملكوت الأعمال وكشف الغطاء

إن الإمام الصادق (ع) قد ذكر لنا من خلال كلمته (كشف لهم الغطاء) سر خلود أصحاب الحسين (ع). إن الذي جعل الحر حراً والذي جعل عابس يخرج من دون درع ويقول: حب الحسين أجنني؛ هي أمور كلها ترجع إلى هذا المعنى: (كشف لهم الغطاء).

إن هذه الرواية هي في الحقيقة رواية مفتاحية أو استراتيجية بتعبير البعض. إن من المواعظ ما هو جزئي كقولهم: كن صادقا، كن أمينا، كن عفيفا. ولكن هناك من المواعظ ما يمكن التعبير عنها بأنها مفتاحية. حاول أن تخرج من هذا المظهر المادي. إن مشكلتنا أننا لا نرى ما وراء الستار وما وراء الغيب، والحال أن القرآن الكريم قد ذكر لنا بعض العينات. لقد رأيتم بعض المحلات التجارية؛ توزع على المارة عينات مجانية ويقولون لك: هذه عينة من بضاعتنا. فهو لا يعطيك زجاجة من طيب فاخر وإنما يعطيك ورقة قد غمست بشيء من الطيب، فإن أعجبتك الرائحة ترجع إليهم وتشتري منهم قنينة كاملة.

إن رب العالمين قدم لنا بعض العينات الغيبية في القرآن الكريم؛ لكي نخرج من ظاهر الحياة الدنيا. وهذه العينات لا غبار عليها ولا لبس فيها فهي ليس من الأحاديث حتى يشك في أسانيدها. ومن هذه النماذج والعينات القرآنية؛ ما كشف سبحانه لنا من ملكوت الغيبة. إن الحرام والواجب له ملكوت. فقد روي الصادق (ع) أنه قال: (لَوْ يَعْلَمُ اَلْمُصَلِّي مَا لَهُ فِي اَلصَّلاَةِ مَا اِنْفَتَلَ)[٢]؛ فالمصلي الحقيقي بينه وبين السماء عمود من النور.

فلو كشف لك غطاء الصوم لرأيت واقع الصوم لي وأنا أجزي به. ورأست أن الحج لقاء الله والصلاة معراج. والحرام كذلك له باطن، ولو كشف لأحدنا الغطاء لم يترك الغيبة فحسب؛ بل كان يخاف من أن يقترب منها. فحاول أن تصل إلى ملكوت الحرام. أو تعلم أنك عندما ترتكب المعصية نظراً كانت أو سمعاً أو قولاً؛ تفوح منك رائحة لا تتحمل أن تشمها، ولكن الملائكة يشمونها فتشمئز منك. ولهذا ورد في الخبر: (تَعَطَّرُوا بِالاِسْتِغْفَارِ لاَ تَفْضَحْكُمْ رَوَائِحُ اَلذُّنُوبِ)[٣].

قد تمر فتاة أو امرأة في السوق تفوح منها رائحة كذائية تثار منها الشهوات، ولو كشف لأحدنا الغطاء لشم منها رائحة العفن لا رائحة طيبة، وكذلك الأمر لو كشف لها الغطاء. إن بعض النساء اللواتي يحترفن الفاحشة في الحياة الدنيا في بعض العواصم وغيرها إنما هي حرفة في نار جهنم وفي جنهم يخرج منها صديد يتأذى منه أهل النار، وهذا هو الواقع الذي سينكشف ولكن بعد فوات الأوان.

هل تعلم أن كل واحد منا آية على وجه الأرض وولي من أولياء الله العظام ولكن ليس الآن، وإنما عند تحقق قوله سبحانه: (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)[٤]. إن الفن كل الفن والمهارة كل المهارة أن تطبق حديث مولاك: (مُوتُوا قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا)[٥]، وقوله: (حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا)[٦].

السياحية في وادي السلام

إنني أحب كثيرا وادي السلام ولو كشف الغطاء لأهل الدنيا لرأوا من أجمل السياحة في الأرض الوقوف في وادي السلام. وقد يسأل البعض فيقول: أي سياحة هذه وهي لا تحتوي إلا على المقابر القديمة الموحشة؟ إن هذه السياحة تغير مجرى حياتك. وقد لا يخلو هذا المكان من أب أو من أم أو من صديق أو من بعض العلماء الكبار أو من بعض الوجهاء والتجار.

ولو وقفت على تلك القبور وكشف الغطاء عنك لسمعتهم يقولون: هنيئا لكم أنتم الأحياء. إن أيامنا في الدنيا قد انتهت وانتقلنا إلى ذلك الوادي ونسينا الناسون وبليت قبورنا؛ بل ونسي بعض الأبناء أسماء آبائهم وأمهاتم فإنهم لا يذكرونهم في إلا مرة في السنة أو مرة في الأربعينية والفاتحة.

الطريق إلى كشف الغطاء

قد يسأل سائل فيقول: أين الطريق إلى كشف الغطاء؟ إنني أذكر هذا المثال دائما فأقول: لو أن أحدا وصف لك طعاماً طيبا وشهيا سوق تقول له: دعني عن الوصف ودلني على بالمطعم الذي يقدم فيه هذا الطعام؛ فما الفائدة من أن تصف لي الطعام ولا تدلني على طريق الوصول إليه؟ وبالطبع ليست الإجابة على هذا السؤال ممكنة على هذا المنبر في عشر دقائق. إن هذا شغل العمر. فإن بدأت الآن يرجى أن تصل إليه بعد عشر سنوات أو بعد عشرين سنة..!

ولا تشعر باليأس من قولي: بعد عشرين سنة. إن لأحد العلماء الواصلين كلمة جميلة، يقول: إن الطريق إلى الله عز وجل كان أسهل مما نظن، وإنما نحن الذين عقدنا الأمور. ولذلك نقرأ في الأدعية المباركة: (وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ أَفْضَلَ زَادِ اَلرَّاحِلِ إِلَيْكَ عَزْمُ إِرَادَةٍ)[٧].

فلا تحاول أن تجمع بين الهدى والهوى. إننا كنا في طريق الحج فكان سائقنا يشغل القرآن تارة ويشغل الموسيقى والغناء المحرم تارة أخرى. فمادام الحجاج مستيقظين كان يشغل القرآن مثلا؛ فإذا نام الجميع شغل الغناء. وعندما كنا نقول له: أما تستحي؟ كان يقول ذلك الشعار المتعارف بين أهل الدنيا: ساعة لربك وساعة لقلبك.

فلا تخادع رب العالمين، وخذ قرارك بأن ترضيه. إنك لن تستطيع أن تجمع بين الرب وبين إبليس، وكما يقول الشاعر:

ومكلف الأيام ضد طباعها
متطلب في الماء جذوة نار

فلو سألت غواصا يغوص في أعماق البحر وقلت له: ما الذي تبحث عنه؟ ثم قال لك: أبحث عن النار. ألم يكن يرمى بالجنون؟ فهل النار يبحث عنها في أعماق البحر؟ أخرج إلى الصحراء واشعل ناراً.

ولا تنس نصيبك من الدنيا

قد تقول: أني شاب لم أتزوج بعد ولم أعش شهر العسل، ولي أمنيات كثيرة، ولم أنجب ذرية، وما بنيت منزلا، ولا أمنت مستقبلا؛ أفأدع كل ذلك وأصبح من أهل الصوامع، أو أصبح حمامة المسجد وأضيق على نفسي في الحياة؟ إن الدنيا محدودة فلا تحاول أن تحصر لذتك في الفانيات. خذ متعتك من الدنيا كما قال كتاب ربنا: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)[٨].

إن متع الدنيا مآلها إلى زوال. لقد زرت أحد المؤمنين في منزل استغرق بناءه منه خمس سنوات وقد تفنن في بناءه. لقد جعل فيه ركن أندلسي وآخر مغربي وما شابه ذلك حتى إذا دخلت عليه وجدت المنزل مقفرا من السكان فسألته عن علة ذلك؟ قال: لم يمض من مكوثي في هذا المنزل أسبوع حتى دبت الكآبة في نفسي فلم أستطع المكوث فيه يوما واحدا. ولقد نقل لي أحد العلماء ممن يعقد للمؤمنين والمؤمنات: أن الكثير من هذه الزيجات مآلها إلى الانفصال والطلاق. إن الشاب في العشرين أو الثلاثين يتزوج وينفق في تلك الليلة ما ينفق من طعام وشراب ويعم الجميع في تلك الليلة السرور والفرح وإذا بهما بعد أيام ينفصلان.

لقد رأينا بعض المترفين ممن يشتري لوحة زيتية بالملايين وإذا بعد مدة من الزمن لا يكاد يرى لهذه الصورة أثر ويصبح الحائط الأملس والصورة عنده سيان..!

معيشة ضنكا

كنت في النجف الأشرف مع بعض علمائها، وقد سألت أحدهم وهو من الأجلاء عن تفسير قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا)[٩]؛ وأعتقد بعد هذه الآية لا يبقى منكم أحد إلا وفي قلبه هاجس إصلاح المسلمين في شرق الأرض وغربها. وقد تقول لي: لماذا سألت علماء النجف عن تفسير آية هي واضحة عندنا؟ إنني قلت لذلك العالم: هل أن الإعراض عن الذكر هو الكفر وإنكار المقدسات؟ أو أنها تعني الغفلة عن ذكر الله عز وجل؟ وإذا كان تعني الآية أن يكون غافلا عن الذكر اللساني والقلبي فما المخيف في الآية؟

إن القلب الذي لا يشتغل بالعالم العلوي فإن معيشته ضنك حتى وإن كان ملكاً أو كان في شهر العسل. لقد سألني أحدهم عن مراد الرواية التي تقول: (قَالَ اَللَّهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى يَا عِبَادِيَ اَلصِّدِّيقِينَ تَنَعَّمُوا بِعِبَادَتِي فِي اَلدُّنْيَا فَإِنَّكُمْ تَتَنَعَّمُونَ بِهَا فِي اَلْآخِرَةِ)[١٠]؟ إن المتعة هي نفسها متعة أهل الجنة. أليس سبحانه يقول: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)[١١]؟ إنك لو وصلت في جوف الليل إلى هذا المقام المحمود لا يضرك بعدها إن سلب منك الدنيا أو كنت في سجون الظالمين.

الموازنة بين الدنيا والآخرة

إن أطراف آسية كانت مثبتة بالمسامير وكانت تعذب من قبل فرعون ذي الأوتاد، ومع ذلك كانت تقول: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ)[١٢]. ولا ينبغي أن يفهم كلامي خطأ. إنني لا أدعو إلى الابتعاد عن المتع الدنيوية؛ بل هي على حالها. فلا أريد منك أن تبقى أعزبا أو ألا تطور من حياتك وألا تذهب للدراسة التخصصية طباً وهندسةً وما شابه ذلك. إنني لا أقول: إستبدل هذه بتلك وإنما أقول: أضف إليها الآخرة.

إن ميثم التمار كان تماراً في النهار فإذا جن عليه الليل كان كمولاه أمير المؤمنين (ع). وكذلك كان أصحاب الأئمة (ع) حيث كانت لهم حرفهم فكان منهم الزيات والصراف والجمال والسمان إلى آخره ولم تمنعهم حرفهم من مزاولة الأعمال التي تقربهم إلى ربهم ويكتسبون بها نصيبهم في أخراهم.

[١] علل الشرایع  ج١ ص٢٢٩.
[٢] الکافي  ج٣ ص٢٦٥.
[٣] الأمالي (للطوسی)  ج١ ص٣٧٢.
[٤] سورة ق: ٢٢.
[٥] الوافي  ج٤ ص٤١١.
[٦] أعلام الدین  ج١ ص٣٣٩.
[٧] مفتاح الفلاح  ج١ ص٧٢.
[٨] سورة القصص: ٧٧.
[٩] سورة طه: ١٢٤.
[١٠] الکافي  ج٢ ص٨٣.
[١١] سورة القيامة: ٢٢-٢٣.
[١٢] سورة التحريم: ١١.
Layer-5.png
Layer-5-1.png

خلاصة المحاضرة

  • إن أصدق موارد التضحية أن يقدم الإنسان نفسه، فإن تقديم المال أمر هين. ولذلك نقرأ في التاريخ عن ذاك الرجل وهو عبيد الله الحر عندما طلب منه الإمام النصرة، قال له: خذ فرسي هدية لك. أين هذا ممن يقدم نفسه بين يدي الله. إنه مقام عظيم وهو منتهى الإخلاص والفناء في ذات الله عز وجل.
  • إن جميع متع هذه الحياة ولذاتها آيلة إلى الفناء. إن الرجل ليقضي سنوات من عمره في بناء منزل قد لا يسكنه أو يتزوج امرأة بعد لأي وجهد ثم سرعان ما ينفصل عنها أو أنه يشتري لنفسه بضاعة أو لوحة جميلة يصرف عليها الملايين ثم لا يجد بعد مدة فرق بينها وبين الحائط الذي علقت عليه؟!
Layer-5.png