Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

إن من أهم مزايا الشهر الكريم، هو أن الإنسان تصبح له حالة من الأنس المضاعف، إن كان له أنس في غير شهر رمضان.. وإذا لم يكن له أنس بالقرآن الكريم؛ فإنه يصبح هنالك حالة أنسية بكتاب الله عز وجل.

إن الكتاب الإلهي يمثل قمة الحكمة في عالم الوجود، ولو أن القرآن الكريم يتحمل أكثر من هذه المعاني، ويمكن إنزاله بشكل أفضل لأنزله الله تعالى.. فالنبي خاتم الأنبياء، وأمير المؤمنين خاتم الأوصياء، والقرآن الكريم خاتم الكتب السماوية.. النبي قمة شامخة، لا يرقى إليه نبي ولا وصي نبي.. أرقى من خلقه الله في عالم الوجود البشري، هي روح المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم).. رب العالمين خلق النفس، وجعل لها قابليات وقدرات، وأفضل لوحة يمكن أن ترسم على نفس مخلوق، رب العالمين رسمها على قلب النبي -صلوات الله عليه- لأنه خاتم الأنبياء.. ورب العالمين مبدأ الفيض، ولا راد لفضله وكرمه؛ فكانت النفس المحمدية، أرقى لوحة جمالية في عالم الوجود.. والقرآن الكريم كذلك، هو ذلك الكتاب الإلهي الذي يحمل أفضل صورة إلهية، يمكن أن يصور به كتاب من الكتب، {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}.. ومن هنا يجب علينا جميعا، أن نتعلم كيف ندخل لكنوز القرآن الكريم.

الآداب الظاهرية:
لا بأس أن نجمع بين أدب الظاهر والباطن، بين أدب التلاوة وأدب التدبر.. شريعتنا هي شريعة الظاهر والباطن: في نفس الوقت الذي جعل القلب هو المقياس والمعيار {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}؛ فإن المسلم مأمور بالوضوء، وبالغسل، والتيمم؛ هذه الحركات الظاهرية لا بد منها.. لأنه للأسف ظهرت فرق في حياة المسلمين، أهملوا الظاهر.. {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}، البعض رأى نفسه معفيا من العبادات الظاهرية، بدعوى أنه قد وصل إلى مرحلة اليقين؛ فلا داعي لهذه العبادة.. وهذه الحركة موجودة في صفوف من يدعي المعرفة.. بينما شريعتنا هي شريعة الظاهر والباطن.. فعندما نرى إنسانا يخشع في صلاته، وقد يبكي أثناء الصلاة.. ولكن نسمع له قراءة خاطئة، أو نرى سجودا فيه خلل، نقول: كيف يريد أن يصل بهذه الصلاة الباطلة فقهيا؟.. هو يتقن الخشوع؛ ولكن صلاته مردودة.. لذا عليه أن يتقن هذه الصلاة، فالفقه رغم أنه فقه أصغر، ولكن هذا الفقه الأصغر مقدمة للفقه الأكبر، وهو معرفة الله -عز وجل-.

فإذن، إن تلاوة القرآن الكريم، والاستفادة من معينه؛ أيضا فيها آداب ظاهرية، منها:

– استقبال القبلة.. إن الجلوس باتجاه القبلة في غير الصلاة، هي مزية من المزايا (خير المجالس، ما استقبل به القبلة).. فالمؤمن لا يقدم على أمر، حتى في صغار الأمور، إلا حيث يرى الرضا الإلهي!.. فهذه حركة رمزية من باب أنه: يا رب، أنا متأدب في جلوسي معك.

– الطهارة.. هنالك سر عظيم في الوضوء والغسل، هذا الذي نسميه الطهور (لا صلاة إلا بطهور)، الوضوء هو ماء يلامس البدن.. هنالك اغتسال وهنالك غسل، هنالك تطهر وهنالك طهور، هنالك فعل من العبد وهنالك حركة من الرب، كما في اصطلاح النحو والبلاغة: هنالك فعل مصدري، وهنالك اسم مصدر.. أنا أحقق المصدر، أنا اغتسل؛ ولكن الغسل والطهارة أمر مجعول من الله تعالى.. الإنسان المتوضئ إنسان متطهر، عندئذ رب العالمين يقول: لك الحق الآن أن تضع يدك على اسمي {لّا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}.

– التطيب.. النبي الأكرم -صلوات الله عليه- كان يهتم كثيرا بالطيب، الإنسان المتطيب إنسان يعيش حالة روحية، والطيب مادة تتفاعل مع الخلايا الشمية، وبعد ذلك ينتهي دور الطيب.. الكلام في الذبذبات العصبية، التي تنتقل من خلايا الشم إلى المخ، هنالك ذبذبات من وراء هذا الطيب، وهذه الذبذبات مباركة وفيها آثار.. فالطيب لا يفارق المؤمن، عن النبي (ص): (حُبّب إلي من الدنيا ثلاث: النساء، والطيب، وقرة عيني في الصلاة)، قال (ص): (من اغتسل يوم الجمعة، واستاك ومسَّ من طيب إن كان عنده، ولبس أحسن ثيابه، ثم خرج حتى يأتي المسجد، فلم يتخط رقاب الناس حتى ركع ما شاء أن يركع، ثم أنصت إذا خرج الإمام فلم يتكلم حتى يفرغ من صلاته، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة التي قبلها).. وقال أيضا (ص): (أقبلوا الكرامة، وأفضل الكرامة الطيب: أخفّه محملا وأطيبه ريحا)!..

– اختيار المكان المناسب.. من الآداب الظاهرية أيضا، التلاوة في مكان هادئ مريح، بعيدا عن الموانع والشواغل والتشويش.. فالإنسان المؤمن له مصلى خاص به في المنزل، يستحب إذا جاءت ساعة الموت، أن ينقل الإنسان إلى مصلاه؛ فيقول بلسان الحال: يا رب، أنا الآن ألوذ بنفسي في مكان طالما ذكرتك فيه.. وحتى من زاوية نفسية وتربوية: من المرجو أن يعطى الإنسان حالة من حالات التفاعل الروحي في هذا المكان، عندما يتذكر خشوعه وتوجهه في ليالي القدر مثلا.

الآداب الباطنية:
الأدب الأول: ربط الكتاب برب الوجود.. أي أن نربط بين هذا الكتاب الذي نزل على شكل كلمات، وبين مهندس الوجود.. فالذي يبهر بالاختراعات الحديثة، وبقدرة الذرة وسعة المجرة، ويفتح القرآن ويقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ أي الذي أعبده في صلاتي، هو خالق هذا الوجود برمته.. لا يعلم الإنسان إلى الآن إلا ظاهره، كأن رب العالمين يريد أن يفهمنا أنه في حياتكم الدنيا، ترون قوى غيبية لا تنكرونها.. فكيف إذا وصل الأمر إلى مكون الكون، تطلب منه أن يُرى!..

ما أثر هذا الاعتقاد؟..

إن الإنسان عندما يقرأ القرآن، يعيش حالة من حالات الثقة والاطمئنان.. الكثير منا يشتكي ممن ظلمه، أما الإنسان الذي لم يتصل بمبدأ الغيب له طريقان في هذا الوجود:

الطريق الأول: أن ينتقم ويأخذ حقه بيده، وبطرق مستقيمة، وبطرق ملتوية.

الطريق الثاني: أنه إذا لم يجد بدا من التحمل، يتحمل.. وفرق بين تحمل مجبور، وتحمل مختار.. الإنسان عندما تكون له القدرة على الانتقام، ولا ينتقم؛ هذا الإنسان يحمد على صبره وعفوه.. وأفضل العفو هو العفو عند الاقتدار.. إذن، إما ننتقم، وإما أن نصبر على مضض، بما فيه من ألم باطني.
ولكن هناك طريقا آخر ذكره القرآن الكريم:

الطريق الثالث: القرآن الكريم يعرفنا بهذا الطريق، بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}؛ أي يا عبدي!.. اجعل الأمر بيدي، لا يمكنك الانتقام، والصبر ثقيل عليك؛ ولكن هناك طريقا ثابتا، أنا جبار السموات والأرض {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}.. لماذا لا تسلم، فالأمر بيدي أنا أدافع عنك؟.. الذي يعيش هذا الإحساس، ويحس أن الذي يصلي له، والذي يعبده، والذي يسجد له، ويقرأ كتابه؛ هو مالك هذا الوجود المترامي؛ ألا يعيش حالة الاطمئنان والسكون!..

فإذن، عندما نربط الكتاب برب الوجود، نعيش حالة من حالات الارتياح الشديد.. قال أحدهم: والدي كان ذاهبا إلى صلاة الفجر، وإذا بأحدهم في الطريق استهزأ به، وكأنه يتحدى ربه من خلال كلماته، يقول الرجل: هذه الكلمة آذته، فقال: يا رب، قلت في كتابك المنزل: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}؛ فانصرنا عليه.. يقول: ذهبنا وصلينا الصلاة المكتوبة ورجعنا إلى المنزل، وإذا بصوت يرتفع وصياح: مات فلان، ذهبنا وإذا به مر بجوار حائط والحائط سقط عليه؛ الحائط جند من جنود الله عز وجل.. هذا الحائط ما سقط، إلا عندما مر هذا الإنسان أمامه.

الأدب الثاني: الالتفات.. أي أن الإنسان الذي يتلو القرآن الكريم، عليه أن يفترض نفسه مخاطبا بكل آية من آيات الكتاب المبين، وأنه قادر على فهم هذا الخطاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}، {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}، {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}، {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}.. وعليه، فإن المؤمن عندما يسمع ويقرأ آية من كتاب الله -عز وجل- يقول: أنا المعني هنا، ولهذا الأولياء والصالحون عندما يصلون إلى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، يقولون: (لبيك اللهم لبيك)!.. أنت الآن تحدثني بهذا الخطاب، وكفى بهذا الخطاب تكريما للعبد!..

الأدب الثالث: التدبر.. لا خير في عبادة لا تدبر فيها، فـ{الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ}؛ أي تبيان للناس، ورب العالمين يدعونا للتدبر في كتابه.. ولو كان كتابا معقدا لما أمرنا بذلك، لو تأملت مضامين الكتاب؛ لرأيت أنه تارة نور للناس، وتارة نور وهدى للمتقين، وأخيرا يقول: {نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا}.. هنالك جماعة لا هم من الناس، ولا هم من المتقين، جماعة خاصة جدا رب العالمين يلهمهم معاني الكتاب الكريم.

فإذن، من المفترض أن يكون الإنسان ملتفتا إلى أن الخطاب له أولا، وأنه قادر على الفهم ثانيا، وأخيرا نشكر الله -عز وجل- على نعمة أننا نعرف العربية، فمن مشاكل الأمم غير العربية أنها تقرأ القرآن الكريم وكأنه ألغاز.. التقدير الإلهي شاء أن نكون في بلاد الناطقين بالعربية، هذا نصف حصلنا عليه، بقي النصف الآخر وهو: التدبر في الكلمات المشكلة، والمضامين المعقدة.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.