Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

هنيئاً لمن تحولَ عندهُ المسموع إلى مفهوم، وتحول عندهُ المفهوم إلى متبنى، ثُمَّ إلى عمل في الخارج، تأسياً بقوله تعالى: {‏‏الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}‏‏!.. إن المؤمن يتقرب إلى الله -عزَ وجل- بالفرائض، ولكن هُنالكَ نافلة على رأسِ كُل النوافل، من يلتزم بهذهِ النافلة، ويعضّ عليها بالنواجذ؛ ستُفتحَ لهُ أبوابُ الخير من حيثُ لا يحتسب.

همّ المؤمن..
إن البعضَ منا همهُ في الدُنيا أن يدخل الجنة، وهذا همٌ جيد؛ لأنه كما ورد في الآية الكريمة: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}.. ودخول الجنة يتوقفُ على الاعتقاد بأصول الدين، والعمل بفروع الدين؛ فهل من مشقة في ذلك؟.. فالإنسان الذي يعمل بفروع الدين، ويترك المحرمات التي لا تتجاوز الأربعين معصية، كما ذكرها بعض الفقهاء في رسالته العملية؛ بإمكانه أن يشتري الأبدية، هذه الأبدية التي لا يمكن لعقل الإنسان أن يستوعب معناها!.. فهو إلى أبد الآبدين يبقى متنعماً في جنان اللهِ عزَ وجل.. ولكن المؤمن همّه ما وراء ذلك، همّه المنافسة في الدرجات؛ لأن دخول الجنة مُسلّم؛ فمن مات على العقيدة الصحيحة؛ مصلياً صائماً حاجاً مزكياً ومخمساً؛ وقائما بالواجبات؛ ولديه هفوات؛ فإنه يُمحّص: إما بأمراض الدنيا، أو بسكرات الموت؛، أو بضغطة القبر، أو بعذاب البرزخ، أو بعذاب الانتظار يوم القيامة؛ من منّا يبقى بلا تمحيص؟!.. لذا، القليلون يدخلون -من هذهِ الطبقة- النار بعدَ ذلك، وربما أهل النار ممن همّ بهذه الأوصاف قليلون جداً.. عن الإمام السجاد (ع): (معاشر شيعتنا!.. أما الجنة فلن تفوتكم سريعاً كان أو بطيئاً، ولكن تنافسوا في الدرجات…).

السبيل إلى الدرجات العليا..
إن من أهم سُلم الدرجات بعد الواجبات، وترك المحرمات: أن يقف الإنسان بين يدي ربه ليلاً.. قد يكون هناك يقين ووضوح للإنسان في هذا المجال؛ ولكن في مقام العمل يغلبه السلطان الأكبر وهو النوم؛ فهذا لا بأس به، ولكن المهم أن يعرف ما الذي فقده في سنوات عمره الماضية، ويبرمج نفسه أن يكون من أهل قيام الليل.

الآيات المتعلقة بقيام الليل..
1- قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.. هذه الآية من الآيات المذهلة والغريبة، فهذا الوصف الوارد في الآية وصف من؟.. الضمير في {كَانُوا} هل هو عائد على الأنبياء والمرسلين؟.. بالطبع لا، فالآية السابقة لها تقول: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} فهؤلاء المتقون صفتهم: أنهم كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون؛ ولهذه الآية تفسيران:

الأول: التفسير الظاهري، يقول صاحب تفسير الميزان: “مأخوذ بالقياس إلى مجموع زمان كل ليلة، فيفيد أنهم يهجعون كل ليلة زماناً قليلاً منها، ويصلون أكثرها”!.. أي كانوا ينامون قليلاً من الليل؛ ويسهرون حتى الصباح في العبادة؛ أين نحن من هؤلاء، نحن الذين همّنا دقائق من الليل؟!.. أنظروا إلى علو الهمة لدى المتقين من عامة المؤمنين!..
الثاني: وهو المعنى المقصود -إن شاء الله تعالى- ورد في تفسير الميزان أنه: “مأخوذ بالقياس إلى مجموع الليالي، فيفيد أنهم يهجعون في قليل من الليالي، ويقومون للصلاة في أكثرها؛ أي لا يفوتهم صلاة الليل إلا في قليل من الليالي”.. إذن، ليس المراد قليلاً من نفس الليل ما يهجعون، بل من مجموع الليالي، أي أنهم قليلاً ما كانوا ينامون الليل كله، وبعبارة أخرى: أن قضاء صلاة الليل لديهم قليل؛ وبالتالي لا يفهم من المعنى أنهم كانوا يسهرون الليل كله.

2- قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً}.. ناشئة الليل إشارة إلى مجمل الليل، فالذي يريد صفاء القلب، والتوجه المركز إلى جهة العرش؛ عليه بصلاة الليل.. يقول تعالى في آية أخرى: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا} وكأنه في هذه الآية هناك عتبٌ مقدر؛ أي: أيها الإنسان!.. أنت تنام في الليل، وتعمل في النهار؛ فأين حق الله عز وجل؟.. ومعنى الآية كما ورد في تفسير الميزان: “أن لك في النهار مشاغل كثيرة تشتغل بها مستوعبة، لا تدع لك فراغاً تشتغل فيه بالتوجه التام إلى ربك، والانقطاع إليه بذكره؛ فعليك بالليل والصلاة فيه”.. أمن الإنصاف أن نعطي دوام النهار؛ ست أو سبع أو ثمان ساعات، لأجل راتب قدره ألف أو ألفين أو خمسة عشر ألفاً؛ ولا نعطي القيام بين يدي الله -عز وجل- عُشر هذا الوقت؟!.. لذا على المؤمن أن يوازن بين نشاط النهار وقيام الليل؛ وشتان بين نشاط النهار لأجل دُريهماتٍ فانيةٍ، وبين قيام الليل!..

3- قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا}.. نحن نقرأ هذه الآية مبتورة عما قبلها، أنظروا إلى سياق الآية ما قبلها وما بعدها، يقول تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنْ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً}؛ أي هؤلاء المشركون لهم مؤامرات، يريدون أن يخرجوا النبي- صلى الله عليه وآله- من مكة، هذا النبي الذي خلق رب العالمين الأفلاك لأجله، كما ورد في الحديث القدسي: (يا أحمد!.. لولاك لما خلقت الأفلاك).. بعد ذلك يقول تعالى: {أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً}؛ هذه الآية تذكر ثلاثة مواعيد للصلاة هي: دلوك الشمس: أي وقت الزوال؛ وسمي دلوكاً لأن الشمس تكون في شدتها، فمن أراد النظر إليها يدلك عينيه.. وغسق الليل: وقت المغرب.. وقرآن الفجر: أي صلاة الصبح؛ {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً}؛ فملائكة الليل ترتفع وملائكة النهار تنزل؛ وكلهم يشهدون بأن الإنسان قام للفريضة.. ثم يقول تبارك وتعالى: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}؛ أي أن رب العالمين جعل كل الفرائض في كفة، وصلاة الليل في الكفة الأخرى.

{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}.. يقول المفسرون: أن هذه الآية مبهمة جداً، والمقام المحمود لا يعلمه إلاّ الله عز وجل!.. {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، ثم تأتي بعد ذلك الآية التي تقول: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً}؛ إن كنت تريد السلطان، وتريد القوة، وتريد القدرة، وتريد التفوق على المشاكل، وتريد أن تكون قوياً: في عملك، وفي أسرتك، وفي عشيرتك؛ عليك بصلاة الليل.. {وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ}؛ أي أن تكون الحياة حياة صدق، يقول العلماء في هذا المجال: الصدق؛ أي أن يكون ظاهر الإنسان كباطنه، يطابق قوله فعله.. والمؤمن إذا وصل إلى هذه الدرجة من الانكشاف ليس له باطن؛ ظاهرٌ كله؛ يُصدّق قوله فعله، يكون من الذين أنعم الله -عز وجل- عليهم.. عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: (ثلاثة يحبهم الله، ويضحك إليهم، ويستبشر بهم: الذي إذا انكشف فئة قاتل ورائها بنفسه لله -عز وجل-: فإما أن يقتل، وإما أن ينصره الله -عز وجل- ويكفيه، فيقول: انظروا إلى عبدي هذا، كيف صبر لي بنفسه.. والذي له امرأة حسنة، وفراش لين حسن؛ فيقوم من الليل، فيقول: يذر شهوته ويذكرني، ولو شاء رقد.. والذي كان في سفر، وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا، فقام من السحر في ضراء وسراء).. الله العالم ليس المراد الاستمرارية بهذه الأمور، بل تكفي مرة واحدة طوال العمر.. وفي مقدمة هذه الرواية نجد كناية، والكناية موجودة في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}، والضحك هنا كناية عن الحب والاستبشار، فنحن عندما نرتاح لإنسان نضحك معه، ولكن من هم هؤلاء الثلاثة؟..

الأول: صعبٌ جداً؛ وهو الذي يكون في ميادين القتال، فتفر الجماعة من الزحف، ويبقى وحده يقاتل في سبيل الله عز وجل: فإما أن يُقتل، وإما أن ينصره الله -عز وجل- ويكفيه، فيقول الله عز وجل: أنظروا إلى عبدي!.. كيف صبّر لي نفسه، القوم هربوا ولكن بقي وحده يقاتل في سبيل الله عز وجل.

الثاني: يتعلق بالشباب، وعلى الخصوص حديثي العهد بالزواج؛ وهو الذي يقوم من الليل فيذر شهوته، ويقول: يا رب أريد أن أناجيك؛ يا له من موقف!.. ورب العالمين له الحق أن يستبشر بهكذا عبد.

الثالث: بابه مفتوح للشباب والشيوخ، وهو الذي يكون في سفر مع جماعة، فينامون ويقوم هو في السحر، وخاصة إذا كانوا في منتجع في بلاد الغرب، يعيشون لذتهم ولهوهم، وهذا المؤمن يقوم ليناجي ربه.. رب العالمين له مواقف عاطفية مع عبيده؛ وعندما ينظر إلى منظر كهذا يفرح ويستبشر؛ وعندما يفرح رب العالمين، فإن له من الجوائز ما لا يخطر على بال!.. فنحن عندما نفرح بنجاح الولد في الامتحان نقدم له هدية ساعة، أو في أحسن التقادير سيارة فارهة؛ ولكن رب العالمين بيده خزائن السماوات والأرض، فإذا فرح بالمؤمن في موقف يعطيه ما يعطيه.. لذا المؤمن يحاول أن يكون من هذهِ الأصناف ولو في العمرِ مرةً واحدة.

4- قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا}، وفي آية أخرى يقول جل وعلا: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ}.. من مصاديق الاستغفار في الليل، ما ورد عن الصادق -عليه السلام- أنّه قال: (من قال في وتره إذا أوتر: أستغفر الله ربّي وأتوب إليه -سبعين مرّة- وواظب على ذلك حتى تمضي سنة، كتبه الله عنده من المستغفرين بالأسحار، ووجبت له المغفرة من الله عزّ وجلّ).. وفي رواية أخرى زاد بعد قوله سبعين مرّة: (وهو قائم).. ولا ننسى محطة الاستغفار النهارية بعد صلاة العصر، فهاتان المحطتان الاستغفاريتان: النهارية، والليلية؛ هما بمثابة صابون النهار وصابون الليل؛ ومن يغتسل نهاراً وليلاً لا يبقى من درنه شيء.. ولكن بشرطه وشروطه، فالبعض يرى أن الالتزام ببعض المستحبات ليوم أو يومين كافٍ، ولكن الأمور لها شروط كما ذكر الإمام (ع): سبعين مرة، وهو قائم، ومواظب حتى تمضي سنة؛ عندئذ يُكتب عند الله -عز وجل- من المستغفرين بالأسحار، ويوجب الله له مغفرته؛ وهذه من أهم بركات صلاة الليل.

الذنوب سبباً في الحرمان من قيام الليل..
لنتأمل هذه الآية ولنقس عليها قياساً صحيحاً، قال تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}.. رب العالمين كان ينظر إلى البعض في زمان النبي -صلى الله عليه وآله- لعلهم كانوا يحبون الجهاد مع الرسول؛ ولكن لهفواتهم أو لذنوبهم أو لنفاقهم ربما، لم يردّ الله -عز وجل- لهم أن يجاهدوا.. فهو لم يرسل لهم ملكاً على باب المدينة يرجعهم كلما أرادوا الخروج؛ فهذا لم يعهد لا في حياة النبي ولا في حياة الأنبياء قبله، لكنه -جل وعلا- كان يقوم بأمر له نفس المؤدى؛ فكأن هناك ملكٌ يطوف المدينة ويضرب على رؤوس البعض قائلاً: أنتم أقعدوا!.. وفي الليل رب العالمين له هذه الحركة، فالبعض يثبّطهم ويقال: ناموا مع النائمين، فتجده يقوم لقضاء حاجته أكثر من مرة خلال الليل، أما عند القيام فإنه يرنّ المنبه، وتوقظه زوجته وهو كالمغمى عليه؛ فمن دواعي العجب هذا النوم الثقيل!.. بينما نجد البعض يعترف ويقول: يأتيني هاتف في نومي يقول لي: قم لصلاة الليل، وفرق بين هذا وذاك!.. والسبب كما جاء في الرواية: (أن رجلاً جاء إِلَى أَمِيرِ الْمؤمِنِين علِي بنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) فَقَال: يا أَمِير الْمؤمنِين إِنِّي قَد حرِمت الصلاةَ بِالليلِ!.. فَقَال أَمِير المؤمِنِين (عليه السَّلام): (أَنت رجل قَد قَيدتكَ ذنوبك).. وكذلك فإن البعض قد يشتكي من خسارته في العمل وفي الحياة، حتى أن البعض أمضى معظم حياته وهو ينتقل من فشلٍ إلى فشل.. لذا، علينا أن نتأمل في هذه الرواية المنقولة عن الإمام الصادق (ع): (إنّ الرجل ليكذب الكذبة فيحرم بها صلاة اللّيل، فإذا حُرم بها صلاة اللّيل حُرم الرزق).

التوصيات العملية لقيام الليل:
أولاً: برمجة النفس.. الذي يريد قيام الليل عليه أن يبرمج نفسه، ويتحكم في نومه.. فحياتنا انقلبت رأساً على عقب؛ حيث أنه لم يعد هناك لا ليل ولا نهار؛ بسبب هذه الإضاءات الشديدة.. في السابق كان لليل هيبة، تجد الناس فيه في نوم عميق، ويستيقظون مع صلاة الفجر بكل نشاط.. أما هذا الأيام: فساعتنا البيولوجية -كما يقال- اختلت، وسهرنا عادة معظمه فيما لا نفع فيه: جلوسٌ مع الغافلين، أو جلوسٌ أمام التلفاز، أو أكل وشرب وجلوسٌ في الأماكن الملهية؛ فهذا الذي يسهر مع الباطل -لا الحرام؛ لأن الحرام يذيب الصلاة الواجبة لا المستحبة- كيف يمكنه أن يقوم لصلاة الليل؟!.. لكن الذي له عشق ورغبة في قيام الليل، فهذا الحب لا يجعله يسهر.. البعض لا ينام بعد الغداء؛ لئلا يسهر ليلاً فتفوته صلاة الليل، هو في النهار ويفكر في برمجة صلاة ليله.

ثانياً: الشوق والرغبة الشديدان.. إن الطلاب أيام الامتحانات تكون حياتهم مبرمجة، فهم: يسهرون الليل في الدراسة، ولا يذهبون للتسلية؛ رغبة في النجاح.. وكذلك الذي لديه سفرة إلى تجارة، أو عروس تزف إليه في دولة أخرى؛ ألاّ تجده مستيقظاً قبل الإقلاع بساعات شوقاً لمن ينتظره؟!..

ثالثاً: الدعاء.. المؤمن يلتزم بهذا الذكر القرآني في آخر سورة الكهف: بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}.. فصلاة الليل هي لقاء مع الله عز وجل؛ ومن توسل إلى الله -عز وجل- بهذه الآية يرجى أن يقوم الليل.

التوصيات العملية لفوات صلاة الليل:
أولاً: الحسرة.. فالإنسان إذا فاته القطار لتجارة مربحة، يستيقظ وكله ألم.. كذلك المؤمن إذا فاتته صلاة الليل، فإنه يتحسر ويتألم كثيراً لما فاته من الخير الكثير.

ثانياً: القضاء.. من فاتته صلاة الليل، بإمكانه أن يقضي هذه الصلاة في النهار.. في بعض الروايات؛ أنه حتى المعصوم كان ربما يمرّ عليه ظرف قاهر، فكان يقضي صلاة ليله نهاراً وهو راكب.. فالمؤمن يقضي صلاة الليل؛ ولو على مستوى الشفع والوتر.

ثالثاً: التواصي بالحق.. فما أهنأ الحياة لزوجين يقيمان الليل!.. البعض إذا قام في الليل لا يرفع صوته؛ لئلا يكون هناك رياء، سئل الصادق (ع) عن الرجل يقوم آخر الليل فيرفع صوته بالقرآن، فقال: (ينبغي للرجل إذا صلى في الليل أن يسمع أهله لكي يقوم القائم، ويتحرك المتحرك).. فرقٌ بين امرأة تستيقظ على المنبه؛ وبين زوجة تستيقظ في جوف الليل على صوت زوجها وهو يئنّ في جوف الليل قائلاً: (اللهم!.. هذا مقام العائذ بك من النار.. اللهم!.. هذا مقام المستجير بك من النار.. إلهي!.. لك في هذا الليل نفحات، وجوائز، وعطايا، ومواهب).. فالمرأة إذا سمعت هذا الصوت هل يمكنها أن تنام؟.. والقضية أعمق إذا كان الرجل نائماً، وزوجته المرضع، أو الحامل، أو المتعبة من عمل النهار؛ وإذ بها تقوم في الليل وتقول: (إلهي!.. أمتك بين يديك)؛ هذا الرجل ألا يستحي من نفسه فيقوم لصلاته؟!.. أليست هذه أسرةٌ مباركة، فهنيئاًً لمن كان كذلك!.. وإذا قمت من منامك ليلاً، فأسجد وقل: (الحمد لله الذي ردّ عليّ روحي؛ لأحمده وأعبده).

مقام الشفاعة لمن قام الليل..
إن الذي يريد الشفاعة يوم القيامة؛ عليه بصلاة الليل.. فرب العالمين يعطي الشفاعة لأهل الليل، وسيد الشفعاء هو النبي -صلى الله عليه وآله- الذي قال: (أنا سيد ولد آدم، ولا فخر).. سئل الصادق (ع) عن المؤمن: هل له شفاعةٌ؟.. قال: (نعم)، فقال له رجلٌ من القوم: هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد (ص) يومئذ؟.. قال: (نعم، إنّ للمؤمنين خطايا وذنوباً، وما من أحد إلا يحتاج إلى شفاعة محمد يومئذ).. وسأله رجل عن قول رسول الله (ص): (أنا سّيد ولد آدم ولا فخر).. قال: (نعم، يأخذ حلقة باب الجنة فيفتحها فيخرّ ساجداً، فيقول الله: ارفع رأسك اشفع تُشفّع، اطلب تُعطَ.. فيرفع رأسه ثم يخرّ ساجداً، فيقول الله: ارفع رأسك اشفع تُشفّع، واطلب تُعطَ.. ثم يرفع رأسه فيشفع ويطلب؛ فيُعطى).. هذا ديدنه في الدنيا، فرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- عندما كان يخر ساجداً؛ كانت بعض نسائه يرونه كالخرقة على الأرض، عن عائشة: (رأيت رسول الله (ص) في سجوده، كالخرقة البالية..).. ومن الطبيعي أن الذين تنالهم شفاعة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في الآخرة، هم الذين كانوا يتأسون به في قيام الليل.

تحويل دمعة العزاء إلى دمعة مناجاة..
ليتذكر من يقوم لصلاته في الليل، تلك الأمة الصالحة زينب -عليها السلام- في ليلة الحادي عشر من المحرم؛ تلك السيدة المفجوعة بأخيها وأحبتها وأبنائها، والتي رأت ما لا تحتمله الجبال؛ وإذ بها في سواد الليل تبحث عن مكان تصلي فيه، ولكن أين صلت زينب صلاة ليلها تلك؟!.. الله العالم ربما صلت بجوار جسد شقيقها، بعد أن نامت عيون أعدائها؛ وربما كانت تقول: يا رب بحق هذا القتيل الذي بين يدي، أوَ ما قالت: (اللهم!.. تقبل منا هذا القربان)؟.. يا لها من صلاة ليل، والمؤمن كذلك في صلاة الليل، إن لم تجر دمعته من خشية الله -عز وجل- فليتذكر مصائب أهل البيت -عليهم السلام-، فإن جرت الدمعة على مصائب الحسين -عليه السلام- ليلة العاشر، ومصائب زينب ليلة الحادي عشر؛ عندئذٍ فليطلق دمعته في مناجاة مع رب العالمين.. وهنيئاً لمن قال في صلاة ليله: (إلهي!.. بحق دم المظلوم) وطلب من الله قضاء حوائجه للدنيا والآخرة!..

الخلاصة:
١- أن نافلة الليل هي على رأس كل النوافل، ومن يلتزم بها؛ تفتح له أبواب الخير من حيث لا يحتسب.
٢- أن المؤمن همّه ما وراء الجنة، همّه التنافس في الدرجات.
٣- أن الذي يريد صفاء القلب والتوجه المركز إلى جهة العرش، فعليه بصلاة الليل.
٤- أن على المؤمن أن يوازن بين نشاط النهار وقيام الليل، فشتان بين نشاط النهار لأجل دُريهمات فانية وبين قيام الليل.
٥- أن الله -جل وعلا- جعل الفرائض كلها في كفة، وقيام الليل في كفة، وجعل ثوابها المقام المحمود الذي لا يعلمه إلاّ الله -عز وجل- وحده.
٦- أن الذنوب التي يقترفها العبد من موجبات حرمانه من قيام الليل.
٧- أن الذي يريد قيام الليل عليه أن يبرمج نفسه، فيتحكم في نومه، ويكون لديه الشوق والرغبة الشديدة للقيام.
٨- أن من تفوته صلاة الليل عليه أن يستشعر الحسرة، ويقضي ما فاته منها، ولو على مستوى الشفع والوتر.
٩- أن من لم تجرِ دمعته من خشية الله -عز وجل- في صلاة ليله، ليتذكر مصائب أهل البيت عليهم السلام.. فإذا رق قلبه؛ أطلق دمعته في مناجاة مع رب العالمين.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.