Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

الربط بين عالم التكوين وعالم التشريع..
إن السور الأخيرة من القرآن الكريم، وخاصة في الجزء الثلاثين؛ مليئة بالأقسام المتوجهة إلى عناصر الطبيعة؛ ففيها ذكر: الكواكب، والفجر، والضحى، والليل، والنهار.. -والله العالم- أن الإكثار من الآيات الآفاقية، واختيار هذه الأقسام، كأنه دعوة للإنسان كي يربط بين عالم التكوين وعالم التشريع!.. فالإنسان الذي يتأمل في النجوم -مثلاً- قبل صلاة المغرب، ويرى هذه الكواكب التي يذكرها القرآن الكريم: ﴿الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾؛ فهو عندما يقف للصلاة بين يدي الله -عز وجل-؛ يعيش حالة من الخشوع، لأنه يعلم أن من يعبده الآن؛ هو صاحب هذه المجرات، ورب هذه الشمس، ورب هذا الوجود؛ مما يوجب له الخشوع.. وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾ لا يستبعد أن ينطبق في هذه الحالة على الإنسان.. فإذن، ينبغي للمؤمن التدبر في الأقسام القرآنية، ومن هذه الأقسام ما ورد في سورة “الليل”:

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾.. أقسم الله -عز وجل- بالليل إذا يحيط بظلمته على الأشياء.

﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾.. أي ظهر وبان وأضاء.

﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى﴾.. إشارة إلى رب العالمين، ولكن لمَ قال: ﴿وَمَا خَلَقَ﴾ بدل “ومن خلق الذكر والأنثى”؟.. هنا بعض المعاني الدقيقة، ومنها: قسم بالقدرة التي خلقت الذكر والأنثى، وهذه القدرة بيد الله -عز وجل- فهو صاحب هذه القدرة.. يقول صاحب تفسير الميزان: “المراد به الله -سبحانه- وإنما عبر بـ: ﴿مَا﴾، دون “من”، إيثاراً للإبهام المشعر بالتعظيم والتفخيم.. والمعنى: وأقسم بالشيء العجيب الذي أوجد الذكر والأنثى، المختلفين على كونهما من نوع واحد”.

﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾.. أي أنتم الناس سعيكم في الحياة سعي مختلف، فعن الإمام الهادي -عليه السلام- أنه قال: (الدنيا سوق؛ ربح فيها قوم وخسر آخرون).. فأعمال الناس عجيبة!.. حيث يمكن أن يكون هناك ولدان في أسرة واحدة، وبينهما بعد المشرقين!.. رغم أن أباهما واحد، وأمهما واحدة، والبيئة التي ترعرعا فيها هي نفسها!.. والقرآن الكريم يُقسّم أصحاب هذه الأنواع من السعي، فيقول:

﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾.. أي الذي يعطي ماله، ويتقي ربه، ويصدق بنهايات الأعمال، وهو الجزاء؛ ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾.. وهنا تفسيران لهذه الآية:

الأول: في الدنيا.. أي أن أموره ميسرة وهو في الحياة الدنيا، يقول تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾، فالمؤمن من أسعد الناس في الحياة الدنيا؛ لأن منشأ كل خوف وقلق أمران، هما:
أ. الخوف من المستقبل.
ب. الحزن على الماضي.

مثلاً: أصحاب الأسهم يكون حزنهم على عدم شرائهم فيما مضى، عندما كانت الأسهم رخيصة.. ويكون خوفهم من نزول السعر في المستقبل.. وقس عليهم كل أصحاب المكاسب!.. فالخوف يكون تارة على المال، وتارة على الصحة، وتارة على الذرية، وتارة على الأمن والأمان.. حيث أن لكل إنسان ما يخاف منه، وله ما يحزن عليه؛ ولكن أولياء الله -عز وجل- لا يخافون ولا يحزنون، يقول تعالى: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.. فالمؤمن: لا يخاف إلا الله -عز وجل-؛ لذا فهو لا يخاف من المستقبل، ولا يخاف شيئاً.. بل يعيش في منتهى الأمن والأمان؛ فهذه هي صفة المؤمن!.. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها: إبراهيم الخليل -عليه السلام- عندما أُلقي في النار، وأصحاب سيد الشهداء -عليه السلام- ليلة عاشوراء.

الثاني: في الآخرة.. وقال البعض: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾؛ أي في الآخرة حيث النعيم؛ ولا مانع من الجمع في تيسير اليسرى في الدنيا والآخرة.. ولكن كيف ييسر رب العالمين السبيل للإنسان؟.. يقول تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالأُولَى﴾.. والهداية على قسمين:

أ. هداية تكوينية: هناك هداية تكوينية؛ كهداية النحل، يقول تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾.. وهي تعني: الإيصال إلى المطلوب.
ب. هداية تشريعية: وهناك هداية تشريعية؛ وهي التي تتم عن طريق الأنبياء والرسل.. وهي تعني: إراءة الطريق.

مثلاً: هناك سائل بصير، يسأل عن عنوان معين، فالإنسان يستطيع أن يصف له العنوان بدقة، كأن يقول له: اذهب يميناً أو شمالاً، ويتركه يصل إلى مقصوده؛ فهو بهذه الحركة أراه الطريق.. ولكن إن كان السائل كفيفاً، فإنه يأخذ بيده أو بعصاه، ويجعل يده على باب المنزل، ويقول له: هذا هو البيت؛ فهو هنا أوصله إلى المطلوب.. وشتان بين الهداية بالمعنى الأول، والهداية بالمعنى الثاني!.. فرب العالمين له هاتان السياستان في العباد:

١. سياسة إراءة الطريق.. فالهداية التي بمعنى: “إراءة الطريق” موجودة، حيث أن الأنبياء جاؤوا لإراءة الطريق للعباد.
٢. سياسة الإيصال إلى المطلوب.. فالهداية للبعض هي قضية أرقى من إراءة الطريق، بحيث يشمل الإيصال إلى المطلوب.

إن البعض قد يستغرب السياسة الثانية، فيقول: إن الأنبياء شغلهم إراءة الطريق، أما أن يأخذ أحدنا بيد الأعمى إلى البيت؛ فليست هذه السُنّة الإلهية.. هنا يقول السيد الطباطبائي: “ومعنى الآية -إن كان المراد بالهدى إراءة الطريق- أنا إنما نبين لكم ما نبين؛ لأنه من إراءة طريق العبودية، وإراءة الطريق علينا.. وإن كان المراد به الإيصال إلى المطلوب، أنا إنما نيسر هؤلاء لليسرى من الأعمال الصالحة، أو من الحياة السهلة الأبدية، ودخول الجنة؛ لأنه من إيصال الأشياء إلى غاياتها، وعلينا ذلك”.. كما أن رب العالمين عندما يدخل المؤمن الجنة في الآخرة، فإنه لا يقول له في عرصات القيامة: اذهب يميناً أو شمالاً حتى ترى الجنة، بل {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ}!.. الجنة هي التي تأتي للمؤمن، لا هو الذي يذهب إليها!.. هذه الحركة الإلهية بالنسبة إلى الجنة، هي في الدنيا أيضاً موجودة للبعض.

﴿وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾.. العسر: عكس التيسير.. كأن يكون الإنسان فاشلاً في كل شيء في: زواجه، وتجارته، وذريته؛ أي تكون حياته منقلبة رأساً على عقب، ليس فيها أي خير.. ولكن كيف ييسره رب العالمين للعسرى؟.. يقول صاحب تفسير الميزان: “والمراد بتيسيره للعسرى: خذلانه بعدم توفيقه للأعمال الصالحة، بتثقيلها عليه، وعدم شرح صدره للإيمان، أو إعداده للعذاب”.. وهنا عبارة جميلة لبعضهم، حيث يقول: يكفي لإضلال العبد أن يرفع رب العالمين عنه موجبات الهداية: فلا يلتفت إليه، ولا يقوّي قلبه، ولا يربط عليه، كما فعل مع أهل الكهف، ﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾، ومع أم موسى -عليه السلام- ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.. فرب العالمين غير ملزم بهذا العطاء، إذ يكفي أن يرفع عنه الحماية والمدد والهداية؛ فيصبح في الوادي.. بمثابة إنسان يساعد كفيفاً في عبور الشارع، ولكن هذا الكفيف أخذ يتكلم بكلام مزعج، فيتركه ذلك الإنسان، وإذا به يسقط في حفرة!.. ولهذا المؤمن يطلب دائماً من الله -عز وجل- هذه الطلبات الثلاثة: (اللهم!.. لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبداً.. اللهم!.. لا تردنا إلى سوء استنقذتنا منه أبداً.. اللهم!.. لا تسلب منا صالح ما أعطيتنا أبداً).

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.