- جواهر البحار
- » تتمة كتاب الطهارة
- » أحاديث في التعزية والمأتم وآدابهما وأحكامهما
قال الباقر (عليه السلام): يصنع للميّت مأتم ثلاثة أيّام من يوم مات.
قال الصادق (عليه السلام): إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر فاطمة (عليها السلام) أن تأتي أسماء بنت عميس ونساءها، وأن تصنع لهم طعاماً ثلاثة أيّام، فجرت بذلك السنّة.
قال الصادق (عليه السلام): ليس لأحد أن يحدّ أكثر من ثلاثة أيّام، إلّا المرأة على زوجها حتّى تنقضي عدّتها.
قال الصادق (عليه السلام): أوصى الباقر (عليه السلام) بثمانمائه درهم لمأتمه، وكان يرى ذلك من السنّة؛ لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر باتّخاذ طعام لآل جعفر.
قيل للصادق (عليه السلام): ما بالنا نجد بأولادنا ما لا يجدون بنا؟ قال (عليه السلام): لأنّهم منكم ولستم منهم.
يمكن أن يكون لخلقهم من أجزاء بدن الآباء مدخل في ذلك، وأن يكون المراد أنّكم ربّيتموهم بمشقّة شديدة، وآنستم بهم في صغرهم، فلذا تحزنون على موتهم أكثر منهم على موتكم، أو لأنّكم حصلتموهم للانتفاع بهم، فلذا تحزنون على حرمانكم، والأوّل أظهر. (ص٧٢-٧٣)
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي، فإنّها أعظم المصائب.
لعلّ العلّة في ذلك أنّ تذكّر عظام المصائب يهوّن صغارها، كما هو المجرّب.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ الله تبارك وتعالى ينزّل المعونة على قدر المؤونة، وينزّل الصبر على قدر شدّة البلاء.
قال الصادق (عليه السلام) بعد الانتهاء من جنازة إسماعيل: أيّها الناس، إنّ هذه الدنيا دار فراق ودار التواء لا دار استواء، على أنّ لفراق المألوف حرقة لا تدفع، ولوعة لا تردّ، وإنّما يتفاضل الناس بحسن العزاء وصحّة الفكرة، فمن لم يثكل أخاه ثكله أخوه، ومن لم يقدّم ولداً كان هو المقدّم دون الولد.
قال الكاظم (عليه السلام): رأى الصادق (عليه السلام) رجلاً قد اشتدّ جزعه على ولده، فقال: يا هذا، جزعت للمصيبة الصغرى وغفلت عن المصيبة الكبرى؟ لو كنت لما صار إليه ولدك مستعدّاً لما اشتدّ عليه جزعك، فمصابك بتركك الاستعداد له أعظم من مصابك بولدك.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): مروا أهاليكم بالقول الحسن عند موتاكم، فإنّ فاطمة (عليها السلام) بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا قبض أبوها ساعدتها بنات بني هاشم، فقالت (عليها السلام): دعوا التعداد، وعليكم بالدعاء.
لعلّها (عليها السلام) إنّما نهت عن تعداد الفضائل للتعليم، إذ ذكر فضائله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان صدقاً وكان من أعظم الطاعات، فكان غرضها أن لا يذكروا أمثال ذلك في موتاهم، لكونها مشتملة على الكذب غالباً، وانتفاع الميّت بالاستغفار والدعاء أكثر على تقدير كونها صدقاً، والمراد بالقول الحسن أن لا يقولوا فيما يذكرونه للميّت من مدائحه كذباً، أو الدعاء والاستغفار وترك ذكر المدائح مطلقاً إلّا فيما يتعلّق به غرض شرعي. (ص٧٥-٧٦)
لمّا مات إبراهيم بكى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى جرت دموعه على لحيته، فقيل له: يا رسول الله، تنهى عن البكاء وأنت تبكي؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): ليس هذا بكاء، وإنّما هي رحمة، ومن لا يرحم لا يرحم.
قال الباقر (عليه السلام) في هذه الآية ﴿وَلَا يَعۡصِينَكَ فِي مَعۡرُوفٍ﴾: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لفاطمة (عليها السلام): إذا أنا متّ فلا تخمشي عليّ وجهاً، ولا ترخي عليّ شعراً، ولا تنادي بالويل، ولا تقيمي عليّ نائحة، ثمّ قال (عليه السلام): هذا المعروف الذي قال الله عزّ وجلّ في كتابه: ﴿وَلَا يَعۡصِينَكَ فِي مَعۡرُوفٍ﴾.
قال الصادق (عليه السلام): من عزّى أخاه المؤمن كسي في الموقف حلّة.
قال الصادق (عليه السلام) _ عند ما عزّى رجلاً بابن له _: الله خيرلابنك منك، وثواب الله خير لك منه، فلمّا بلغه جزعه عليه عاد إليه، فقال (عليه السلام) له: قد مات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فما لك به أسوة؟ فقال له: إنّه كان مراهقاً، فقال (عليه السلام): إنّ أمامه ثلاث خصال: شهادة أن لا إله إلّا الله، ورحمة الله، وشفاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلن يفوته واحدة منهنّ إن شاء الله.
«بابن له»، أي بسبب فقد ابنه؛ قوله (عليه السلام): «الله خير لابنك منك»، أقول: لمّا كان الغالب أنّ الحزن على الأولاد يكون لتوهّم أمرين باطلين: أحدهما: أنّه على تقدير وجود الولد يصل النفع من الوالد إليه، أو أنّ هذه النشأة خير له من النشأة الأخرى، والحياة خير له من الموت، فأزال (عليه السلام) وهمه بأنّ الله سبحانه ورحمته خير لابنك منك، وممّا تتوهّم من نفع توصّله إليه على تقدير الحياة، والموت مع رحمة الله خير من الحياة. وثانيهما: توقّع النفع منه مع حياته أو الاستيناس به، فأبطل (عليه السلام) ذلك بأنّ ما عوّضك الله تعالی من الثواب على فقده خير لك من كلّ نفعٍ توهّمته أو قدّرته في حياته ...
قوله: «إنّه كان مراهقاً»، في بعض النسخ: مرهقاً _ كما في الكافي _ فهو على بناء المجهول من باب التفعيل أو من الإفعال على البنائين، قال في النهاية: الرهق: السفه وغشيان المحارم، وفيه فلان مرهق، أي متّهم بسوء وسفه، ويروى مرهق، أي ذو رهق، وفي القاموس: الرهق: محرّكة السفه والنوك والخفّة وركوب الشرّ والظلم وغشيان المحارم، والمرهق _ كمكرم _ من أدرك أو كمعظّم الموصوف بالرهق، أو من يظنّ به السوء.
فالمراد أنّ حزني ليس بسبب فقده، بل بسبب أنّه كان يغشى المحارم وأخاف أن يكون معذّباً، فعزّاه (عليه السلام) بذكر وسائل النجاة وأسباب الرجاء.
وأمّا على نسخة «المراهق»، فهو من قولهم: راهق الغلام، أي قارب الحلم، فإمّا أن يكون أطلق المراهق على المدرك مجازاً، أو توهّم أنّ المراهق أيضاً معذّب، والحاصل أنّه خرج من حدّ الصغر، وأخاف أن يكون مأخوذاً بأعماله، والأوّل أصوب. (ص٨٠-٨٢)
قال الصادق (عليه السلام): لمّا قتل جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة (عليها السلام) أن تتّخذ طعاماً لأسماء بنت عميس ثلاثة أيّام، وتأتيها وتسلّيها ثلاثة أيّام، فجرت بذلك السنّة أن يصنع لأهل المصيبة ثلاثة أيّام طعام.
قال الكاظم (عليه السلام): إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا انتهى إليه قتل جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) دخل على أسماء بنت عميس امرأة جعفر فقال: أين بنيّ؟ فدعت بهم وهم ثلاثة: عبد الله وعون ومحمّد، فمسح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رؤوسهم، فقالت: إنّك تمسح رؤوسهم كأنّهم أيتام؟ فعجب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من عقلها، فقال: يا أسماء، أ لم تعلمي أنّ جعفراً _ رضوان الله عليه _ استشهد؟ فبكت، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تبكي، فإنّ رسول الله جبرئیل أخبرني أنّ له جناحين في الجنّة من ياقوت أحمر، فقالت: يا رسول الله، لو جمعت الناس وأخبرتهم بفضل جعفر لا ينسى فضله، فعجب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من عقلها، ثمّ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «ابعثوا إلى أهل جعفر طعاماً» فجرت السنّة.
قال عمر بن عليّ بن الحسين: لمّا قتل الحسين بن عليّ (عليه السلام)، لبس نساء بني هاشم السواد والمسوح، وكنّ لا يشتكين من حرّ ولا برد، وكان عليّ بن الحسين (عليه السلام) يعمل لهنّ الطعام للمأتم.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مرض موته: أيّها الناس، أيّما عبد من أمّتي أصيب بمصيبة بعدي، فليتعزّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بعدي، فإنّ أحداً من أمّتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشدّ عليه من مصيبتي.
كتب أبو عون الأبوش إلى العسكري (عليه السلام): إنّ الناس قد استوهنوا من شقّك ثوبك على الهادي (عليه السلام)، قال (عليه السلام): يا أحمق، ما أنت وذاك؟ قد شقّ موسى على هارون (عليهما السلام)، إنّ من الناس من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت مؤمناً، ومنهم من يولد كافراً ويحيا كافراً ويموت كافراً، ومنهم من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت كافراً، وإنّك لا تموت حتّى تكفر ويغيّر عقلك.
فما مات حتّى حجبه ولده عن الناس وحبسوه في منزله من ذهاب العقل والوسوسة وكثرة التخليط، ويردّ على أهل الإمامة ١ ، وانتكث ٢ عمّا كان عليه
(٢) وفي المصدر «وانكشف». راجع: اختیار معرفة الرجال، ص٥٧٣.
لمّا حضرت إسماعيل بن الصادق (عليه السلام) الوفاة جزع (عليه السلام) جزعاً شديداً، فلمّا أن أغمضه دعا بقميص غسيل أو جديد فلبسه، ثمّ تسرّح وخرج يأمر وينهي، فقال له بعض أصحابه: جعلت فداك، لقد ظننّا أن لا ننتفع بك زماناً لمّا رأينا من جزعك، قال (عليه السلام): إنّا أهل بيت نجزع ما لم تنزل المصيبة، وإذا نزلت صبرنا.
قال الصادق (عليه السلام): البكّاؤون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمّد، وعليّ بن الحسين (عليهم السلام): فأمّا آدم فبكى على الجنّة، حتّى صار في خدّيه أمثال الأدوية.
وأمّا يعقوب (عليه السلام) فبكى على يوسف (عليه السلام) حتّى ذهب بصره، وحتّى قيل له: ﴿تَاللَّهِ تَفۡتَؤُاْ تَذۡكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً أَوۡ تَكُونَ مِنَ الۡهَٰلِكِينَ﴾.
وأمّا يوسف (عليه السلام) فبكى على يعقوب (عليه السلام) حتّى تأذّى به أهل السجن، فقالوا: إمّا أن تبكي الليل وتسكت بالنهار، وإمّا أن تبكي النهار وتسكت بالليل، فصالحهم على واحد منها.
وأمّا فاطمة (عليها السلام) فبكت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى تأذّى بها أهل المدينة، فقالوا لها: قد آذيتنا بكثرة بكائك، وكانت تخرج إلى المقابر مقابر الشهداء فتبكي حتّى تقضي حاجتها
ثمّ تنصرف.
وأمّا عليّ بن الحسين (عليه السلام) فبكى على الحسين (عليه السلام) عشرين سنة أو أربعين سنة، ما وضع بين يديه طعام إلّا بكى، حتّى قال له مولىً له: إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال (عليه السلام): ﴿إِنَّمَآ أَشۡكُواْ بَثِّي وَحُزۡنِيٓ إِلَى اللَّهِ وَأَعۡلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة (عليها السلام) إلّا خنقتني لذلك عبرة.
قال عبد الله بن بكر: ذكرت أبا الخطّاب ومقتله عند الصادق (عليه السلام)، فرققت عند ذلك فبكيت، فقال: أ تأسى عليهم؟ فقلت: لا، ولكن سمعتك تذكر أنّ عليّاً (عليه السلام) قتل أصحاب النهروان فأصبح أصحاب عليّ (عليه السلام) يبكون عليهم، فقال عليّ (عليه السلام): أ تأسون عليهم؟ فقالوا: لا، إنّا ذكرنا الألفة التي كنّا عليها والبليّة التي أوقعتهم، فلذلك رققنا عليهم، قال (عليه السلام): لا بأس.
قال الصادق (عليه السلام) في التعزية ما معناه: إن كان هذا الميّت قد قرّبك موته من ربّك أو باعدك عن ذنبك فهذه ليست مصيبة، ولكنّها لك رحمة وعليك نعمة، وإن كان ما وعظك ولا باعدك عن ذنبك ولا قرّبك من ربّك، فمصيبتك بقساوة قلبك أعظم من مصيبتك بميّتك إن كنت عارفاً بربّك.
قال الرضا (عليه السلام) للحسن بن سهل وقد عزّاه بموت ولده: التهنئة بآجل الثواب أولى من التعزية على عاجل المصيبة.
قال الهادي (عليه السلام): المصيبة للصابر واحدة، وللجازع اثنتان.
نظر الصادق (عليه السلام) إلى رجل من مواليه وقال: ما لي أراك حزيناً؟ فقال: كان لي ابن قرّة عينٍ فمات، فتمثّل (عليه السلام):
عطيّته إذا أعطى سرور
وإن أخذ الذي أعطى أثابا
فأيّ النعمتين أعمّ شكراً
وأجزل في عواقبها إياباً
أنعمته التي أبدت سروراً
أم الأخرى التي ادّخرت ثواباً
وقال (عليه السلام): إذا أصابك من هذا شيء فأفض من دموعك، فإنّها تسكّن.
لمّا مرّ عليّ (عليه السلام) بالثوريين سمع بكاء، فقال (عليه السلام): ما هذه الأصوات؟ قيل: هذا البكاء على من قتل بصفّين، قال (عليه السلام): أما إنّي شهيد لمن قتل منهم صابراً محتسباً للشهادة، ثمّ مرّ بالفائشيّین فسمع الأصوات، فقال (عليه السلام) مثل ذلك، ثمّ مرّ بالشباميّين فسمع رنّة شديدة وصوتاً مرتفعاً عالياً، فخرج إليه حرب بن شرحبيل الشبامي، فقال عليّ (عليه السلام): أ تغلبكم نساؤكم؟ أ لا تنهونهنّ عن هذا الصياح والرنين؟ قال: يا أمير المؤمنين، لو كانت داراً أو دارين أو ثلاثاً قدرنا على ذلك، ولكن من هذا الحيّ ثمانون ومائة قتيل، فليس من دار إلّا وفيها بكاء، أمّا نحن معاشر الرجال فإنّا لا نبكي، ولكن نفرح لهم بالشهادة، فقال عليّ (عليه السلام): رحم الله قتلاكم وموتاكم.
قال الباقر (عليه السلام): أشدّ الجزع الصراخ بالويل والعويل ولطم الوجه والصدر وجزّ الشعر، ومن أقام النواحة فقد ترك الصبر وأخذ في غير طريقه، ومن صبر واسترجع وحمد الله جلّ ذكره فقد رضي بما صنع الله ووقع أجره على الله عزّ وجلّ، ومن لم يفعل ذلك جرى عليه القضاء وهو ذميم، وأحبط الله أجره.
في مناجاة موسى (عليه السلام): أي ربّ، أيّ خلقك أحبّ إليك؟ قال: من إذا أخذت حبيبه سالمني، قال (عليه السلام): فأيّ خلقك أنت عليه ساخط؟ قال: من يستخيرني في الأمر، فإذا قضيت له سخط قضائي.
أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيد عبد الرحمن بن عوف، فأتى إبراهيم وهو يجود بنفسه، فوضعه في حجره، فقال: يا بنيّ، إنّي لا أملك لك من الله شيئاً وذرفت عيناه، فقال له عبد الرحمن: يا رسول الله، تبكي، أ ولم تنه عن البكاء؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّما نهيت عن النوح عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعم، لعب ولهو ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة، خمش وجوه وشقّ جيوب ورنّة شيطان. إنّما هذه رحمة، من لا يرحم لا يرحم، لولا أنّه أمر حقّ ووعد صدق وسبيل بالله، وأنّ آخرنا سيلحق أوّلنا لحزنّا عليك حزناً أشدّ من هذا، وإنّا بك لمحزونون، تبكي العين ويدمع القلب ولا نقول ما يسخط الربّ عزّ وجلّ.
انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم بن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم بن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فخرج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حين سمع ذلك، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): أمّا بعد، أيّها الناس، إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى المساجد _ ودمعت عيناه _ فقالوا: يا رسول الله، تبكي وأنت رسول الله؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّما أنا بشر، تدمع العين ويفجع القلب، ولا نقول ما يسخط الربّ، والله، يا إبراهيم، إنّا بك لمحزونون.
لمّا مات عثمان بن مظعون كشف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الثوب عن وجهه، ثمّ قبّله ما بين عينيه، ثمّ بكى طويلاً، فلمّا رفع السرير قال (صلى الله عليه وآله وسلم): طوباك يا عثمان، لم تلبسك الدنيا ولم تلبسها.
أتى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمامة بنت زينب ونفسها تتقعقع ١ في صدرها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لله ما أخذ ولله ما أعطى، وكلّ إلى أجل مسمّىً وبكى، فقال له سعد بن عبادة: تبكي وقد نهيت عن البكاء؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّما هي رحمة، يجعلها الله في قلوب عباده، وإنّما يرحم الله من عباده الرحماء.
قال في النهاية: في الحديث «فجيء بالصبيّ ونفسه تتقعقع»، أي تضطرب وتتحرّك، أراد كلّما صار إلى حال لم يلبث أن ينتقل إلى أخرى تقرّبه من الموت. (ص٩١-٩٢)
قال عبد الله بن جعفر: أحفظ حين دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أمّي فنعى لها أبي، ونظرت إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي وعيناه تهرقان الدموع حتّى تقطر لحيته، ثمّ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): اللّهمّ، إنّ جعفراً قد قدم إلى أحسن الثواب فاخلفه في ذرّيّته بأحسن ما خلفت أحداً من عبادك في ذرّيّته، ثمّ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أسماء، أ لا أبشّرك؟! قالت: بلى، بأبي أنت وأمّي، فقال: إنّ الله عزّ وجلّ جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنّة.
ولمّا انصرف النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من أحد راجعاً إلى المدينة لقيته خميسة بنت جحش، فنعى لها الناس أخاها عبد الله بن جحش فاسترجعت واستغفرت له، ثمّ نعي لها خالها فاستغفرت له، ثمّ نعي لها زوجها مصعب بن عمير فصاحت وولولت، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ زوج المرأة منها لبمكان _ لمّا رأى صبرها على أخيها وخالها وصياحها على زوجها _.
ثمّ مرّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على دور من دور الأنصار من بني عبد الأشهل، فسمع البكاء والنواح على قتلاهم، فذرفت عيناه وبكى، ثمّ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): لكن حمزة لا بواكي له.
فلمّا رجع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير إلى دور بني الأشهل، أمرا نساءهم أن يذهبن فيبكين على عمّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلمّا سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بكاءهنّ على حمزة خرج إليهنّ وهنّ على باب مسجده يبكين، فقال لهنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ارجعن يرحمكنّ الله، فقد واسيتنّ بأنفسكنّ.
قال الصادق (عليه السلام): إنّ إبراهيم خليل الرحمن (عليه السلام) سأل ربّه أن يرزقه ابنة تبكيه بعد موته.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أ تدرون ما حقّ الجار؟ قالوا: لا، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن استغاثك أغثه، وإن استقرضك أقرضه، وإن افتقر عدت إليه وإن أصابه خير هنّأته، وإن مرض عدته وإن أصابته مصيبة عزّيته، وإن مات تبعت جنازته، ولا تستطيل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلّا بإذنه، وإذا اشتريت فاكهة فاهدها له، وإن لم تفعل فأدخلها سرّاً، ولا يخرج بها ولدك يغيظ بها ولده، ولا تؤذه بريح قدرك إلّا أن تغرف له منها.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من عزّى مصاباً كان له مثل أجره من غير أن ينقصه الله من أجره شيئاً.
ومن كفّن مسلماً كساه الله من سندس وإستبرق وحرير، ومن حفر قبراً لمسلم بنى الله عزّ وجلّ له بيتاً في الجنّة، ومن أنظر معسراً أظلّه الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من عزّى حزيناً ألبسه الله عزّ وجلّ من لباس التقوى وصلّى الله على روحه في الأرواح.
سئل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عن المصافح في التعزية، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): هو سكن للمؤمن، ومن عزّى مصاباً فله مثل أجره.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من عاد مريضاً فلا يزال في الرحمة حتّى إذا قعد عنده استنقع فيها، ثمّ إذا قام من عنده فلا يزال يخوض فيها حتّى يرجع من حيث خرج … .
سأل إبراهيم (عليه السلام) ربّه، فقال: أي ربّ، ما جزاء من بلّ الدمع وجهه من خشيتك؟ قال: صلواتي ورضواني، قال: فما جزاء من يصبّر الحزين ابتغاء وجهك؟ قال: أكسوه ثياباً من الإيمان يتبوّأ بها الجنّة ويتّقي بها النار، قال: فما جزاء من سدّد الأرملة ابتغاء وجهك؟ قال: أقيمه في ظلّي وأدخله جنّتي، قال: فما جزاء من شيّع الجنازة ابتغاء وجهك؟ قال: تصلّي ملائكتي على جسده وتشيّع روحه.
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا عزّى قال: آجركم الله ورحمكم، وإذا هنّأ قال: بارك الله لكم وبارك عليكم.
توفّي لمعاذ ولد، فاشتدّ وجده عليه، فبلغ ذلك النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمّد رسول الله إلى معاذ، سلام عليك، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو، أمّا بعد، أعظم الله لك الأجر وألهمك الصبر ورزقنا وإيّاك الشكر، إنّ أنفسنا وأهالينا وأموالنا وأولادنا من مواهب الله الهنيئة وعواريه المستودعة، يمتّع بها إلى أجل معلوم ويقبض لوقت معدود، ثمّ افترض علينا الشكر إذا أعطانا، والصبر إذا ابتلانا، وقد كان ابنك من مواهب الله الهنيئة وعواريه المستودعة، متّعك الله به في غبطة وسرور، وقبضه منك بأجر كثير مذخور الصلاة والرحمة والهدى إن صبرت واحتسبت، فلا تجمعنّ عليك مصيبتين، فيحبط لك أجرك وتندم على ما فاتك، فلو قدمت على ثواب مصيبتك علمت أنّ المصيبة قد قصرت في جنب الله عن الثواب، فتنجّز من الله موعوده، وليذهب أسفك على ما هو نازل بك، فكان قد ١ ، والسلام.
قال الصادق (عليه السلام): لمّا توفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جاء جبرئیل والنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مسجّىً وفي البيت عليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، فقال: السلام عليكم يا أهل بيت الرحمة، ﴿كُلُّ نَفۡسٍ ذَآئِقَةُ الۡمَوۡتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِ﴾ إنّ في الله عزّ وجلّ عزاء من كلّ مصيبة، وخلفاً من كلّ هالك ودركاً لما فات، فبالله عزّ وجلّ فثقوا وإيّاه فارجوا، فإنّ المصاب من حرم الثواب، هذا آخر وطئي من الدنيا.
لمّا قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحدق به أصحابه فبكوا حوله واجتمعوا، ودخل رجل أشهب اللحية جسيم صبيح، فتخطّأ رقابهم فبكى، ثمّ التفت إلى أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: «إنّ في الله عزاء من كلّ مصيبة وعوضاً من كلّ فائت وخلفاً من كلّ هالك، فإلى الله فأنيبوا وإليه فارغبوا، ونظره إليكم في البلاء فانظروا، فإنّ المصاب من لم يجبر»، وانصرف، فقال بعضهم لبعض: تعرفون الرجل؟ فقال عليّ (عليه السلام): نعم، هذا أخو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الخضر (عليه السلام).
قال عليّ (عليه السلام): رخّص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في البكاء عند المصيبة وقال: النفس مصابة، والعين دامعة، والعهد قريب، فقولوا ما أرضى الله ولا تقولوا الهجر.
كتب عليّ (عليه السلام) إلى رفاعة بن شداد قاضيه على الأهواز: وإيّاك والنوح على الميّت ببلد يكون لك به سلطان.
قال الصادق (عليه السلام): نيح على الحسين بن عليّ (عليه السلام) سنة في كلّ يوم وليلة، وثلاث سنين من اليوم الذي أصيب فيه، وكان المسور بن مخرمة وجماعة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأتون مستترين متقنّعين فيستمعون ويبكون.
قال عليّ (عليه السلام): لمّا جاء نعي جعفر قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأهله: اصنعوا طعاماً واحملوه إلى أهل جعفر، ما كانوا في شغلهم ذلك، وكلوا معهم، فقد أتاهم ما يشغلهم عن أن يصنعوا لأنفسهم.
قال الكاظم (عليه السلام): أمرني أبي _ يعني الصادق (عليه السلام) _ أن آتي المفضّل بن عمر فأعزّيه بإسماعيل، وقال (عليه السلام): أقرئ المفضّل السلام وقل له: أصبنا بإسماعيل فصبرنا، فاصبر كما صبرنا، إذا أردنا أمراً وأراد الله أمراً سلّمنا لأمر الله.
قال الصادق (عليه السلام): إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا جاءته وفاة جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة، كان إذا دخل بيته كثر بكاؤه عليهما جدّاً، ويقول: كانا يحدّثانّي ويؤنسانّي، فذهبا جميعاً.
أوصى الباقر (عليه السلام) أن يندب له في المواسم عشر سنين.