أحاديث في سبب صلح الإمام الحسن (ع) مع معاوية وفي أن في الصلح هذا بقاء الشيعة وحقن دمائهم، وفي الشبه بين خفاء وجه الصواب في هذا الصلح وما فعله الخضر مع موسى (عليهما السلام)، وهذه أحاديث جليلة جمعها العلامة المجلسي في كتابه بحار الأنوار، وقد اقتبس الشيخ حبيب الكاظمي بعض هذه الأحاديث وحذف أسانيدها مع مراعاة التبويب، فكانت جواهر البحار الذي بين يديك.
.
فهرس جواهر البحار
كتاب العقل والعلم والجهل
كتاب التوحيد
كتاب العدل والمعاد
كتاب الاحتجاج
كتاب النبوة
كتاب تاريخ نبينا (ص)
كتاب الإمامة
كتاب الفتن والمحن
كتاب تاريخ أميرالمؤمنين (ع)
كتاب تاريخ فاطمة والحسنين (ع)
كتاب تاريخ السجاد والباقر والصادق والكاظم (ع)
كتاب تاريخ الرضا والجواد والهادي والعسكري (ع)
كتاب تاريخ الحجة (عج)
كتاب السماء والعالم
كتاب الإيمان والكفر
كتاب العشرة
كتاب الآداب والسنن
كتاب الروضة
كتاب الطهارة
كتاب الصلاة
كتاب القرآن
كتاب الأدعية والأذكار
كتاب الزكاة والصدقة
كتاب الصوم
كتاب أعمال السنين والشهور
كتاب الحج والعمرة
كتاب الجهاد
كتاب المزار
كتاب العقود والإيقاعات
الحديث: ١
/
ترتيب جواهر البحار: ٢٤٧٢
قال سدیر الصیرفي: قال الباقر (عليه السلام): يا سدير، اذكر لنا أمرك الذي أنت عليه، فإن كان فيه إغراق كففناك عنه، وإن كان مقصّراً أرشدناك، فذهبت أن أتكلّم، فقال الباقر (عليه السلام): أمسك حتّى أكفيك، إنّ العلم الذي وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند علي (عليه السلام) من عرفه كان مؤمناً ومن جحده كان كافراً، ثمّ كان من بعده الحسن (عليه السلام)، قلت: كيف يكون بتلك المنزلة، وقد كان منه ما كان دفعها إلى معاوية؟ فقال (عليه السلام): اسكت، فإنّه أعلم بما صنع، لولا ما صنع لكان أمر عظيم.
المصدر الأصلي: علل الشرائع
/
المصدر من بحار الأنوار: ج٤٤
، ص١
الحديث: ٢
/
ترتيب جواهر البحار: ٢٤٧٣
قال أبو سعید عقیصا: قلت للحسن (عليه السلام): يا بن رسول الله، لم داهنت معاوية وصالحته، وقد علمت أنّ الحقّ لك دونه وأنّ معاوية ضالّ باغٍ؟ فقال (عليه السلام): يا با سعيد، أ لست حجة الله تعالی ذكره على خلقه، وإماماً عليهم بعد أبي (عليه السلام)؟ قلت: بلى، قال (عليه السلام): أ لست الذي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لي ولأخي: الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا؟ قلت: بلى، قال (عليه السلام): فأنا إذن إمام لو قمت، وأنا إمام إذا قعدت.
يا با سعيد، علّة مصالحتي لمعاوية علّة مصالحة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لبني ضمرة وبني أشجع، ولأهل مكّة حين انصرف من الحديبية، أولئك كفّار بالتنزيل، ومعاوية وأصحابه كفّار بالتأويل.
يا با سعيد، إذا كنت إماماً من قبل الله تعالی ذكره، لم يجب أن يسفّه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة، وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبساً. أ لا ترى الخضر (عليه السلام) لمّا خرق السفينة، وقتل الغلام، وأقام الجدار سخط موسى (عليه السلام) فعله، لاشتباه وجه الحكمة عليه حتّى أخبره فرضي؟ هكذا أنا، سخطتم عليّ بجهلكم بوجه الحكمة فيه، ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلّا قتل.
المصدر الأصلي: علل الشرائع
/
المصدر من بحار الأنوار: ج٤٤
، ص١-٢
الحديث: ٣
/
ترتيب جواهر البحار: ٢٤٧٤
قال زيد بن وهب الجهني: لمّا طعن الحسن بن عليّ (عليه السلام) بالمدائن أتيته وهو متوجّع، فقلت: ما ترى يا بن رسول الله؟ فإنّ الناس متحيّرون.
فقال (عليه السلام): أرى _ والله _ معاوية خيراً لي من هؤلاء، يزعمون أنّهم لي شيعة، ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي، وأخذوا مالي، والله، لئن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي وآمن به في أهلي خير من أن يقتلوني فتضيع أهل بيتي وأهلي، والله، لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتّى يدفعوني إليه سلماً، فوالله، لئن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسيره، أو يمنّ عليّ فتكون سبّةً ١ على بني هاشم إلى آخر الدهر، ومعاوية لا يزال يمنّ بها وعقبه على الحيّ منّا والميّت.
قلت: تترك يا بن رسول الله، شيعتك كالغنم ليس لهم راعٍ؟ قال (عليه السلام): وما أصنع يا أخا جهينة، إنّي _ والله _ أعلم بأمر قد أدّي به إليّ عن ثقاته.
إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لي ذات يوم وقد رآني فرحاً: يا حسن، أ تفرح؟ كيف بك إذا رأيت أباك قتيلاً؟ أم كيف بك إذا ولي هذا الأمر بنو أميّة وأميرها الرحب ٢ البلعوم الواسع الأعفاج ٣ ؟ يأكل ولا يشبع، يموت وليس له في السماء ناصر ولا في الأرض عاذر، ثمّ يستولي على غربها وشرقها، تدين له العباد ويطول ملكه، يستنّ بسنن البدع والضلال ويميت الحقّ وسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يقسم المال في أهل ولايته، ويمنعه من هو أحقّ به، ويذلّ في ملكه المؤمن، ويقوى في سلطانه الفاسق، ويجعل المال بين أنصاره دولاً، ويتّخذ عباد الله خولاً ويدرس في سلطانه الحقّ، ويظهر الباطل، ويلعن الصالحون، ويقتل من ناواه على الحقّ، ويدين من والاه على الباطل، فكذلك حتّى يبعث الله رجلاً في آخر الزمان وكلب من الدهر، وجهل من الناس، يؤيّده الله بملائكته، ويعصم أنصاره، وينصره بآياته، ويظهره على الأرض، حتّى يدينوا طوعاً وكرهاً، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً ونوراً وبرهاناً، يدين له عرض البلاد وطولها، حتّى لا يبقى كافر إلّا آمن، ولا طالح إلّا صلح، وتصطلح في ملكه السباع، وتخرج الأرض نبتها، وتنزل السماء بركتها، وتظهر له الكنوز يملك ما بين الخافقين أربعين عاماً، فطوبى لمن أدرك أيّامه وسمع كلامه.
المصدر الأصلي: الاحتجاج
/
المصدر من بحار الأنوار: ج٤٤
، ص٢۰-٢١
(١) «السُّبَّة»: العار. لسان العرب، ج١، ص٤٥٦.
(٢) «الرَحْب»: الواسع. لسان العرب، ج١، ص٤١٤.
(٣) «الأَعْفاج»: جمع العِفج: وهو ما يصير الطعام إليه بعد المعدة. الصحاح، ج١، ص3٢٩.
(٢) «الرَحْب»: الواسع. لسان العرب، ج١، ص٤١٤.
(٣) «الأَعْفاج»: جمع العِفج: وهو ما يصير الطعام إليه بعد المعدة. الصحاح، ج١، ص3٢٩.
الحديث: ٤
/
ترتيب جواهر البحار: ٢٤٧٥
خطب الحسن (عليه السلام) بعد وفاة أبيه (عليه السلام) فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أما والله، ما ثنّانا عن قتال أهل الشام ذلّة ولا قلّة، ولكن كنّا نقاتلهم بالسلامة والصبر، فشيب السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم تتوجّهون معنا ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم، وكنّا لكم وكنتم لنا، وقد صرتم اليوم علينا.
ثمّ أصبحتم تصدّون قتيلين: قتيلاً بصفّين تبكون عليهم، وقتيلاً بالنهروان تطلبون بثأرهم، فأمّا الباكي فخاذل، وأمّا الطالب فثائر. وإنّ معاوية قد دعا إلى أمر ليس فيه عزّ ولا نصفة، فإن أردتم الحياة قبلناه منه وأغضضنا على القذى، وإن أردتم الموت بذلناه في ذات الله، وحاكمناه إلى الله فنادى القوم بأجمعهم: بل البقيّة والحياة.
المصدر الأصلي: أعلام الدين
/
المصدر من بحار الأنوار: ج٤٤
، ص٢١-٢٢
الحديث: ٥
/
ترتيب جواهر البحار: ٢٤٧٦
قام الحسن (عليه السلام) على المنبر حين اجتمع مع معاوية، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أيّها الناس، إنّ معاوية زعم أنّي رأيته للخلافة أهلاً، ولم أر نفسي لها أهلاً، وكذب معاوية.
أنا أولى الناس بالناس في كتاب الله، وعلى لسان نبيّ الله، فأقسم بالله، لو أنّ الناس بايعوني وأطاعوني ونصروني لأعطتهم السماء قطرها والأرض بركتها، ولما طمعت فيها يا معاوية، قد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما ولّت أمّة أمرها رجلاً قطّ وفيهم من هو أعلم منه إلّا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً، حتّى يرجعوا إلى ملّة عبدة العجل، وقد ترك بنو إسرائيل هارون، واعتكفوا على العجل، وهم يعلمون أنّ هارون خليفة موسى. وقد تركت الأمّة عليّاً (عليه السلام) وقد سمعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول لعليّ (عليه السلام): «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير النبوّة، فلا نبيّ بعدي». وقد هرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قومه وهو يدعوهم إلى الله حتّى فرّ إلى الغار، ولو وجد عليهم أعواناً ما هرب منهم.
ولو وجدت أنا أعواناً ما بايعتك يا معاوية، وقد جعل الله هارون في سعة حين استضعفوه وكادوا يقتلونه، ولم يجد عليهم أعواناً، وقد جعل الله النبيّ (صلى الله عليه وآله) في سعة حين فرّ من قومه، لمّا لم يجد أعواناً عليهم، وكذلك أنا وأبي في سعة من الله، حين تركتنا الأمّة وبايعت غيرنا، ولم نجد أعواناً، وإنّما هي السنن والأمثال يتّبع بعضها بعضاً.
أيّها الناس، إنّكم لو التمستم فيما بين المشرق والمغرب لم تجدوا رجلاً من ولد نبيّ غيري وغير أخي.
المصدر الأصلي: الاحتجاج، العدد القویّة
/
المصدر من بحار الأنوار: ج٤٤
، ص٢٢-٢٣
الحديث: ٦
/
ترتيب جواهر البحار: ٢٤٧٧
قال الباقر (عليه السلام): جاء رجل من أصحاب الحسن (عليه السلام) يقال له سفيان بن ليلى وهو على راحلة له، فدخل على الحسن (عليه السلام) وهو محتب ١ في فناء داره، فقال له: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين، فقال له الحسن (عليه السلام): انزل ولا تعجل، فنزل فعقل راحلته في الدار، وأقبل يمشي حتّى انتهى إليه، فقال له الحسن (عليه السلام): ما قلت؟ قال: قلت: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين، قال (عليه السلام): وما علمك بذلك؟ قال: عمدت إلى أمر الأمّة فخلعته من عنقك، وقلّدته هذا الطاغية، يحكم بغير ما أنزل الله.
فقال له الحسن (عليه السلام): سأخبرك لم فعلت ذلك؟ قال (عليه السلام): سمعت أبي (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لن تذهب الأيّام والليالي حتّى يلي أمر هذه الأمّة رجل واسع البلعوم، رحب الصدر، يأكل ولا يشبع، وهو معاوية، فلذلك فعلت. ما جاء بك؟ قال: حبّك، قال (عليه السلام): الله؟ قال: الله، فقال الحسن (عليه السلام): والله، لا يحبّنا عبد أبداً _ ولو كان أسيراً في الديلم _ إلّا نفعه حبّنا، وإنّ حبّنا ليساقط الذنوب من بني آدم، كما يساقط الريح الورق من الشجر.
المصدر الأصلي: معرفة الرجال
/
المصدر من بحار الأنوار: ج٤٤
، ص٢٣-٢٤
(١) «احْتَبَى الرجلُ»: إذا جمع ظهره وساقيه بعمامته. لسان العرب، ج١٤، ص١٦١.
تذییل: قال السيّد المرتضى (رحمة الله عليه) في كتاب تنزيه الأنبياء: فإن قال قائل: ما العذر للحسن (عليه السلام) في خلع نفسه من الإمامة، وتسليمها إلى معاوية مع ظهور فجوره وبعده عن أسباب الإمامة، وتعرّيه من صفات مستحقّها، ثمّ في بيعته وأخذ عطائه وصلاته وإظهار موالاته والقول بإمامته، هذا مع توفّر أنصاره واجتماع أصحابه ومبايعة من كان يبذل عنه دمه وماله، حتّى سمّوه مذلّ المؤمنين وعابوه في وجهه؟
الجواب: قلنا: قد ثبت أنّه (عليه السلام) الإمام المعصوم المؤيّد الموفّق بالحجج الظاهرة، والأدلّة القاهرة، فلا بدّ من التسليم لجميع أفعاله، وحملها على الصحّة وإن كان فيها ما لا يعرف وجهه على التفصيل، أو كان له ظاهر ربما نفرت النفس عنه، وقد مضى تلخيص هذه الجملة وتقريرها في مواضع من كتابنا هذا.
وبعد، فإنّ الذي جرى منه (عليه السلام) كان السبب فيه ظاهراً، والحامل عليه بيّناً جليّاً، لأنّ المجتمعين له من الأصحاب وإن كانوا كثيري العدد، فقد كانت قلوب أكثرهم نغلة غير صافية، وقد كانوا صبوا إلى دنيا معاوية، من غير مراقبة ولا مساترة، فأظهروا له (عليه السلام) النصرة، وحملوه على المحاربة والاستعداد لها طمعاً في أن يورّطوه ويسلّموه، فأحسّ بهذا منهم قبل التولّج والتلبّس، فتخلّى من الأمر، وتحرّز من المكيدة التي كادت تتمّ عليه في سعة من الوقت.
وقد صرّح بهذه الجملة وبكثير من تفصيلها في مواقف كثيرة وبألفاظ مختلفة، وقال (عليه السلام): إنّما هادنت حقناً للدماء، وضنّاً بها، وإشفاقاً على نفسي وأهلي، والمخلصين من أصحابي؛ فكيف لا يخاف أصحابه ويتّهمهم على نفسه وأهله؟ وهو (عليه السلام) لما كتب إلى معاوية، يعلمه أنّ الناس قد بايعوه بعد أبيه (عليه السلام) ويدعوه إلى طاعته، فأجابه معاوية بالجواب المعروف، المتضمّن للمغالطة منه والموارية، وقال له فيه: لو كنت أعلم أنّك أقوم بالأمر، وأضبط للناس، وأكيد للعدوّ، وأقوى على جميع الأمور منّي لبايعتك، لأنّني أراك لكلّ خير أهلاً؛ وقال في كتابه: إنّ أمري وأمرك شبيه بأمر أبي بكر وأمركم بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فدعاه ذلك إلى أن خطب أصحابه بالكوفة يحضّهم على الجهاد ويعرّفهم فضله وما في الصبر عليه من الأجر، وأمرهم أن يخرجوا إلى معسكرهم، فما أجابه أحد، فقال لهم عديّ بن حاتم: سبحان الله، أ لا تجيبون إمامكم؟ أين خطباء المصر؟ فقام قيس بن سعد وفلان وفلان، فبذلوا الجهاد وأحسنوا القول، ونحن نعلم أن من يضنّ بكلامه أولى أن يضنّ بفعاله، أ وليس أحدهم جلس له في مظلم ساباط، وطعنه بمغول كان معه أصاب فخذه وشقّه حتّى وصل إلى العظم، وانتزع من يده؟ وحمل إلى المدائن، وعليها سعد بن مسعود عمّ المختار، وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) ولّاه إيّاها فأدخل منزله، فأشار المختار على عمّه أن يوثّقه ويسير به إلى معاوية، على أن يطعمه خراج جوحى سنة، فأبى عليه، وقال للمختار: قبّح الله رأيك، أنا عامل أبيه، وقد ائتمنني وشرّفني، وهبّني بلاء أبيه، أ أنسى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا أحفظه في ابن ابنته وحبيبته.
ثمّ إنّ سعد بن مسعود أتاه (عليه السلام) بطبيب، وقام عليه حتّى برأ وحوّله إلى بيض المدائن، فمن الذي يرجو السلامة بالمقام بين أظهر هؤلاء القوم، فضلاً على النصرة والمعونة؟ وقد أجاب (عليه السلام) حجر بن عديّ الكندي لمّا قال له: سوّدت وجوه المؤمنين، فقال (عليه السلام): ما كلّ أحد يحبّ ما تحبّ ولا رأيه كرأيك، وإنّما فعلت ما فعلت إبقاء عليكم.
وروى عبّاس بن هشام، عن أبيه، عن أبي مخنف، عن أبي الكنود عبد الرحمن بن عبيد قال: لمّا بايع الحسن (عليه السلام) معاوية، أقبلت الشيعة تتلاقى بإظهار الأسف والحسرة على ترك القتال، فخرجوا إليه بعد سنتين من يوم بايع معاوية، فقال له سليمان بن صرد الخزاعي: ما ينقضي تعجّبنا من بيعتك معاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة، كلّهم يأخذ العطاء، وهم على أبواب منازلهم، ومعهم مثلهم من أبنائهم وأتباعهم، سوى شيعتك من أهل البصرة والحجاز، ثمّ لم تأخذ لنفسك ثقة في العقد، ولا حظّ من العطيّة.
فلو كنت إذ فعلت ما فعلت، أشهدت على معاوية وجوه أهل المشرق والمغرب، وكتبت عليه كتاباً بأنّ الأمر لك بعده، كان الأمر علينا أيسر، ولكنّه أعطاك شيئاً بينك وبينه لم يف به، ثمّ لم يلبث أن قال على رؤوس الأشهاد: إنّي كنت شرطت شروطاً، ووعدت عداة إرادة لإطفاء نار الحرب، ومداراة لقطع الفتنة، فلمّا أن جمع الله لنا الكلم والألفة، فانّ ذلك تحت قدميّ.
والله، ما عنى بذلك غيرك، وما أراد إلّا ما كان بينك وبينه، وقد نقض؛ فإذا شئت فأعد، الحرب خدعة، وائذن لي في تقدّمك إلى الكوفة، فأخرج عنها عامله وأظهر خلعه، وتنبذ إليه على سواء: ﴿إِنَّ اللّهََ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾، وتكلّم الباقون بمثل كلام سليمان.
فقال الحسن (عليه السلام): أنتم شيعتنا وأهل مودّتنا، فلو كنت بالحزم في أمر الدنيا أعمل ولسلطانها أركض وأنصب، ما كان معاوية بأبأس منّي بأساً، ولا أشدّ شكيمة، ولا أمضى عزيمة، ولكنّي أرى غير ما رأيتم، وما أردت بما فعلت إلّا حقن الدماء فارضوا بقضاء الله، وسلّموا لأمره، والزموا بيوتكم وأمسكوا. أو قال: كفّوا أيديكم حتّى يستريح برّ أو يستراح من فاجر.
وهذا كلام منه (عليه السلام) يشفي الصدور، ويذهب بكلّ شبهة في هذا الباب.
وقد روي أنّه (عليه السلام) لما طالبه معاوية بأن يتكلّم على الناس، ويعلمهم ما عنده في هذا الباب، قام فحمد الله تعالی وأثنى عليه، ثمّ قال: إنّ أكيس الكيس التقى، وأحمق الحمق الفجور، أيّها الناس، إنّكم لو طلبتم بين جابلق وجابرس رجلاً جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما وجدتموه غيري وغير أخي الحسين (عليه السلام)، وإنّ الله قد هداكم بأولياء محمّد (صلى الله عليه وآله)، وإنّ معاوية نازعني حقّاً هو لي، فتركته لصلاح الأمّة وحقن دمائها، وقد بايعتموني على أن تسالموا من سالمت، فقد رأيت أن أسالمه، ورأيت أنّ ما حقن الدماء خير ممّا سفكها، وأردت صلاحكم، وأن يكون ما صنعت حجّة على من كان يتمنّى هذا الأمر، ﴿وَإِن أَدرِي لَعَلَّهُ فِتنَةٌ لَّكُم وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾.
وكلامه (عليه السلام) في هذا الباب الذي يصرّح في جميعه بأنّه مغلوب مقهور ملجأ إلى التسليم، ودافع بالمسالمة الضرر العظيم عن الدين والمسلمين، أشهر من الشمس وأجلى من الصبح.
فأمّا قول السائل: إنّه خلع نفسه من الإمامة، فمعاذ الله، لأنّ الإمامة بعد حصولها للإمام لا يخرج عنه بقوله، وعند أكثر مخالفينا أيضاً في الإمامة أنّ خلع الإمام نفسه لا يؤثّر في خروجه من الإمامة، وإنّما ينخلع من الإمامة عندهم بالأحداث والكبائر، ولو كان خلعه في نفسه مؤثّراً لكان إنّما يؤثر إذا وقع اختياراً، فأمّا مع الإلجاء والإكراه فلا تأثير له ...
فأمّا البيعة: فإن أريد بها الصفقة وإظهار الرضا والكفّ عن المنازعة فقد كان ذلك، لكنّا قد بيّنا جهة وقوعه، والأسباب المحوجة إليه ولا حجّة في ذلك عليه، كما لم يكن في مثله حجّة على أبيه (عليه السلام) بايع المتقدّمين عليه، وكفّ عن نزاعهم، وأمسك عن غلابهم.
وإن أريد بالبيعة الرضا وطيب النفس، فالحال شاهد بخلاف ذلك، وكلامه المشهور كلّه يدلّ على أنّه أحوج وأحرج، وأنّ الأمر له وهو أحقّ الناس به، وإنّما كفّ عن المنازعة فيه للغلبة والقهر والخوف على الدين والمسلمين.
فأمّا أخذ العطاء، فقد بيّنّا في هذا الكتاب عند الكلام فيما فعله أمير المؤمنين (عليه السلام) من ذلك، أن أخذه من يد الجابر الظالم المتغلّب جائز، وأنّه لا لوم فيه على الأخذ ولا حرج.
وأمّا أخذ الصلات فسائغ بل واجب، لأنّ كلّ مال في يد الغالب الجابر المتغلّب على أمر الأمّة، يجب على الإمام وعلى جميع المسلمين انتزاعه من يده كيف ما أمكن _ بالطوع أو الإكراه _ ووضعه في مواضعه، فإذا لم يتمكّن (عليه السلام) من انتزاع جميع ما في يد معاوية من أموال الله تعالی وأخرج هو شيئاً منها إليه على سبيل الصلة، فواجب عليه أن يتناوله من يده، ويأخذ منه حقّه ويقسّمه على مستحقّه، لأنّ التصرّف في ذلك المال بحقّ الولاية عليه لم يكن في تلك الحال إلّا له ... وقد كان يتصدّق بكثير من أمواله ويواسي الفقراء، ويصل المحتاجين، ولعلّ في جملة ذلك هذه الحقوق.
فأمّا إظهار موالاته، فما أظهر (عليه السلام) من ذلك شيئاً كما لم يبطنه، وكلامه (عليه السلام) فيه بمشهد معاوية ومغيبه معروف ظاهر، ولو فعل ذلك خوفاً واستصلاحاً وتلافياً للشرّ العظيم، لكان واجباً، فقد فعل أبوه (عليه السلام) مثله مع المتقدّمين عليه.
وأعجب من هذا كلّه دعوى القول بإمامته، ومعلوم ضرورة منه (عليه السلام) خلاف ذلك، فإنّه كان يعتقد ويصرّح بأنّ معاوية لا يصلح أن يكون بعض ولاة الإمام وأتباعه، فضلاً عن الإمامة نفسها، وليس يظنّ مثل هذه الأمور إلّا عامي حشوي قد قعد به التقليد، وما سبق إلى اعتقاده من تصويب القوم كلّهم عن التأمّل وسماع الأخبار المأثورة في هذا الباب، فهو لا يسمع إلّا ما يوافقه، وإذا سمع لم يصدّق إلّا بما أعجبه، والله المستعان؛ انتهى كلامه رفع الله مقامه.
أقول: بعد ما أسّسناه في كتاب الإمامة بالدلائل العقلية والنقلية أنّهم (عليهم السلام) لا يفعلون شيئاً إلّا بما وصل إليهم من الله تعالی، وبعد ما قرع سمعك في تلك الأبواب من الأخبار الدالّة على وجه الحكمة في خصوص ما فعله (عليه السلام)، لا أظنّك تحتاج إلى بسط القول في ذلك ﴿وَاللَّهُ يَهدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّستَقِيمٍ﴾. (ص٢٦-٣٢)
تذییل: قال السيّد المرتضى (رحمة الله عليه) في كتاب تنزيه الأنبياء: فإن قال قائل: ما العذر للحسن (عليه السلام) في خلع نفسه من الإمامة، وتسليمها إلى معاوية مع ظهور فجوره وبعده عن أسباب الإمامة، وتعرّيه من صفات مستحقّها، ثمّ في بيعته وأخذ عطائه وصلاته وإظهار موالاته والقول بإمامته، هذا مع توفّر أنصاره واجتماع أصحابه ومبايعة من كان يبذل عنه دمه وماله، حتّى سمّوه مذلّ المؤمنين وعابوه في وجهه؟
الجواب: قلنا: قد ثبت أنّه (عليه السلام) الإمام المعصوم المؤيّد الموفّق بالحجج الظاهرة، والأدلّة القاهرة، فلا بدّ من التسليم لجميع أفعاله، وحملها على الصحّة وإن كان فيها ما لا يعرف وجهه على التفصيل، أو كان له ظاهر ربما نفرت النفس عنه، وقد مضى تلخيص هذه الجملة وتقريرها في مواضع من كتابنا هذا.
وبعد، فإنّ الذي جرى منه (عليه السلام) كان السبب فيه ظاهراً، والحامل عليه بيّناً جليّاً، لأنّ المجتمعين له من الأصحاب وإن كانوا كثيري العدد، فقد كانت قلوب أكثرهم نغلة غير صافية، وقد كانوا صبوا إلى دنيا معاوية، من غير مراقبة ولا مساترة، فأظهروا له (عليه السلام) النصرة، وحملوه على المحاربة والاستعداد لها طمعاً في أن يورّطوه ويسلّموه، فأحسّ بهذا منهم قبل التولّج والتلبّس، فتخلّى من الأمر، وتحرّز من المكيدة التي كادت تتمّ عليه في سعة من الوقت.
وقد صرّح بهذه الجملة وبكثير من تفصيلها في مواقف كثيرة وبألفاظ مختلفة، وقال (عليه السلام): إنّما هادنت حقناً للدماء، وضنّاً بها، وإشفاقاً على نفسي وأهلي، والمخلصين من أصحابي؛ فكيف لا يخاف أصحابه ويتّهمهم على نفسه وأهله؟ وهو (عليه السلام) لما كتب إلى معاوية، يعلمه أنّ الناس قد بايعوه بعد أبيه (عليه السلام) ويدعوه إلى طاعته، فأجابه معاوية بالجواب المعروف، المتضمّن للمغالطة منه والموارية، وقال له فيه: لو كنت أعلم أنّك أقوم بالأمر، وأضبط للناس، وأكيد للعدوّ، وأقوى على جميع الأمور منّي لبايعتك، لأنّني أراك لكلّ خير أهلاً؛ وقال في كتابه: إنّ أمري وأمرك شبيه بأمر أبي بكر وأمركم بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فدعاه ذلك إلى أن خطب أصحابه بالكوفة يحضّهم على الجهاد ويعرّفهم فضله وما في الصبر عليه من الأجر، وأمرهم أن يخرجوا إلى معسكرهم، فما أجابه أحد، فقال لهم عديّ بن حاتم: سبحان الله، أ لا تجيبون إمامكم؟ أين خطباء المصر؟ فقام قيس بن سعد وفلان وفلان، فبذلوا الجهاد وأحسنوا القول، ونحن نعلم أن من يضنّ بكلامه أولى أن يضنّ بفعاله، أ وليس أحدهم جلس له في مظلم ساباط، وطعنه بمغول كان معه أصاب فخذه وشقّه حتّى وصل إلى العظم، وانتزع من يده؟ وحمل إلى المدائن، وعليها سعد بن مسعود عمّ المختار، وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) ولّاه إيّاها فأدخل منزله، فأشار المختار على عمّه أن يوثّقه ويسير به إلى معاوية، على أن يطعمه خراج جوحى سنة، فأبى عليه، وقال للمختار: قبّح الله رأيك، أنا عامل أبيه، وقد ائتمنني وشرّفني، وهبّني بلاء أبيه، أ أنسى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا أحفظه في ابن ابنته وحبيبته.
ثمّ إنّ سعد بن مسعود أتاه (عليه السلام) بطبيب، وقام عليه حتّى برأ وحوّله إلى بيض المدائن، فمن الذي يرجو السلامة بالمقام بين أظهر هؤلاء القوم، فضلاً على النصرة والمعونة؟ وقد أجاب (عليه السلام) حجر بن عديّ الكندي لمّا قال له: سوّدت وجوه المؤمنين، فقال (عليه السلام): ما كلّ أحد يحبّ ما تحبّ ولا رأيه كرأيك، وإنّما فعلت ما فعلت إبقاء عليكم.
وروى عبّاس بن هشام، عن أبيه، عن أبي مخنف، عن أبي الكنود عبد الرحمن بن عبيد قال: لمّا بايع الحسن (عليه السلام) معاوية، أقبلت الشيعة تتلاقى بإظهار الأسف والحسرة على ترك القتال، فخرجوا إليه بعد سنتين من يوم بايع معاوية، فقال له سليمان بن صرد الخزاعي: ما ينقضي تعجّبنا من بيعتك معاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة، كلّهم يأخذ العطاء، وهم على أبواب منازلهم، ومعهم مثلهم من أبنائهم وأتباعهم، سوى شيعتك من أهل البصرة والحجاز، ثمّ لم تأخذ لنفسك ثقة في العقد، ولا حظّ من العطيّة.
فلو كنت إذ فعلت ما فعلت، أشهدت على معاوية وجوه أهل المشرق والمغرب، وكتبت عليه كتاباً بأنّ الأمر لك بعده، كان الأمر علينا أيسر، ولكنّه أعطاك شيئاً بينك وبينه لم يف به، ثمّ لم يلبث أن قال على رؤوس الأشهاد: إنّي كنت شرطت شروطاً، ووعدت عداة إرادة لإطفاء نار الحرب، ومداراة لقطع الفتنة، فلمّا أن جمع الله لنا الكلم والألفة، فانّ ذلك تحت قدميّ.
والله، ما عنى بذلك غيرك، وما أراد إلّا ما كان بينك وبينه، وقد نقض؛ فإذا شئت فأعد، الحرب خدعة، وائذن لي في تقدّمك إلى الكوفة، فأخرج عنها عامله وأظهر خلعه، وتنبذ إليه على سواء: ﴿إِنَّ اللّهََ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾، وتكلّم الباقون بمثل كلام سليمان.
فقال الحسن (عليه السلام): أنتم شيعتنا وأهل مودّتنا، فلو كنت بالحزم في أمر الدنيا أعمل ولسلطانها أركض وأنصب، ما كان معاوية بأبأس منّي بأساً، ولا أشدّ شكيمة، ولا أمضى عزيمة، ولكنّي أرى غير ما رأيتم، وما أردت بما فعلت إلّا حقن الدماء فارضوا بقضاء الله، وسلّموا لأمره، والزموا بيوتكم وأمسكوا. أو قال: كفّوا أيديكم حتّى يستريح برّ أو يستراح من فاجر.
وهذا كلام منه (عليه السلام) يشفي الصدور، ويذهب بكلّ شبهة في هذا الباب.
وقد روي أنّه (عليه السلام) لما طالبه معاوية بأن يتكلّم على الناس، ويعلمهم ما عنده في هذا الباب، قام فحمد الله تعالی وأثنى عليه، ثمّ قال: إنّ أكيس الكيس التقى، وأحمق الحمق الفجور، أيّها الناس، إنّكم لو طلبتم بين جابلق وجابرس رجلاً جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما وجدتموه غيري وغير أخي الحسين (عليه السلام)، وإنّ الله قد هداكم بأولياء محمّد (صلى الله عليه وآله)، وإنّ معاوية نازعني حقّاً هو لي، فتركته لصلاح الأمّة وحقن دمائها، وقد بايعتموني على أن تسالموا من سالمت، فقد رأيت أن أسالمه، ورأيت أنّ ما حقن الدماء خير ممّا سفكها، وأردت صلاحكم، وأن يكون ما صنعت حجّة على من كان يتمنّى هذا الأمر، ﴿وَإِن أَدرِي لَعَلَّهُ فِتنَةٌ لَّكُم وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾.
وكلامه (عليه السلام) في هذا الباب الذي يصرّح في جميعه بأنّه مغلوب مقهور ملجأ إلى التسليم، ودافع بالمسالمة الضرر العظيم عن الدين والمسلمين، أشهر من الشمس وأجلى من الصبح.
فأمّا قول السائل: إنّه خلع نفسه من الإمامة، فمعاذ الله، لأنّ الإمامة بعد حصولها للإمام لا يخرج عنه بقوله، وعند أكثر مخالفينا أيضاً في الإمامة أنّ خلع الإمام نفسه لا يؤثّر في خروجه من الإمامة، وإنّما ينخلع من الإمامة عندهم بالأحداث والكبائر، ولو كان خلعه في نفسه مؤثّراً لكان إنّما يؤثر إذا وقع اختياراً، فأمّا مع الإلجاء والإكراه فلا تأثير له ...
فأمّا البيعة: فإن أريد بها الصفقة وإظهار الرضا والكفّ عن المنازعة فقد كان ذلك، لكنّا قد بيّنا جهة وقوعه، والأسباب المحوجة إليه ولا حجّة في ذلك عليه، كما لم يكن في مثله حجّة على أبيه (عليه السلام) بايع المتقدّمين عليه، وكفّ عن نزاعهم، وأمسك عن غلابهم.
وإن أريد بالبيعة الرضا وطيب النفس، فالحال شاهد بخلاف ذلك، وكلامه المشهور كلّه يدلّ على أنّه أحوج وأحرج، وأنّ الأمر له وهو أحقّ الناس به، وإنّما كفّ عن المنازعة فيه للغلبة والقهر والخوف على الدين والمسلمين.
فأمّا أخذ العطاء، فقد بيّنّا في هذا الكتاب عند الكلام فيما فعله أمير المؤمنين (عليه السلام) من ذلك، أن أخذه من يد الجابر الظالم المتغلّب جائز، وأنّه لا لوم فيه على الأخذ ولا حرج.
وأمّا أخذ الصلات فسائغ بل واجب، لأنّ كلّ مال في يد الغالب الجابر المتغلّب على أمر الأمّة، يجب على الإمام وعلى جميع المسلمين انتزاعه من يده كيف ما أمكن _ بالطوع أو الإكراه _ ووضعه في مواضعه، فإذا لم يتمكّن (عليه السلام) من انتزاع جميع ما في يد معاوية من أموال الله تعالی وأخرج هو شيئاً منها إليه على سبيل الصلة، فواجب عليه أن يتناوله من يده، ويأخذ منه حقّه ويقسّمه على مستحقّه، لأنّ التصرّف في ذلك المال بحقّ الولاية عليه لم يكن في تلك الحال إلّا له ... وقد كان يتصدّق بكثير من أمواله ويواسي الفقراء، ويصل المحتاجين، ولعلّ في جملة ذلك هذه الحقوق.
فأمّا إظهار موالاته، فما أظهر (عليه السلام) من ذلك شيئاً كما لم يبطنه، وكلامه (عليه السلام) فيه بمشهد معاوية ومغيبه معروف ظاهر، ولو فعل ذلك خوفاً واستصلاحاً وتلافياً للشرّ العظيم، لكان واجباً، فقد فعل أبوه (عليه السلام) مثله مع المتقدّمين عليه.
وأعجب من هذا كلّه دعوى القول بإمامته، ومعلوم ضرورة منه (عليه السلام) خلاف ذلك، فإنّه كان يعتقد ويصرّح بأنّ معاوية لا يصلح أن يكون بعض ولاة الإمام وأتباعه، فضلاً عن الإمامة نفسها، وليس يظنّ مثل هذه الأمور إلّا عامي حشوي قد قعد به التقليد، وما سبق إلى اعتقاده من تصويب القوم كلّهم عن التأمّل وسماع الأخبار المأثورة في هذا الباب، فهو لا يسمع إلّا ما يوافقه، وإذا سمع لم يصدّق إلّا بما أعجبه، والله المستعان؛ انتهى كلامه رفع الله مقامه.
أقول: بعد ما أسّسناه في كتاب الإمامة بالدلائل العقلية والنقلية أنّهم (عليهم السلام) لا يفعلون شيئاً إلّا بما وصل إليهم من الله تعالی، وبعد ما قرع سمعك في تلك الأبواب من الأخبار الدالّة على وجه الحكمة في خصوص ما فعله (عليه السلام)، لا أظنّك تحتاج إلى بسط القول في ذلك ﴿وَاللَّهُ يَهدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّستَقِيمٍ﴾. (ص٢٦-٣٢)