- ThePlus Audio
المجالس الحسينية؛ هل نحييها أم تحيينا؟
بسم الله الرحمن الرحيم
المرتقبون للدولة الكريمة
إن الشعار المرفوع لشهر محرم الحرام في هذه السنة[١]؛ هو شعار يرتبط بإمام زماننا (عج): (المرتقب لدولتكم). إننا نتمنى كما نتمى كل عام؛ أن يكون عامنا هذا عام النصر والفرج، وألا يطول بنا المقام ونحن بانتظار هذه الدولة الشريفة. فقد ورود في الروايات الشريفة أن الله سبحانه يُصلح أمره في ليلة.
لكل عمل ظاهر وباطن
من الأمور التي يهتم بها المؤمنون في شهر محرم الحرام؛ إحياء مجالس أهل البيت (ع). إن لكل عمل ظاهر وباطن؛ فالحج له ظاهر وهي المناسك التي نجدها في الرسالة العملية، وله باطن وهي أسرار الحج. وكذلك للصلاة ظاهر يبدأ من تكبيرة الإحرام وينتهي بالتسليم، وقد وردت جميع تفاصيلها من شرائطها وشكوكها ومبطلاتها في الرسالة العملية، ولكن بالإضافة إلى الظهار لها باطن وملكوت لو لم يقف الإنسان عليها لما استطاع أن يصل إلى الصلاة الخاشعة المرجوة.
وحتى الخمس الذي يدفعه أحدنا للمرجع أو لوكيله هي في الظاهر عملية مالية حيث نُخرج مبلغا من المال ونناوله الوكيل، ولكن لهذه العملية ملكوت عبر عنها القرآن الكريم في قوله: (وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إلىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ)[٢]. إن المؤمن يعيش حالة الخوف عند إيتائه الخمس أو الزكاة، وعلة هذا الخوف قد ورد في الآية نفسها، وهي: (أَنَّهُمۡ إلىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ)؛ فيسألهم: من أين اكتسبتم هذه الأموال؟ هل دفعتم كل ما يجب عليكم؟ وما شابه ذلك من الأسئلة التي تثير مخاوفهم. ولا تستثنى مجالس الحسين (ع) من هذه القاعدة. إن الحضور في مجالس الحسين (ع) واللطم والنعي والإحياء كلها أمور ظاهرية لابد أن نقف على باطنها.
إحياء مجالس الحسين (عليه السلام) بطريقة الشيخ الوائلي (رحمه الله)
من الأمور المميزة في شهر محرم الحرام هو الحديث عن القرآن الكريم وعن تفسيره وعن العترة التي لا تفترق عن القرآن الكريم. وهذا ما تميز به عميد المنبر الحسيني الخطيب البارع الشيخ الوائلي رحمه الله. كان يبدأ الحديث بآية من كتاب الله عز وجل، ثم يشبعها بحثا وتحقيقا ويذكر آل البيت (ع) وفي نهاية الحديث يوصل العِبرة بالعَبرة. وحقيق بمحاضراته أن تكون محاضرات جامعية، فهي تمتاز بكل مقومات المحاضرة الجامعية.
من أعظم شعائر الله في الأرض
من الأمور المشتركة بين الحج والعمرة، السعي بين الصفا والمروة. عندما يسعى المؤمن بين الصفا والمروة، يقرأ قوله تعالى: (إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِۖ فَمَنۡ حَجَّ ٱلۡبَيۡتَ أَوِ ٱعۡتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَاۚ)[٣]. ولا جناح تعني لا إثم عليه عادة ولكن لماذا يعبر الله سبحانه عن السعي بين الصفا والمروة بهذا التعبير؟ قد كانت في الجاهلية أصنام توضع على هذين الجبلين فكان يتحرج البعض من المؤمنين من السعي بينهما والأصنام منصوبة، فنزل قوله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا). إن هذا الجبل يدل على الله؛ بل إن البُدن وهو الحيوان الذي يساق إلى الذبح في منى من الشعائر لقوله سبحانه: (وَٱلۡبُدۡنَ جَعَلۡنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَـٰٓئِرِ ٱللَّهِ لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرࣱ)[٤]؛ فكيف بحجة الله في الأرض الحسين (ع)؟ هل هو أقل من الصفا والمروة وهما حجران؟
يجتمع المؤمنون في هذا الشهر ليحيوا مجالس الحسين (ع)، ولكن ينبغي أن يسأل كل واحد منهم نفسه: من هو الحسين (ع)؟ إن الحسين (ع) هو نور من أنوار أهل البيت (ع) التي ورد وصفها في الزيارة الجامعة الكبيرة: (خَلَقَكُمُ اَللَّهُ أَنْوَاراً فَجَعَلَكُمْ بِعَرْشِهِ مُحْدِقِينَ حَتَّى مَنَّ عَلَيْنَا بِكُمْ فَجَعَلَكُمْ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اَللّٰهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ)[٥].
الحسين (عليه السلام) في السماء أكبر منه في الأرض
كان الحسين (ع) يسبح ربه قبل خلق العالم كما روي عن جده (ص): (كُنْتُ نَبِيّاً وَآدَمُ بَيْنَ اَلْمَاءِ وَاَلطِّينِ)[٦]، وكذلك كانت أمه الزهراء (س) تزهر لأهل السماوات قبل أن تُخلق. وكما ورد في الروايات الشريفة: (إِنَّهُ لَمَكْتُوبٌ عَنْ يَمِينِ عَرْشِ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِصْبَاحُ هُدًى وَسَفِينَةُ نَجَاةٍ)[٧]. هل كُتبت هذه العبارة حديثا أم أنها مكتوبة منذ خلق العرش؟ إن الحسين (ع) شخصية معروفة عند الله وعند ملائكته: (إِنَّ اَلْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ فِي اَلسَّمَاءِ أَكْبَرُ مِنْهُ فِي اَلْأَرْضِ)[٨]، ومع ذلك يصل الأمر به أن يبحث عن الماء فلا يجده. عندما كتب الإمام زين العابدين (ع) اسم والده على القبر؛ أكج على هذه الصفة: هذا قبر الحسين الذي قتلوه عطشاناً. ولذلك قال الشاعر:
أيقتل ظمآناً حسين بكربلاء
وفي كل عضو من أنامله بحر
ووالده الساقي على الحوض في غد
وفاطمة ماء الفرات لها مهر
ولم يُحرم هو وولده علي الأكبر من الماء فحسب؛ بل قد حُرم من هذا الماء الذي هو مهر والدته رضيعه فقضى ظاميا. وقد عز على رب العالمين أن يرى وليه هكذا بين يدي الأعداء، فلا تستغرب إن سمعت أن الحور بكته في الجنان. إنها حادثة هزت أركان الوجود، ولم تنته هذه الحادثة بعد.
لماذا نبكي الحسين (عليه السلام) بعد هذه السنين الطوال؟
يأتي أحدهم من بلاد بعيدة لا يعرف عن الإسلام شيئا، فيتسائل متعجبا: أ يُعقل أن تبكوا رجلا قُتل قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة؟ إنه لا يعلم أنه حجة الله التي هتكت حرمته، ولا زالت هذه الحرمة منتهكة حيث لم يُنتقم له بعد. لماذا تقرأ في زيارة عاشوراء: (فَأَسْأَلُ اَللَّهَ اَلَّذِي أَكْرَمَ مَقَامَكَ وَأَكْرَمَنِي بِكَ أَنْ يَرْزُقَنِي طَلَبَ ثَارِكَ مَعَ إِمَامٍ مَنْصُورٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)[٩]. لا زال هذا الدم يفور ويطلب من يأخذ له بثأره. لو قُتل لك ولد في أعلى درجات التميز قبل عشرين أو ثلاثين سنة، هل ستنساه؟ هل ستنسى الأم المفجوعة ولدها؟ أبداً.
والد الأمة
إن الحسين (ع) هو والد هذه الأمة وإن كان والدنا اليوم هو صاحب العصر (عج)؛ ولكن لا يعني ذلك أن النبي (ص) وأمير المؤمنين (ع) والحسين (ع) ليسوا آباء هذه الأمة. إن هذا المقام محفوظ لهم. إننا لا نبكي إنساناً مات وانتهى أمره؛ بل نبكي من يمثل حجة الله في الأرض. إن قوم صالح عصوا ربهم وكفروا به وعاندوا نبيهم ولكن لم ينزل العذاب عليهم إلا بعد أن اتهكوا حرمة الله في قتل الناقة. ناقة إعجازية خرجت من الجبل كان لها شرب يوم معلوم وتدر عليهم اللبن، فجاء أشقى الأولين فعقرها: (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمۡدَمَ عَلَيۡهِمۡ رَبُّهُم بِذَنۢبِهِمۡ فَسَوَّىٰهَا)[١٠]. كل النوق في الأرض هي مخلوقات الله عز وجل؛ ولكن الله سبحانه وصف هذه الناقة خاصة بناقة الله، لأن الله أخرجها بطريقة إعجازية من الجبل. وكما قال الشاعر في وصف الزهراء (س):
ما كان ناقة صالح وفصيلها
بالفضل عندالله إلاّ دوني
ويعني ذلك أن الأمر إذا انتسب إلى الله عز وجل اختلف الحال. إن الحسين (ع) يمثل هذا الانتساب الخاص. إن المهد الذي وضع فيه موسى (ع) هو مهد قد صُنع من الخشب ولكن تحول هذا المهد إلى مصدر سكينة، وهو الذي عبر عنه القرآن بالتابوت: (وَقَالَ لَهُمۡ نَبِيُّهُمۡ إِنَّ ءَايَةَ مُلۡكِهِۦٓ أَن يَأۡتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةࣱ مِّن رَّبِّكُمۡ)[١١]. إن هذه الخشبة قد لامست بدن نبي الله موسى (ع)؛ فصارت مظهراً للسكينة، والثوب الذي كان على يوسف (ع) هو ثوب منسوج من القطن أو من الكتان أو من أي شيء آخر، ولكنه قد لامس بدن الصديق: (فَلَمَّآ أَن جَآءَ ٱلۡبَشِيرُ أَلۡقَىٰهُ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ فَٱرۡتَدَّ بَصِيرࣰا)[١٢]، ولذلك أصبحت فيه خاصية الشفاء.
وفي قضية السامري؛ تبين أنه كان قد أخذ ترابا من الدابة التي كان عليها جبرئيل فحول الذهب والحلي إلى عجل جسد له خوار، وذلك قوله سبحانه: (قَالَ بَصُرۡتُ بِمَا لَمۡ يَبۡصُرُواْ بِهِۦ فَقَبَضۡتُ قَبۡضَةࣰ مِّنۡ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ فَنَبَذۡتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتۡ لِي نَفۡسِي)[١٣].
القرآن الكريم وفضل إحياء الشعائر
يقول الله عز وجل عن الشعائر في كتابه وعن فضل إحيائها: (ذَٰلِكَۖ وَمَن يُعَظِّمۡ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقۡوَى ٱلۡقُلُوبِ)[١٤]. إن إنشاد الشعر وترديدك لأبيات اللطم على الصدر؛ أمور محبوبة عند الله عز وجل؛ ولكن الله سبحانه يطلب منا في هذه الآية أن نحول الشعائر إلى القلوب. اسع بين الصفا والمروة ولكن حوله إلى قلبك. طف حول البيت سبع مرات ثم حوله إلى قلبك. أقم الصلاة التي أمرك الله بها ولكن حولها إلى قلبك وذلك قول الله عز وجل: (وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِيٓ)[١٥]. يريد الله منك أن تتحول هذه الصلاة التي هي معراح المؤمن وقربان كل تقي إلى عملية قلبية.عندما نتحدث عن إقامة الشعائر، فإننا نتحدث عن إقامة مثالية، وهي أن تحول الشعيرة إلى طاقة في القلب، وإلى قوة دافعة في الحياة. إن مجالس الحسين (ع) منذ نشأتها وإلى يومنا هذا، قد تخرج منها آلاف التوابيين.
انشار المجالس الحسينية في الأرض
نحن نذهب إلى بلاد الغرب والشرق ونحضر في مجالس كثيرة، وتعجب من جاذبية الحسين (ع) ومن هذا المغناطيس العملاق الذي يتأثر به كل من في العالم من شرقه إلى غربه. بل سألت أحد المؤمنين في بلاد قريبة من القطب الشمالي النرويج: أنتم قريب من القطب الشمالي، فهل تقيمون مجالس للحسين (ع) هنا؟ فقال: نعم. إنهم يُقيمون في بلاد الثلج مجالس للحسين (ع) وتُقام مجالسه في جميع العواصم العالمية.
فضل مجالس الحسين (عليه السلام) على الشيعة
ولولا هذه المجالس لكنا في وضع آخر، وبإمكانك النظر إلى إلى المسيحيين في العالم؛ فقد أصبحت كنائسهم فارغة وهم يغردون ويغنون وقد يشربون فيها. إلا أن الذي يحضر في مجالس الحسين (ع) فهو يحضر في دورة لمدة شهرين تزيد من معلوماته ومن إيمانه. فإذا وفقك الله سبحانه للحضور في هذه الدورة شهرين، قل: يا صاحب الزمان، أريد منك هدية، فقد لبست السواد في عزاء جدك (ص) شهرين، وذرفت الدموع في مصيبته، وشاركت في إقامة مجالسه. إن البعض من المؤمنين أصحاب المجالس يتهيئون قبل شهور لشهر محرم، ويعدون العدة قبل حلوله.
فهل ترى أن هذا المعنى يغيب عن بال إمام زماننا؟ إننا إذا شاركنا في مجلس فرح أو عزاء عند البعض من المؤمنين، لا يدعنا أن نرحل من دون أن ينصب لنا مائدة عشاء مثلا، فهو يرى لمن شارك في مجلس فرح ولده أو مأتمه فضلا عليه. إن أحد العلماء كان لا يدع من يعينه على إدارة مجلسه أن يخرج من دون أن يأخذ منه هدية قيمة.
تأس بالحسين (عليه السلام) في إقامة الصلاة رغم الجروح
فليحاول كل واحد منا أن ينقل شعائر الحسين إلى قلبه. إن الحسين (ع) كان في زوال يوم العاشر يتقرب موعد الصلاة. أي نبي أو إمام صلى وجروحه تنزف؟ عندما يتنفس الجريح شهيقاً وزفيراً؛ يخرج الدم من جرحه. فهو عندما يتنفس؛ تضغط رئته الدم المحبوس فيخرج من بدنه. ألا تحتمل أن صلاة الحسين (ع) كانت وحاله هذه؟ عندما يسجد أو عندما كان يركع كانت جروحه تنزف بشدة؟ ما هذه الصلاة؟ إننا لا نستبعد أن تعدل هذه الصلاة عبادة الثقلين كما كانت ضربة علي (ع) يوم الخندق.
المناجاة الأخيرة على رمال كربلاء…!
كان الحسين (ع) يناجي ربه في جوف الليل ولكن أي مناجاة تبلغ مناجاة أبي عبدالله (ع). وقد ناجى ربه في اللحظات الأخيرة عندما وضع خده الشريف على الرمال الحارة؛ ولكنه لم يشك العطش في مناجاته، كيف يشكو العطش وأخوه العباس (ع) وصل إلى المشرعة ورمى الماء على الماء بعد أن اغترف غرفة بيده، لأنه تذكر عطش الحسين (ع)؟ إنه قال: (رضىً بقضائك، وتسليماً لأمرك). أي يا رب، لقد شئت أن تراني قتيلاً، فقدمت نفسي للذبح، وشئت أن ترى أختي زينب (س) أسيرة، فقدمتها لذلك.
[٢] سورة المؤمنون: ٦٠.
[٣] سورة البقرة: ١٥٨.
[٤] سورة الحج: ٣٦.
[٥] بحار الأنوار ج٩٩ ص١٢٧.
[٦] عوالي اللئالي ج٤ ص١٢١.
[٧] عيون الأخبار ج١ ص٥٩.
[٨] عيون الأخبار ج١ ص٥٩.
[٩] مفاتيح الجنان.
[١٠] سورة الشمس: ١٤.
[١١] سورة البقرة: ٢٤٨.
[١٢] سورة يوسف: ٩٦.
[١٣] سورة طه: ٩٦.
[١٤] سورة الحج: ٣٢.
[١٥] سورة طه: ١٤.
خلاصة المحاضرة
- إن من شعائر الله سبحانه الصفا والمروة والبدن الذي أمر الله سبحانه بذبحه في أيام الحج. فقد جعل الله سبحانه هذه الشعائر دليلا على الطاعة وعلامة من علامات العبودية. ولكن كيف يكون جبلين في مكة هما الصفا والمروة من شعائر الله ولا يكون حجة الله الحسين (ع) من أعظمها؟
- يأتي أحدهم من بلاد بعيدة لا يعرف عن الإسلام شيئا، فيتسائل متعجبا: أ يُعقل أن تبكوا رجلا قُتل قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة؟ إنه لا يعلم أنه حجة الله التي هتكت حرمته، ولا زالت هذه الحرمة منتهكة حيث لم يُنتقم له بعد.