- ThePlus Audio
كيف نحافظ على مكاسب شهر رمضان المبارك؟
بسم الله الرحمن الرحيم
بركات ما بعد شهر رمضان
إن شهر رمضان المبارك ينتهي بلياليه وأيامه؛ ولكننا نبقى بعده نعيش بركات هذا الشهر الكريم من شهر شوال إلى شهر شعبان. عندما كانت القافلة تنزل في الأزمنة السابقة حيث الطرق الموحشة المخيفة على أرض مباركة؛ كانوا يتزودون منها للمنازل القادمة أكلاً وشرباً، وكان الذي لا يأخذ حظه من الطعام والشراب يموت في منتصف الطريق جوعاً وعطشاً.
التزود الروحي من الشهر الكريم لغيره من الأشهر
إن أرواحنا هي بحاجة إلى التزود كما هي دوابنا التي هي بحاجة إلى وقود للحركة. إن شهر رمضان المبارك هو شهر التزود، وشهر ملئ الباطن بالوقود الروحي. إن البعض لا يتزود أصلاً، وهو عنده سيان دخول الشهر وخروجه. وحتى الصائمين منهم من يسقط عنه عذاب تارك الصيام، ويؤجر شيئا – فنحن لا ننكر ذلك – ولكن لا يحصل على الثمرة التي هي التقوى.
احفظ هذه الحاءات الثلاث
إن حديثنا هو حول حاءات ثلاث. وهذه الحائات احفظوها في كل عام طوال الشهر وختام الشهر؛ الحيازة، والحذر، والحفظ. أولا: الحيازة؛ وهي أن تدخل الشيء في حوزتك. إن الذي صام بدنه واجتنب المفطرات المعروفة ثم لم تلامس روحه روح هذا الشهر الكريم؛ فهو لم يدخل الضيافة الإلهية، ولم يحز شيئا. الذي يصوم وعينه على هلال العيد، أو الذي يقرأ القرآن وعينه على آخر الجزء، وفي النهار عينه على أذان المغرب؛ هو إنسان مستثقل لهذا الشهر، والذي يستثقل شهر الله؛ الشهر يستثقله، ورب العالمين غني عن العالمين.
انظر إلى قلبك في ختام الشهر الكريم
وكقاعدة عامة أقول: إنك قد تذهب إلى بيت بعض الناس، فترجع منه وتقول: لم يكن يرغبون بإقامتي عندهم، وإذا قيل لك: يا فلان، لماذا تسيء بهم الظن؟ هل طردك أحد من المنزل؟ هل قال لك أحد اخرج من بيتي؟ فتقول لا، وإنما علمت ذلك من تصرفاتهم، ومن نظرتهم، ومن عدم إقبالهم علي بالحديث، وكنت أسألهم فيجيبوني أجوبة مختصرة، والضيافة كانت باهتة؛ فكل هذه علامات أن صاحب المنزل لم يكن يرحب بي، ولهذا تراه في ساعة الوداع غير مكترث. بخلاف الولد الذي يغيب عن أمه سنة ثم يأتي إلى الوطن أسبوعاً؛ فساعة الوداع ويا لها من ساعة على الأم تراها تبكي صباحاً ومساءاً. فإذا أردت أن تعلم كيف كنت في هذا الشهر؟ هل كنت ضيفاً مقبولا أو ضيفاً مبعداً؟ انظر إلى قلبك في ختام الشهر الكريم.
إن بعض الناس في أواخر شهر رمضان لا يسأل عن هلال العيد، وإذا قيل له: بأن هذا الشهر سيكون ثلاثون يوما؛ يفرح في باطنه لأنه سيبقى في الضيافة الإلهية يوما أكثر. إن الأدعية الموجودة حول شهر رمضان هي في الحقيقة أدعية غريبة. انظروا إلى أدعية إمامنا السجاد (ع) في مخاطبة هذا الشهر، وكأنه يودع عزيزاً عليه. أنت أيضا إن كانت حالتك هذه في ختام الشهر؛ فاشكر الله عز وجل على هذه النعمة.
ما هي علامة القبول؟
فقد ينتظر البعض في الصوم أو في الحج أو في العمرة مناماً يرى فيه نوراً في السماء مثلا كتب باسمه ليستيقظ فرحاً، ويقول: قبلت حجتي أو صومي. دعوا هذه العلامات الظنية التي لا تسمن ولا تغني من جوع. إن العلامة هي: لعلكم تتقون. انظر إلى قلبك اليوم؛ هل أنت زاهد في الحرام؟ قبل الشهر الكريم كنت تعاني من النظر وكان ثقيلا عليك غض البصر؛ فكيف أصبح الآن؟ كنت تدفع الخمس على مضض، فهل أصبحت بعد الشهر تستعجل التخميس وتريد دفعه وقته شوقاً؟ كيف أنت مع الصلاة؟ الصلاة والصيام صنوان. كيف هو استقبالك للصلاة في أول الوقت؟ إن المؤذن عندما يقول: حي على خير العمل؛ ماذا تقول في قلبك؟ إذا الاختبار منك والتصحيح منك والجائزة منك؛ فأنت الأول والآخر في هذا المجال. أنت الذي تعطي لنفسك درجة في ختام الشهر.
ثانيا الحذر. متى يحذر الإنسان؟ إذا كان في وضع خطر ويخاف على نفسه. إننا عادة لا نحلل الدم إلا في السنة مرة. بل حتى رأيت بعض الأطباء يقول: إنني لا أفحص بدني كثيرا لأن ذلك يشوشني في كل شهر أو في كل شهرين، وكأنه كابوس. إلا أن المرضى بالسكر في كل يوم أو يومين يفحصون أنفسهم. فما الذي جرى؟ يقول: أنا أخاف، وأنا حذر. إن دمي فيه هذا المرض، وعلي أن أفحص. فالحذر فرع الخوف، والذي لا يخاف لا يحذر.
إن الذي يخاف من فقدان المكاسب في شهر رمضان المبارك؛ يحذر أيما حذر بعد الشهر الكريم، ويهجر الدواوين الغفلة، ويهجر أصدقاء السوء والفضائيات اللاغية الباطلة، ويحذر ويخاف لأنه يعلم: (إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَـٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولٗا)[١]. فكل ما يسمع يدخله في جهاز الرقابة، وكذلك كل ما يقول، وكل ما يرى بعد الشهر الكريم. وحاله في ذلك حال إنسان بيده جوهرة وهو يمشي في منطقة اللصوص. إن الشياطين المغلولة في الشهر الكريم تنطلق بعد هذا الشهر فيخاف هذا الإنسان من انتقامها.
حفظ المكاسب من خلال المراقبة المستمرة
وثالثا: حفظ المكاسب. ولكن كيف نحفظ المكاسب؟ أول قاعدة في ذلك – وهي قاعدة شائعة في الشرق والغرب – هو التطبيق العملي. حتى لو قرأت مئات الكتب الأخلاقية فإن الأمر لا ينفعك ما لم تطبق. إن الأخلاقيين مجمعون على أمر وهو: من ليست له مراقبة مستمرة؛ لا يرتفع له بناء. فبمقدار ما تراقب تكون حافظا.
ولكن ما هي المراقبة؟
للمراقبة ثلاثة أضلع: ضلع مراقبة الحق، وضلع مراقبة النفس، وضلع مراقبة العدو والشيطان. ما معنى هذه المراقبات؟ إننا عندما نذكر المراقبة؛ يتبادر إلى الذهن مراقبة النفس. أي لا أعصي ولا أغفل وهذا أمر جيد؛ ولكن هناك نوع آخر من المراقبة وهي مراقبة رب العالمين. بالطبع إن هذه المراقبة تستلزم المراقبة الأخرى فبينهما ترابط وترتيب؛ فقبل أن تراقب نفسك راقب الله عز وجل. ومراقبة الله هي استحضاره، والاعتقاد بوجوده وبحاكميته وبسميعيته، وببصيريته.
مراقبة الله عز وجل
إنني عندما ألتقي بعبد صالح عالما كان أو من عامة الناس، أقول له: تكلم بما في قلبك. وعندما يتكلم يذكر مما يذكر: وصلت إلى مرحلة أرى الله معي؛ فأحدثه وأراه بقلبي وأناجيه. إن علاقتي معه ليست علاقة الخوف فقط وإنما علاقة المحبة أيضا. إن ربي قريب وربي رئوف، وربي رحيم. إذا وصل الإنسان إلى هذه الدرجة من القرب من مولاه؛ فقد وصل إلى درجة عالية. إنه قد وصل إلى درجة لا يعلم فيها معنى الغربة. والحال أن البعض يسافر من بلد إلى بلد أو تسافر زوجته وأولاده فيبقى في المنزل، ويقول: إنني أشعر بالوحشة. والبعض عندما ينام في المنزل وتكون العائلة في البيت، يقول: إنني لا أنام لوحدي، ولابد من وجود طفل معي. إن الطفل يؤنسه ولكن رب العالمين لا يؤنسه؛ بل قد يشتري طيراً في القفص ويقول: هذا يغرد فيؤنسني أو لعله يربي حيواناً في المنزل لكي يؤنسه.
مراقبة النفس
ثم عليك بمراقبة نفسك بعد مراقبة الله. هناك من يقول: إنني أرى نفسي كما يرى البعض ثوبه. إنه ينظر إلى نفسه نظرة المراقب للمراقب، ويعيش اثنينية لا ازدواجية. إنه يرى نفسه مُراقَباً ومراقِباً، ولهذا يتكلم على نفسه في الخلوة ويعاتبها بصوت عال، ويقول: يا لئيم، ويا حقير، لماذا فعلت هكذا؟ إن هذه جلسة طيبة، وهي خير له من أن يقال له في عرصات القيامة: يا خائن، لماذا خنت الأمانة؟ إنه يفعل ذلك بنفسه في دار الدنيا. إن البعض يعاقب نفسه عقوبة شرعية؛ ففي أيام الصيف الطويل عندما يستيقظ من النوم ويكون قد عمل ما عمل طوال الليل؛ يصبح صائما، ويقول لنفسه: ذوقي العطش والجوع في الدنيا. إن البعض يحرم نفسه بعض الملذات المحللة عقوبة لها.
مراقبة الشيطان
ثالثا: مراقبة الشيطان. قال تعالى: (إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لَكُمۡ عَدُوّٞ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّاۚ)[٢]؛ أي أن الشيطان هو أعدى الأعداء، لأنه وقع في ما وقع بسبب أبينا آدم (ع)، ونحن أبناء ذلك النبي الذي بسببه صار ملعوناً ومطروداً. إن عداوته لبني آدم هي عداوة تاريخية.
إنني في بعض الأوقات تنتابني الحسرة والألم لحال بعض الناس؛ فعندما يأتيني مؤمن ويقول: أفلست، لا أتأثر كثيرا، وكذلك إن قال لي: لقد مرضت، أو أصابني حادث أو طلقت زوجتي وما شابه ذلك وإنما أتأثر إجمالاً؛ إلا أن الذي يجعلني أتألم كثيرا؛ عندما يأتيني إنسان ويقول: كنت على حالة طيبة، وكنت أقيم الليل والآن أصبحت تارك للصلاة. إنما هذه هي الكارثة. إن البعض منا قد لا يترك الصلاة ولكن يصبح قلبه كالخشبة اليابسة، وفي ليالي القدر لم تذرف عينه دمعة واحدة. إنه كان في العام المنصرم أفضل حالا وأكثر إقبالا وأرقى مما هو فيه الآن؟
لماذا هذا التراجع؟ لماذا هذه الانتكاسة؟ أقم لنفسك محكمة، وسلها: لماذا وصلت إلى هذه الحالة؟ إن الشيطان ينظر إلى أغنى الأغنياء روحيا بين المؤمنين، ويضع لهم خمسين فخ. إن الشيطان عينه على المميزين. وبتعبير البعض: إن من يرقص من دون طبل لا تطبل له، وإنما هو يرقص من دون أن تزمر. إن الشيطان يزمر للإنسان الثقيل العاقل ويخرجه من طوره. لا تفرح كثيرا لأنك صمت سنة مميزة، ولا تفرح كثيرا لإحياء ليالي القدر، وإنما المصيبة تبدأ بعد الشهر الكريم.
فكر في الخطة التي وضعها الشيطان لإلقاء القبض عليك؟ احفظوا هذا الدعاء الشريف عني والهجوا به في الطواف، أو في السعي، أو عند الحطيم، أو تحت القبة الشريفة، وأو اتخذه ورداً لك في قنوتك: (اللهم لا تسلب مني صالح ما أعطيتني أبدا، اللهم لا تردني إلى سوء استنقذتني منه أبدا، اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا).
ما هي الخطوات العملية؟
أولا: لا تقاطع الصيام. التزم بصوم الدهر الذي هو صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وبذلك تكون دائم الصيام. صوم أول خميس وآخر خميس من كل شهر والأربعاء التي هي في وسطه.
ثانيا: لا تهجر القرآن؛ فإن كنت صاحب ختمة؛ فالتزم – على الأقل – بجزء أو بنصف جزء أو بربع جزء أو صفحة من القرآن يوميا؛ فلا تترك القرآن أصلا.
ثالثا: إن البعض في شهر رمضان المبارك كان يصلي نافلة الليل حرصاً على طعام السحور، ويقول: من الإمساك إلى الأذان هناك عشر دقائق هي كافية لصلاة الليل؛ إلا أنه بعد الشهر الكريم يهجرها. أقم صلاة الليل ولو في ركعاتها الثلاث، وصم الأيام الثلاثة، واقرأ القرآن ولو صفحة واحدة.
رابعا: إن شهر رمضان هو شهر الله والمسجد بيت الله؛ فلا تهجر المسجد. إن الضيافة الزمانية تنتهي بانتهاء الشهر إلا أن البيت موجود؛ فاجعل لك أنساً ببيت الله عز وجل. كن حريصاً أن لا تجعل فريضتك إلا في المسجد بقدر الإمكان فلا أريد أن أشق عليكم.
إن الأصل في الصلاة أن تكون في المسجد؛ فالصلاة في المنزل صلاة ذوي الأعذار أو هي صلاة المحرومين. كم يضرب يوم القيامة جار المسجد على رأسه – لا الجار اللصيق – من أجل الصلوات التي صلاها في البيت. لقد صليت في السنة ثلاثمائة وستين يوماً؛ لماذا لم تجعل صلاتك في بيت الله؟ ما هو عذرك؟ لماذا أعرضت عن بيت الله بلا وجه ومبرر؟
لو ألتزمت بهذه التوصيات الأربع بالإضافة إلى الالتجاء الدائم إلى الله عز وجل؛ فتكون في صيام دائم. إن البعض في صلاتهم دائمون والبعض في صيامهم دائمون:
طوبى لأرباب النعيم نعيمهم
وللعاشق المسكين ما يتجرع
خلاصة المحاضرة
- إن الأصل في الصلاة أن تكون في المسجد؛ فالصلاة في المنزل صلاة ذوي الأعذار أو هي صلاة المحرومين. كم يضرب يوم القيامة جار المسجد على رأسه – لا الجار اللصيق – من أجل الصلوات التي صلاها في البيت. لقد صليت في السنة ثلاثمائة وستين يوماً؛ لماذا لم تجعل صلاتك في بيت الله؟ ما هو عذرك؟
- إن البعض في شهر رمضان المبارك كان يصلي نافلة الليل حرصاً على طعام السحور، ويقول: من الإمساك إلى الأذان هناك عشر دقائق هي كافية لصلاة الليل؛ إلا أنه بعد الشهر الكريم يهجرها. أقم صلاة الليل ولو في ركعاتها الثلاث، وصم الأيام الثلاثة من كل شهر، واقرأ القرآن ولو صفحة واحدة
- إنني في بعض الأوقات تنتابني الحسرة والألم لحال بعض الناس؛ فعندما يأتيني مؤمن ويقول: أفلست، أو مرضت، أو أصابني حادث أو طلقت زوجتي وما شابه ذلك أتأثر إجمالاً؛ إلا أن الذي يجعلني أتألم كثيرا؛ هو أن يقول الرجل: كنت على حالة طيبة، وكنت أقيم الليل فأصبحت تارك للصلاة. هذه هي الكارثة.
- هناك من يقول: إنني أرى نفسي كما يرى البعض ثوبه. إنه ينظر إلى نفسه نظرة المراقب للمراقب، ويعيش اثنينية لا ازدواجية. إنه يرى نفسه مُراقَباً ومراقِباً، ولهذا يتكلم على نفسه في الخلوة ويعاتبها بصوت عال، ويقول: يا لئيم، ويا حقير، لماذا فعلت هكذا؟ إن هذه جلسة طيبة.
- إن الذي يخاف من فقدان المكاسب في شهر رمضان المبارك؛ يحذر أيما حذر بعد الشهر الكريم، ويهجر الدواوين الغفلة، ويهجر أصدقاء السوء والفضائيات اللاغية الباطلة، ويحذر ويخاف من الغضب الإلهي ومن تربص الشياطين به.