- ThePlus Audio
في رحاب الإمام علي بن موسى الرضا (ع)
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة لا إله إلا الله حصني
المقدم: مشاهدينا الأعزاء أينما كنتم من القلب من هذا الحرم المبارك من جوار أنيس النفوس أقول لكم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أرحب أجمل ترحيب بضيفنا العزيز فضيلة الشيخ حبيب الكاظمي.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أيامكم وأهلا وسهلا. من الروايات المعروفة في التراث الشيعي حديث سلسلة الذهب وما ذكره الإمام الرضا (ع) في نيشابور حينما اجتمع عليه أصحاب الحديث فقالوا له: (يَا اِبْنَ رَسُولِ اَللَّهِ تَرْحَلُ عَنَّا وَلاَ تُحَدِّثُنَا بِحَدِيثٍ نَسْتَفِيدُهُ مِنْكَ)[١]؟ فأخرج رأسه (ع) من المحمل وقال: (سَمِعْتُ أَبِي مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ يَقُولُ)، إلى أن أوصله إلى جده المصطفى حيث يقول: (سَمِعْتُ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لا إله إلا الله حِصْنِي فَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذَابِي فَلَمَّا مَرَّتِ اَلرَّاحِلَةُ نَادَى بِشُرُوطِهَا وَأَنَا مِنْ شُرُوطِهَا)[٢]. فما هو تعليقكم سماحة الشيخ؟
الشيخ: الحمدلله الذي وفقنا هذه الليلة أيضا لكي نكون بجواره (ع) ونوفق لبيان مناقبه. وما أجمل الجوار المكاني وذكره..! وهم الذين قالوا: (رحم الله من أحيا أمرنا). إن شاء الله سيكون هذا المجلس من المجالس التي يحيى فيها أمرهم.
إن حديث سلسلة الذهب حديث معروف في أوساط الرواة ولعله من أشهر الروايات المنسوبة للإمام الرضا (ع). والملفت في الرواية – في دراية الرواية لا روايتها – أولا: أن الإمام جاء من المدينة إلى نيشابور وطوى مسافة طويلة جداً ولكنه عندما أتى نيشابور التي هي أقرب المدن إلى أرض طوس؛ اجتمع حوله المحدثون ونادوه بابن رسول الله. أي أن صيت الإمام وشهرته قد وصلت إلى كل البقاع. انظروا إلى ظلامة الإمام الحسن (ع) الذي يطعن بالخنجر من أقرب مقربيه؛ وانظروا إلى الرضا (ع) الذي يأتي إلى نيشابور من آلاف الأميال ويُستقبل هذا الاستقبال الحاشد.
إن الرواة يخرجون أقلامهم ويقولون: حدثنا يا ابن رسول الله. وهنا الإمام قام بحركة فطنة إلهية – وكل أعمالهم منتسبة إلى السماء – وهي أنه ركز على التوحيد أولا. قال حدثني أبي عن أبيه عن أبيه إلى أن أوصلها إلى النبي الأكرم (ص)، وقال سمعت الله. الآن هذه الرواية هل سمعها النبي (ص) في عالم المعراج؟ وكيف؟ لأنه لم يقل: قال الله عز وجل، وإنما قال: سمعت. ويبدو أن هذه الرواية تكليمية؛ أي صدرت من الله كما كلم الله موسى تكليما. إن ل موسى (ع) الحق في أن يقول: سمعت الله يقول. فيبدو أن هذه الرواية من الروايات النادرة جدا التي سمعها النبي من الله عز وجل مباشرة.
وتعمد الإمام بيان هذا السند المتصل؛ أي نحن أبناء الرسول. ومن يجرأ في ذلك الزمان أن يقول: حدثني أبي عن أبيه ويوصلها إلى النبي (ص) بطرف خفي. إنها حركة إعلامية؛ لأن الذين كانوا تحت الراحلة؛ ما كانوا موالين بالضرورة. فقد يكون البعض منهم مجرد راو وقد لا يعتقد بإمامته أصلا. فالإمام بهذه الحركة أفهمهم أنه: أنا وارث هؤلاء أصحاب هذه الأسماء التي لو قُرئت على مجنون لأفاق.
ثم إن الإمام ما ختار رواية أخلاقية، أو منقبة أو قضية جزئية؛ وإنما ضرب في الصميم، وذكر أمرا – كما يعبر عنه اليوم – استراتيجيا، وهو التوحيد، وقال: كلمة لا إله إلا الله حصني لا الشهادتين. الشهادتان في عالم اللفظ تُحقن بها الدماء ويصبح الإنسان مسلماً بنطقهما. ولكن الحصنية بحاجة إلى دخول ذلك الحصن. إن الذي يقف خارج الحصن ويقول: ألوذ بهذا الحصن ولا يدخل، ولا يطرق الباب؛ سوف لن يحميه هذا الحصن من السباع المفترسة، ولا يكون في حرز حتى يمشي خطوات باتجاه باب الحصن ويدخل. فإذا أغلق الباب، يقول: أنا في حصن وفي حرز.
إن التوحيد هو الحصن الإلهي. ولكن ما هو التوحيد؟ إنه سؤال يحتاج إلى بحث مفصل؛ ولكن التوحيد إجمالا هو: أن لا ترى في الوجود إلا الله عز وجل. هناك رواية ملفتة في قوله تعالى: (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا)[٣]، وفي الحقيقة إن بعض الروايات من المفروض أن تكتب بماء الذهب. تقول هذه الرواية: (يُطَهِّرُهُمْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سِوَى اَللَّهِ إِذْ لاَ طَاهِرَ مِنْ تَدَنُّسٍ بِشَيْءٍ مِنَ اَلْأَكْوَانِ إِلاَّ اَللَّهُ)[٤]. ويعني التوحيد: أن لا يرى الإنسان في الوجود فاعلاً ألا هو، وهذا هو معنى لا إله إلا الله.
إن لا إله إلا الله ليس مجرد تلفظ وإنما هو اعتراف بحقيقة ثم المشي عليها والعمل بها. ثم أن الإمام بعد أن علموا أن هذا حديث توحيدي لم ينتهي الأمر فقال لهم الإمام: بشرطها وشروطها وأنا من شروطها. ويعني ذلك أن الإمام قرن بين التوحيد والإمامة كما أن النبي قرن بين الثقلين: كتاب الله وعترتي؛ فكتاب الله يمثله التوحيد وأنا أمثل العترة. وأفضل من هذا القول لم يكن ممكنا في محضر النيشابوريين والرواة المجتمعين حوله.
سر خلود شعراء أهل البيت (عليهم السلام) وعلى رأسهم دعبل الخزاعي
المقدم: فضيلة الشيخ؛ الكثير من الشعراء ينشدون الشعر ولكنهم يخلدون عادة بقصيدة واحدة كتلك التائية الرائعة العصماء لدعبل الخزاعي. ما هو سبب هذا التخليد؟
رحم الله دعبلا..! إنني أغبطه من بين الشعراء هو والفرزدق والكميت. إنني عادة عندما أتشرف لزيارة الرضا (ع)؛ كثيرا ما أردد هذه الأبيات: مدارس آيات، ثم أعرج على: أفاطم لو خلت، إلى آخر الأبيات. وأقول للإمام: إن دعبلا الذي قال هذه القصيدة قد أكرمته كثيرا، إكراماً لا نظير له حتى هجم عليه في الطريق بعض الموالين ليأخذوا منه الثوب الذي أعطاه الإمام (ع) فأكرمني كما أكرمته.
إنها قصيدة رائعة جداً في اللغة العربية، وفي الأدب العربي، وهي من القصائد العصماء بلا شك؛ ولكن الذي لفت نظري هو تفاعل الإمام مع القصيدة حتى أغمي عليه كما ورد في بعض العبارات، يقول: الإمام أغمي عليه أكثر من مرة لما كان يذكره من مضامين بديعة ومحزنة، منها:
بنات زياد في القصور مصونة
وآل رسول الله في الفلوت
وفي أيامنا هذه العرف الجاري بيننا أنه لما نذكر اسم الإمام المهدي روحي له الفداء؛ أحدنا يرفع يده ويقوم البعض إجلالاً. وهذا المعنى اقد أُخذ من قصيدة دعبل، لما قال:
خروج إمام لا محالة خارج
يقوم على اسم الله والبركات
الإمام قام ووضع يده على رأسه. ولهذا يقال من الأدلة على رجحان وضع اليد هي هذه الحادثة التي هي ممن وروثات الإمام الرضا (ع) ببركة قصيدة دعبل. ولكن لماذا هذا الخلود الذي حظي به هذا الشاعر؟ إن دعبلا ضحى بنفسه وقد قُتل أخيرا. إنهم تتبعوه إلى أن قتلوه لأنه كان يثقل عليهم هذه الإعلام. إن الشعر في ذلك الزمان كان له دور الفضائيات، ومواقع التواصل الاجتماعي في أيامنا هذه. إن الذي كان يروج له هو الشعر والشعراء، حتى يقول دعبل: أنا كنت في الغرفة وحدي وإذا بالباب ينفتح بشكل غير طبيعي؛ فخفت كثيرا: قال لي القائل: لا عليك، نحن من جن اليمن جئنا نسمع التائية. يبدو أن هذه القصيدة ليست من الأدب العربي وإنما هي من العرش. لقد دخل العرش دخولاً أبدياً. فرحمه الله على هذه القصيدة.
مناظرات الإمام الرضا (عليه السلام) مع سائر الأديان والمذاهب
المقدم: فضيلة الشيخ، نقرأ في الروايات والأحاديث ونعلم بأن الإمام الرضا (ع) قد جُعل له الكثير من مجالس المناظرات مع الأديان الأخرى، وكان المأمون يعقد هذه المجالس ويجعل الإمام الرضا (ع) هو من يجيب عن إمامة أمير المؤمنين (ع) وعن كثير من المسائل؛ فكيف نتأسى بالإمام الرضا (ع) خصوصا ونحن في زمن تلاقح الفكر والأديان؟
الشيخ: إنه سؤال وجيه. لقد ذكرت: أن من أراد زيارة الرضا (ع) فليصطحب معه كتاب أو مجلد من مجلدات البحار؛ فجزء كامل من البحار هو في حياة الرضا (ع)، بالإضافة إلى الأمتعة التي يجلبها معه وكذلك كتاب عيون أخبار الرضا (ع) للشيخ الصدوق هو في الحقيقة كتاب ممتع جداً. فليقرأ المؤمن في الحرم الرواية ثم يتوجه للإمام ويقول: أنت صاحب الرواية، ويطلب من الإمام أن يبارك في وجوده.
في زمن الإمام الرضا (ع) وفي أيام الدولة العباسية؛ بدأت حركة الترجمات وحركة نقل الثقافات اليونانية والهندية وغيرها إلى الإسلام، وبدأت حركة الزندقة والإلحاد. نحن الآن نشتكي من الزندقة ولكن من تلك الأيام كان البعض منهم يمارسون نشاطهم وكان في زمن الإمام العسكري (ع) من دعاة الزندقة والإلحاد الكثير.
لقد تصدى الإمام لهذه الحركات المختلفة. فتارة يناظر الجاثليق وأمثاله، وتارة يناظر من كان يخالفه في الرأي في الإمامة. سألتني عن الدرس العملي، وأقول: كن كالرضا (ع) في مناظراته. إن الإمام في المناظرات يتكلم بكل هدوء وبكل أريحية ويستشهد بالآيات القرآنية؛ لأن الخصم قد لا يقبل منه الرواية. فإذا قال الإمام (ع): أنا الذي أروي هذه الرواية، فسيقول له الخصم: أنت خصمي ولا أقبل منك. ولهذا كان يأتي بالآية تلو الآية. وإذا أردت أن تجادل وأن تخاصم وأن تناظر؛ تعلم أدب الحوار، وخذ مسلمات الطرف المقابل ولا تجاهمه في معتقداته مباشرة ولا تطعن في رموزه مباشرة. لأنك إن فعلت ذلك أغلق عليك الباب.
إن الإمام يستدرج بالآيات حتى أن المأمون العباسي – بالرغم من طغيانه – كان يجاري الإمام (ع) ويبدي فرحه من قدرة الإمام على إثبات الإمامة. طبعا في الرواية يقول الإمام لمن معه: لا تفرح، هذا الذي سيقتلني؛ أي أن مجاراته لي هي من باب أنه يحب أن يتقوى بالإمام، ولما يظهر الإمام بمظهر المنتصر والخبير بالإمامة والروايات؛ يستغل الفرصة. إن الإمام الرضا (ع) يعلمنا أن الإنسان المؤمن العابد المصلي الصائم، وحتى الذي يقوم بالخدمات الاجتماعية إذا لم يكن على مستوى من البصيرة والفهم لا يعد من شيعتهم حقيقة.
لقد ذكر لي أحد العلماء الكبار حول المناظرة وسرعة الجواب أمرا فقال: أحدهم سأل أحد الموالين وكان مسؤولاً سياسياً، ولم يكن من أهل العلم، فقال له: لماذا تبالغون في إمامكم أمير المؤمنين (ع)؟ تقولون: أنه يصلي وفي جسمه كذا عدد من السهام ويقلع السهم من بدنه ولا يشعر. أ ليست هذه مبالغة؟ هل هناك إنسان لا يشعر بالسهم؟ يقول: لقد تحريت في جوابه، وكان الرجل من علماء الطرف المقابل، فألهمت الإجابة، وهي مقنعة جداً. قلت له: يا فلان، أيهما أجمل وأعظم؛ جمال الخالق أم جمال المخلوق؟ قال: طبعا جمال الخالق. قال رأين جمال يوسف (ع) فقطعن أيديهن وأمير المؤمنين (ع) يرى جمال الله فتستبعد أن ينسى نفسه؟ وهذا هو أدب الحوار. إنه لم يهاجمه؛ بل أقنعه وبدليل قرآني لطيف.
تعلم فن الحوار والمناظرة
ينبغي للمؤمن أن يكون لبق في المناظرة ولا يُنفر. هناك في زماننا هذا الولائيان العملاقان صاحب الغدير الأميني وشرف الدين حيث لا أحد يزايد عليهما في الولاية والتولي والتبري. وهم في القمة، ولا أحد يشك في ولاء الأميني ولا في ولاء شرف الدين. اقرأ الأميني واقرأ شرف الدين في المراجعات؛ لماذا جعل البشري سليم يخضع له؟ لأدبه في الكلام وكذلك العلامة الأميني في كتابه.وأنا أعتقد أن أمير المؤمنين (ع) يضع يده على كتف الأميني وعلى كتف شرف الدين يوم القيامة ويقول: أحسنتما في الدفاع عني. فتأسوا بهؤلاء، وبأصحاب الأئمة (ع) هشام بن الحكم وغيرهم؛ هؤلاء كانوا من كبار المناظرين ولكن بأدب الإيمان وبأدب أهل البيت (ع)، وكما قال سبحانه: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)[٥].
المدرسة الأخلاقية للإمام الرضا (عليه السلام)
المقدم: ننتقل إلى بعض الروايات الأخلاقية والتربوية في مدرسة الإمام الرضا (ع) وهو ما روي عنه: (سَبْعَةُ أَشْيَاءَ بِغَيْرِ سَبْعَةِ أَشْيَاءَ مِنَ اَلاِسْتِهْزَاءِ مَنِ اِسْتَغْفَرَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَنْدَمْ بِقَلْبِهِ فَقَدِ اِسْتَهَزَأَ بِنَفْسِهِ وَمَنْ سَأَلَ اَللَّهَ اَلتَّوْفِيقَ وَلَمْ يَجْتَهِدْ فَقَدِ اِسْتَهَزَأَ بِنَفْسِهِ وَمَنِ اِسْتَحْزَمَ وَلَمْ يَحْذَرْ فَقَدِ اِسْتَهَزَأَ بِنَفْسِهِ وَمَنْ سَأَلَ اَللَّهَ اَلْجَنَّةَ وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى اَلشَّدَائِدِ فَقَدِ اِسْتَهَزَأَ بِنَفْسِهِ وَمَنْ تَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنَ اَلنَّارِ وَلَمْ يَتْرُكْ شَهَوَاتِ اَلدُّنْيَا فَقَدِ اِسْتَهَزَأَ بِنَفْسِهِ وَمَنْ ذَكَرَ اَللَّهَ وَلَمْ يَسْتَبِقْ إِلَى لِقَائِهِ فَقَدِ اِسْتَهَزَأَ بِنَفْسِهِ)[٦]. نستطيع أن نقول: إنها مدرسة أخلاقية متكاملة؛ أليست كذلك؟
هذه الرواية من الروايات المشهورة عن الإمام، ورأيت في الصحن الشريف قد نقشوا هذه الرواية. ولكن ما هو المغزى من الرواية؟ تارة نفسر الرواية جملة جملة وتارة ننظر إلى المجموع الكلي من الرواية. يتبين من هذه الرواية: أن الأمنيات هي غير النية الحقيقية الجادة. إن الإنسان قد يتمنى شيئا ولكن في مقام العمل لا يبذل ما ينبغي أن يبذله، ولهذا يقول الإمام: من سأل الله التوفيق ولم يجتهد فقد استهزئ بنفسه. ولكن يقصد التوفيق في أي مجال؟ تريد أن تكون ثرياً وصاحب مال وزوجة؟ فالعم أن الإنسان المتقاعس اقتصادياً وكسبياً لا يحقق طموحاته هذه. وكذلك التوفيق في المجالات المعنوية؛ إنسان يريد أن يكون من أولياء الله، ويقرأ كتابا أو كتابين في سيرة الأولياء ويتمنى أن يكون مثلهم ولكن هؤلاء بذلوا جهداً في هذا المجال.
من باب اللطيفة يقول أحدهم: زرت الرضا (ع) وأردت أن أقدم له هدية؛ فصليت في حرمه ألف ركعة ثم اهديتها له؛ أي هناك إنسان له هذه الهمة أن يصلي ألف ركعة في الزيارة ويقدمها للإمام؟ ثم يقول (ع): ومن استغفر بلسانه ولم يندم بقلبه. إن البعض من شبابنا هذه الأيام – مع الأسف – يضحك على نفسه كما يقول الرضا (ع). فهو يسهر إلى الصباح على الحرام كل ليلة وإذا أصبح الصباح يبكي ندماً. إن الندامة الحقيقية هي هذا الاستغفار الواقعي. نحن اعتدنا على اللفظ من قبيل: استغفر الله، وسبحان الله، والحمدلله، والشكر لله؛ ولكن القلب لا يوافق. لا القلب ولا الأركان. طبعا هناك لسان وهناك جنان، وهناك جوارح خارجية؛ فلا الجوارح ولا الجوانح تعمل موإنما هو مجرد لفظ باللسان. أن تأخذ سبحة وأن تقول ألف مرة: استغفر الله أمر هين؛ ولكن الفخر كل الفخر أن تعزم على ترك المعصية.
من أسرار عالم الغيب
المقدم: فضيلة الشيخ، هنالك رواية ملفتة عن الإمام الرضا (ع) يفسر لنا السر في اتخاذ الطواغيت قرارات خاطئة تعود عليهم بضرر كثير، منها ما روي عن الإمام الرضا حيث قال: (إِذَا أَرَادَ اَللَّهُ أَمْراً سَلَبَ اَلْعِبَادَ عُقُولَهُمْ فَأَنْفَذَ أَمْرَهُ وَتَمَّتْ إِرَادَتُهُ فَإِذَا أَنْفَذَ أَمْرَهُ رَدَّ إِلَى كُلِّ ذِي عَقْلٍ عَقْلَهُ فَيَقُولُ كَيْفَ ذَا وَمِنْ أَيْنَ ذَا)[٧].
هذه الرواية أيضا تكشف سرا من أسرار عالم الغيب أو عالم العرش. إننا نرى بعض الطواغيت يأخذ قراراً خاطئاً كما فعله طاغية العراق في غزواته وكان سبباً لهلاكه. ولهذا نرى طوال التاريخ أخطاء متكررة، والتاريخ يعيد نفسه، والطاغوت يقوم بعمل فيه هلاكه، ويقوم بعمل خاطئ يؤلب عليه الناس فينتهي ملكه. ويبدو أن الله عز وجل له هذا التصرف. وهذا لا يُلزم منه الجبر؛ فهناك طاغوت وقع في باله أن يعمل عملاً فيه هلاكه، ورب العالمين لم يجبره عليه.
إن بابي الإلهام والوسوسة مفتوحان دائما؛ أي الآن إذت شاهدت أمرا ملفت بإمكانك أن لا تنظر وتغمض عينيك. إنهما جفنان يسبلان فلا ترى أمامك منظراً. تحب أن لا تتكلم؛ أطبق شفتيك، وأما السمع لا يمكن القضاء عليه فهو مفتوح صباحاً ومساءاً، وغاية ما تستطيع فعله أن تقول: إنني أستمع ولا أسمع أي لا تلتفت. إنسان في سيارة فيها غناء وصاحبها لا يطفئ الغناء، وأنت ملزم ومهما حاولت أن لا تستمع ففي النهاية ستعلم ماذا يقول المطرب.
وبإزاء الأذن الخارجية توجد الأذن الجانحية. هذه تسمع كل شيء حقاً أو باطلاً، ويبدو أن القلب هكذا؛ فهناك أذنان في القلب وفيهما الشيطان يوسوس والرحمن يلهم على المؤمن أن يطلب من الله أن يصفي هذا الباطن ويجنبه هذا المعنى. وما أقوله ليس كلاماً اعتباطيا وإنما هو مما ورد في كتب الأخلاق. القرآن يقول عن الشيطان: (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ)[٨]، ويقول: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ)[٩]، ويقول في المقابل: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ)[١٠]. وكأن يقول لك الإمام الرضا (ع): سل الله عز وجل أن يعطيك الخاطرة الطيبة، ويلهمك ما فيه صلاح أمرك. وهذا ما أفهمه أنا من هذه الرواية المباركة.
القرب من الله عز وجل بدمعة تسيل من خشية الله
المقدم: فضيلة الشيخ، نختم الحلقة معكم بختام توحيدي. لقد روى لنا الإمام الرضا (ع) عن أبيه عن جده الصادق (ع) أنه قال: (إِنَّ اَلرَّجُلَ لَيَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اَلْجَنَّةِ أَكْثَرُ مِمَّا بَيْنَ اَلثَّرَى وَاَلْعَرْشِ لِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِ فَمَا هُوَإِلاَّ أَنْ يَبْكِيَ مِنْ خَشْيَةِ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ نَدَماً عَلَيْهَا حَتَّى يَصِيرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَقْرَبُ مِنْ جَفْنِهِ إِلَى مُقْلَتِهِ)[١١]فكيف تفهمون هذا الحديث؟
إن هذه الرواية تعكس قوة البكاء من خشية الله عز وجل. أي أن ستون سنة من المعصية – غير حقوق المخلوقين – تمسح بدمعة في جوف الليل؟ إن الإمام يريد أن يفتح لنا باب الإنابة. ولكن المشكلة في البكاء عند البعض؛ فهو يحاول ولكن لا يأتيه البكاء. وما ذلك إلا لما روي أنه: (مَا جَفَّتِ اَلدُّمُوعُ إِلاَّ لِقَسْوَةِ اَلْقَلْبِ وَمَا قَسَتِ اَلْقُلُوبُ إِلاَّ لِكَثْرَةِ اَلذُّنُوبِ)[١٢]. لو أن الإنسان في يوم من الأيام جرت دمعته ورق القلب فدونه دونه. ينبغي أن يستغلها وهي فرصة. فاسئل الله عز وجل ما تريد.
وإذا تشرفت لزيارة الرضا (ع) في يوم من الأيام؛ اقرأ أبيات دعبل، وابك على الحسين (ع). ثم قم بمناجاة خفيفة فإذا جرت الدمعة فقد قُصد قَصدك. أحدهم زار سفير الإمام الحجة (ع) فكتب للإمام حاجة وانتهى الموضوع. ثم جاء الجواب والتوقيع الشريف، قال: (اِسْتَرْضَتْنِي وَاِعْتَذَرَتْ إِلَيَّ وَوَافَقَتْنِي وَلَمْ تُخَالِفْنِي حَتَّى فَرَّقَ اَلْمَوْتُ بَيْنَنَا)[١٣]. إنه كتب للإمام عن طريق السفير أنه له حاجة من دون أن يظهرها ولكن الإمام (عج) علم حاجته.
[٢] بحار الأنوار ج٣ ص٧.
[٣] سورة الإنسان: ٢١.
[٤] بحار الأنوار ج٨ ص١١٣.
[٥] سورة آل عمران: ١٥٩.
[٦] بحار الأنوار ج٧٥ ص٣٥٦.
[٧] تحف العقول ج١ ص٤٤٢.
[٨] سورة الحجر: ٣٩.
[٩] سورة آل عمران: ١٤.
[١٠] سورة الحجرات: ٧.
[١١] عيون الأخبار ج٢ ص٣.
[١٢] روضة الواعظین ج٢ ص٤٢٠.
[١٣] بحار الأنوار ج٥١ ص٣٢٠.
خلاصة المحاضرة
• إن الإمام الرضا (عليه السلام) جاء من المدينة إلى نيشابور وطوى مسافة طويلة جداً ولكنه عندما أتى نيشابور التي هي أقرب المدن إلى أرض طوس؛ اجتمع حوله المحدثون ونادوه بابن رسول الله. أي أن صيت الإمام وشهرته قد وصلت إلى كل البقاع.
• في زمن الإمام الرضا (ع) وفي أيام الدولة العباسية؛ بدأت حركة الترجمات وحركة نقل الثقافات اليونانية والهندية وغيرها إلى الإسلام، وبدأت حركة الزندقة والإلحاد. لقد تصدى الإمام لهذه الحركات المختلفة. فتارة يناظر الجاثليق وأمثاله، وتارة يناظر من كان يخالفه في الرأي في الإمامة.