- ThePlus Audio
لمحات من سيرة الإمام الهادي (ع)
بسم الله الرحمن الرحيم
ومن المناسبات المهمة في شهر رجب شهادة الإمام علي بن محمد الهادي (ع). إن الإمام الهادي (ع) تسلم الإمامة في سن الثامنة وهو في المدينة المنورة، ولم يقع اختلاف في إمامته كما حدث ذلك في إمامة الرضا (ع) رغم كراماته الكثيرة ورغم نص الإمام موسى بن جعفر (ع) عليه بالإمامة من بعده.
ومما يستدل به على عظمة الإمام (ع) ما كتبه وكيل السلطة العباسية في المدينة أيام المتوكل إليه، حيث روي: (أَنَّ بُرَيْحَةَ اَلْعَبَّاسِيَّ كَتَبَ إِلَى اَلْمُتَوَكِّلِ إِنْ كَانَ لَكَ فِي اَلْحَرَمَيْنِ حَاجَةٌ فَأَخْرِجْ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ مِنْهَا، فَإِنَّهُ قَدْ دَعَا اَلنَّاسَ إِلَى نَفْسِهِ وَاِتَّبَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ)[١]. وهو وإن كان هذا تقريرا من طاغية إلى آخر وهو نص تاريخي قصير إلا أنه رغم ذلك يبين عظمة الإمام (ع) وموقعه في الأمة، وهو الإمام الذي انطبع في أذهاننا أنه إمام غريب محبوس في محلة العسكر في خان الصعاليك.
والحرمين عاصمة الإسلام على طول التاريخ، والذي كان يحتل هاتين المدينتين وكانت له سلطة على الحرمين، كانت له سلطة على قلب العالم الإسلامي آنذاك. فكان يرى الطاغية أنه لا تكتب له الأمور وفي المدينة علي بن محمد الهادي (ع). لقد قضى الله سبحانه أن يعيش الأئمة في السجون كالإمام الكاظم (ع) وأن يضعوا تحت الإقامة الجبرية كالرضا (ع) والجواد والهادي والعسكري (ع).
ثم وضع الإمام (ع) في خان الصعاليك. والصعلوك هو الفقير والمسكين. وكان بإمكان الطاغية العباسي أن يجعل الإمام (ع) في مكان يليق به، إلا أنه أنزله في خان الصعاليك إمعانا منه في إهانة الإمام (ع) وإسقاطه من أعين الناس. فقد كان للسلطة إمكانية وقدرات واسعة في إثارة الرأي العام وإظهار الأئمة (ع) بما لا يليق بشأنهم وأنهم لا وزن لهم ولا تراث ولا حسب ولا نسب. ولكن الإمام (ع) والأئمة من بعده وبتفويض من الله عز وجل صدرت منهم كرامات كثيرة كانت كفيلة بتثبيت مقاماتهم ومكانتهم في الأمة، ولتعويض هذا الوهن الذي نزل بهم.
فقد روي عن صالح بن سعيد أنه قال: (دَخَلْتُ عَلَى أَبِي اَلْحَسَنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ فِي كُلِّ اَلْأُمُورِ أَرَادُوا إِطْفَاءَ نُورِكَ وَاَلتَّقْصِيرَ بِكَ حَتَّى أَنْزَلُوكَ هَذَا اَلْخَانَ اَلْأَشْنَعَ خَانَ اَلصَّعَالِيكِ فَقَالَ هَاهُنَا أَنْتَ يَا اِبْنَ سَعِيدٍ ثُمَّ أَوْمَأَ بِيَدِهِ فَقَالَ اُنْظُرْ فَنَظَرْتُ فَإِذَا بِرَوْضَاتٍ آنِقَاتٍ وَرَوْضَاتٍ نَاضِرِاتٍ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ عَطِرَاتٌ وَوِلْدَانٌ كَأَنَّهُنَّ اَللُّؤْلُؤُ اَلْمَكْنُونُ وَأَطْيَارٌ وَظِبَاءٌ وَأَنْهَارٌ تَفُورُ فَحَارَ بَصَرِي وَاِلْتَمَعَ وَحَسَرَتْ عَيْنِي فَقَالَ حَيْثُ كُنَّا فَهَذَا لَنَا عَتِيدٌ وَلَسْنَا فِي خَانِ اَلصَّعَالِيكِ)[٢]، فأراه الإمام (ع) ما عوضه الله سبحانه عن الوهن الذي كان يتصوره صالح بن سعيد أصاب الإمام (ع).
وقد أراد الإمام الهادي (ع) أن يعلم الأمة درسا بليغا وهو تحمل عالم الغيب. لأن الإمام صاحب الزمان (عج) سيغيب عن الأنظار وسيفيض على الأمة كالشمس من وراء السحاب، فكان لا بد من تهيئة القواعد الشيعية على الإيمان بالغيب إيمانا حسيا مكثفا، حتم يتم الإعتقاد بالإمام الغائب (عج).
من الأمور الملفتة في حياة الإمام الهادي (ع) هو الحنان الذي كان يضفيه على محبيه، وكان يتعامل مع أصحابه معاملة الأخ الشفيق الرفيق الذي يتألم لكل ظلامة تحدث في الأمة، كما كان أمير المؤمنين (ع) يتألم لنزع خلخال من يهودية ذمية في بلاد المسلمين، وكذلك هو الإمام الحجة (ع) الذي يحيط علما بنا ولا يعزب عنه شيء من أخبارنا. فقد روي عن أبو هاشم الجعفري أنه قال: (أَصَابَتْنِي ضِيقَةٌ شَدِيدَةٌ فَصِرْتُ إِلَى أَبِي اَلْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَأَذِنَ لِي فَلَمَّا جَلَسْتُ قَالَ يَا بَا هَاشِمٍ أَيُّ نِعَمِ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكَ تُرِيدُ أَنْ تُؤَدِّيَ شُكْرَهَا قَالَ أَبُو هَاشِمٍ فَوَجَمْتُ وَلَمْ أَدْرِ مَا أَقُولُ لَهُ فَابْتَدَأَعَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَالَ رَزَقَكَ اَلْإِيمَانَ فَحَرَّمَ بِهِ بَدَنَكَ عَلَى اَلنَّارِ وَرَزَقَكَ اَلْعَافِيَةَ فَأَعَانَكَ عَلَى اَلطَّاعَةِ وَرَزَقَكَ اَلْقُنُوعَ فَصَانَكَ عَنِ اَلتَّبَذُّلِ يَا بَا هَاشِمٍ إِنَّمَا اِبْتَدَأْتُكَ بِهَذَا لِأَنِّي ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَشْكُوَ إِلَيَّ مَنْ فَعَلَ بِكَ هَذَا وَقَدْ أَمَرْتُ لَكَ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَخُذْهَا)[٣].
إن الإمام (ع) اتخذ مع أبي هاشم الجعفري أسلوب الوعظ غير المباشر، فقد جاءه الرجل بمشكلة مادية وأراد أن يشكو بثه إلى الإمام (ع) وبدل من أن يعالجه الإمام (ع) بأحاديث الصبر وما شابه ذلك، أراد أن يثقف أبا هاشم بالثقافة التربوية فجعله يتجاوز ما ألم به وأحزنه. لماذا تنظر إلى الأمور العدمية ولا تنظر إلى الأمور الوجودية كالأمان من النار والعافية والقناعة؟ أراد الإمام (ع) أن يتعالى المؤمن عن سفاسف الأمور.
وأما ابن السكيت وهو من تربية الإمام الهادي (ع) وهو من علماء اللغة الكبار وهو صاحب شخصية لا ينكر فضلها في الأدب العربي وهو علم من أعلامها، وكان يؤدب ولدي المتوكل. وقد دار حوار بينه وبين المتوكل العباسي الذي كان يظن أنه يستطيع أن يملك القلوب بالأموال، فقال له المتوكل: أيما أحب ابناي هذان أي المعتز والمؤيد أم الحسن والحسين (ع)؟ فبدأ ابن السكيت بدل المجاملة بذكر فضائل الحسن والحسين (ع) ثم قال للمتوكل: (والله إن قنبرا خادم علي بن أبي طالب خير منك ومن ابنيك)[٤]. وقد استشاط الطاغية غضبا فأمر بأن يسل لسانه من قفاه ويطرح على الأرض ويدوسوا في بطنه حتى استشهد رضوان الله عليه.
إن الذي وصلنا عن أئمة أهل البيت (ع) قليل جدا ولا يعكس أبدا حياتهم. ولكننا نأخذ عينات متفرقة ونشكل من خلاله البنيان العقائدي الذي يعكس لنا موقعهم في الأمة وعمق ارتباطهم بالله سبحانه وتعالى، وأسلوبهم في تربية المحبين والأنصار، وهذه الثقافة وهذا الاعتقاد هو ما يجعلنا نتفاعل معهم تفاعلا عاطفيا له ثمرته العملية، وإلا فإن مجرد البكاء والمدح والثناء الذي لا يستتبع عملا وحركة لا قيمة له في هذه الحياة.
خلاصة المحاضرة
- كان بإمكان المتوكل أن يجعل الهادي (ع) في مكان يليق به، إلا أنه أنزله في خان الصعاليك إمعانا منه في إهانة الإمام (ع) وإسقاطه من أعين الناس. فقد كان للسلطة إمكانية وقدرات واسعة في إثارة الرأي العام وإظهار الأئمة (ع) بما لا يليق بشأنهم وأنهم لا وزن لهم ولا تراث ولا حسب ولا نسب.