- ThePlus Audio
تفسير الآيات الأولى من سورة المؤمنون
بسم الله الرحمن الرحمن الرحيم
تفسير الآيات الأولى من سورة المؤمنون
قال تعالى في مستهل سورة المؤمنون: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ)[١].
إن هذه الآيات المعبرة – على وجازتها – تبين استراتيجية المؤمن في الحياة حتى يرث الجنان؛ أي ترسم للمؤمن خارطة طريق إلى اللانهاية وإلى الخلود. وهي آيات مكية، والآيات المكية لا تتناول عادة تفاصيل الشريعة.
إن أول كلمة تواجهنا في هذه الآيات هو قوله تعالى: (قد أفلح). وهذه الكلمة مأخوذة من الفلح أي الشق. ولذلك سمي الفلاح فلاحا لأنه يشق الأرض بالمحراث. وأما كلمة (قد) فهي للتحقيق واستعمال الفعل الماضي فيه تأكيد أيضا. وإذا استعملنا صيغة المبالغة تصبح الكلمة: فلاح. والمؤمن فلاح. ونلاحظ في الأذان قد وردت هذه العبارة مرتين: حي على الفلاح.
ما هو وجه الشبه بين المؤمن والفلاح؟
إن المؤمن من أكبر الفلاحين والمزارعين. ولا أقول أنني أتكلف في إيجاد وجه الشبه بين المؤمن والفلاح ولكن هناك شبه في الواقع بينهما. أولا: ينبغي للفلاح أن يغتنم الفصول المناسبة للزراعة، فإذا بذر البذور في الأجواء التي تميت الحرث والنسل؛ سوف لن يحصد شيئا حتى وإن كانت بذوره من أجود البذور وكان الماء ماء دجلة والفرات وماء النيل. كذلك هو المؤمن يتربص بالفصول والمواسم المناسبة كشهر رمضان وموسم الحج وشهري محرم وصفر.
وهناك شبه بين شهري شوال وربيع الأول حيث يأتيان وقد أغلقت الحسينيات والمآتم أبوابها إلا ما شذ وندر. فهما شهران أعجفان من حيث التوجه إلى الله سبحانه إلا أن يدرك المؤمن شهري رجب وشعبان ولا ضامن من أين يقوم فيهما بما ينبغي له. ففي الربيعين والجماديين تقل التوفيقات من جهة الصيام ومن قلة المناسبات التي تحث المؤمن على القيام بالواجبات.
والمؤمن كالفلاح من حيث المراقبة. إن الفلاح يراقب زرعه منذ أول يوم يبذر فيه البذور إلى يوم الحصاد. فلو قطع الفلاح الماء عن زرعه لجف الزرع ولو كان من أفضل الأنواع وأجود المنتجات. وقد تحرق نظرة واحدة من مؤمن في غير محلها موسم حصاد بأكمله. فقد روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (إِنَّ اَلرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لِيُضْحِكَ بِهَا جُلَسَاءَهُ فَيَهْوِي بِهَا أَبْعَدَ مِنَ اَلثُّرَيَّا)[٢]. قد يأتي من الحج وعليه نور الحج ولكنه يبيعها بنظرة في السوق مريبة أو بكلمة مريبة. يبكي على مصاب أهل البيت (ع) بما لو جمع تلك الدموع لملأ بها قارورة ولكنه سرعان ما يضيعها، فهو في ذلك كالزارع الذي قطع الماء عن زرعه فأصبح هشيما تذروه الرياح. وقد يلاحظ البعض في البلاد الزارعية وجود منزل صغير في وسط المزرعة للفلاح يبيت فيه ليلا ونهارا وصيفا وشتاء خوفا على زرعه والحال أن له بيتا مريحا وسكنا دافئا.
ثم لا نسبة بين ما يقوم به الفلاح من زرع وحرث وبين ما يحصده. كما يقول سبحانه: (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ)[٣]. وفي أيامنا هذه أصبحت الزراعة من أسهل ما يكون؛ حيث يقوم الفلاح من خلال الأدوات الحديثة بحرث الأرض وإلقاء البذور ثم يفتح الماء عليها ويذهب إلى البيت ليستريح، ثم يقوم الله سبحانه بإخراج الزرع والنبات من هذه الأرض نباتا شتى يسقى بماء واحد، فهو رأى من الفلاح حركة وسعيا فبارك في سعيه. وكذلك هو المؤمن ما عليه إلا أن يسعى من دون التفكير في النتائج. لا يقل: كيف أنجو من هذا الوضع الذي أنا فيه؛ كالشاب الذي ذهب إلى بلاد الغرب للدراسة فأحاط به الفساد من كل حدب وصوب ووصل إلى حد اليأس. وإنما ينبغي له أن يعلم أنه كالفلاح ما عليه إلا أن يلقي البذور في الأرض وستأتي البركة من الله سبحانه.
وكما ألا نسبة بين عمل الفلاح وإنتاجه؛ كذلك لا نسبة بين عمل المؤمن في هذه الحياة وسعيه وبين نجاحه. فقد روي في حديث قدسي: (إِذَا أُطِعْتُ رَضِيتُ وَإِذَا رَضِيتُ بَارَكْتُ وَلَيْسَ لِبَرَكَتِي نِهَايَةٌ)[٤]. ومن الأمثلة على هذه البركة ما قام به مؤلف الكتاب الجليل مفاتيح الجنان الشيخ عباس القمي رحمه الله الذي بقي حيا خالدا من خلال هذا الكتاب التي انتشرت الملايين من نسخه في شرق الأرض وغربها. وباعتقادي أن هذا الكتاب سيبقى إلى ظهور الحجة (ع)؛ فطالما جاء المؤلفون بعده بكتب الأدعية فلم تنتشر كتبهم كما انتشر هذا الكتاب وهذه البركة التي لا نهاية لها. تذهب إلى المشاهد المشرفة فتسحب كتابا وإذا به القرآن الكريم فترجعه إلى مكانه لأنك تبحث عن مفاتيح الجنان، وقد تخلو بعض البيوت من القرآن ولكنها لا تخلو من المفاتيح.
ومن وجوه الشبه بين الفلاح والمؤمن. أن الفلاح للحفاظ على جودة الإنتاج يحاول التخلص من الآفات ويحذر كل الحذر من أسراب الجراد التي تجعل الزرع كالهشيم المحتظر. وكذلك المؤمن؛ يهتم بإزالة الموانع كما يهتم بإيجاد المقضيات.
من هو المؤمن؟
إن القرآن الكريم والرويات الشريفة أكدت كثيرا على كلمة المؤمن، والقرآن الكريم يخاطب المؤمنين في كثير من آياته، ولكن من هو المؤمن؟ هناك تعبير جميل من أحد المفسرين، يقول: إن المؤمن هو الذي اعتقد بالمبدأ والمعاد مع الإلتزام بلوازم هذا الاعتقاد. والاعتقاد بالمبدأ هو الاعتقاد بالنبوة والإمامة والعدل مع عدم إهمال للوازم هذا الاعتقاد. فعلى سبيل المثال، قد يحب المرء حزبا من الأحزاب ويروج له نظريا ولكنه لا يمت إليه بصلة ولا يدعمه ولا ينخرط في صفوفه فلا يكون بذلك مؤمنا بهذا الحزب. والذي ينتمي إلى الله سبحانه وتعالى لا بد وأن يلتزم بلوازم هذا الاعتقاد في الجملة. وإنما قيل: في الجملة، لكيلا يدب اليأس في قلب المؤمن إن زلت به القدم يوما، لأنه قد بنى اعتقاده على الإلتزام. ومن آثار الإيمان السكينة والوقار والاطمئنان وهدوء البال. ولذلك من يؤمن بالله واليوم الآخر ينقلب سلوكه رأسا على عقب.
الخشوع في الصلاة
إن أول خصوصية تذكرها هذه الآيات من خصوصيات المؤمن هي خصوصية مستحبة لا واجبة. فلم يذكر في أول هذه الخصوصيات المحافظة على الصلوات، وإنما ذكر الخشوع فيها. فالمحافظة على الصلوات كما قيل: أدائها في أول وقتها ولهذا جمع الصلاة فقال: على صلواتهم ولكنه في الخشوع قال سبحانه: في صلاتهم. والخشوع من عمل القلب وله آثاره على الجوارح. ولا يجب الخشوع في الصلاة فقهيا، ولو أفتى فقيه بوجوب الخشوع في الصلاة لكان على أكثر الخلق إعادة صلواتهم وهذا ما لم يقل به فقيه على طول التاريخ.
والخشوع في الصلاة كاشف عن رصيد باطني، وأعظم به من رصيد..! وقد استعمل القرآن الكريم اسم الفاعل فقال: خاشعون، ولم يقل: يخشعون، للدلالة على الثبوت والدوام وهذه من دقائق التعابير. فهو لا يخشع في فريضة أو فريضتين وفي يوم أو يومين وإنما هذا ديدنه وهذه عادته في جميع صلواته.
ولو وُجد إنسان يستطيع أن يحيي الموتى بدعاء أو كلمة كأن يقول: يا حي يا قيوم، فيخرج الميت من قبره ولكنه لا يخشع في صلاته فلا قيمة لهذا الإنسان الذي يحيي الأموات ولكنه يسهو في الصلاة وتعتريه الغفلة وإن كان في فعله ودعائه بركة. وهب أنه من المجاهدين أو من المنفقين أو من المعلمين الذين يعلمون الناس – وبتعبير الروايات – يصبح جسرا للعبور ثم هو يسقط في الهاوية في نهاية المطاف، فلا قيمة لأعمال هؤلاء.
والخشوع في الصلاة يكشف عن مدى ارتباط الإنسان بالله سبحانه وتعالى. وقد يذهب البعض من الناس يمينا وشمالا ويبحثون عمن تظهر عليه شيء من آثار التقوى ليخبرهم بباطنهم وبصورهم الحقيقية هل هم بشر أم حيوانات، والحال أنه يكفي النظر إلى القلب. فإذا أردت أن تعرف ما لك عند الله؛ فانظر ما لله عندك. وهي عملية بسيطة لا تحتاج إلى الكشف والشهود والمنامات وما شابه ذلك.
الإعراض عن اللغو
ثم يذكر سبحانه صفة أخرى وهو قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)[٥] وإذا لم نفسر الآية بالغناء والموسيقى فتكون هذه الصفة هي الأخرى من الصفات المستحبة لا الواجبة. فقد أطلق بعض المفسرين القول في هذه الصفة. والقرآن الكريم دقيق في وصفه، فلم يقل سبحانه للغو تاركون وإنما قال: معرضون. وقد يكون السبب في ذلك: أن الإنسان قد يترك اللغو ولكن يتمناه ويميل إليه فيجبر نفسه على تركه؛ كأن يترك سفرة لاهية أو فيلما باطلا أو ما شابه ذلك لموعظة سمعها أو خطبة جمعة حضرها أو بدعاء أو صلاة وهو إن كان أمرا حسنا إلا أنه في بداية الطرق لأنه إن نسي هذه المواعظ يوما وأحاطت به جماعة فاسدة انحرف معها ومال إليها ولذلك نرى بعض الزلل والأخطاء الفاحشة التي يبتلى بها بعض المؤمنين الذين قد ينقلبون رأسا على عقب بسفرة إلى بلد أجنبي حتى كأنه لم يكن يوما في بلاد المسلمين، فيتبين أن تركه للغو كان بتأثير من البيئة ولخوف من الناس أو لدواع أخروية ولكنه لم يعرض عن اللغو كما ينبغي.
إن الإعراض عن اللغو يحتاج إلى بلوغ؛ فهل رأيتم من يعظ امرأة كبيرة بعدم اللعب مع الدمى؟ إنما يوعظ الطفل الصغير بهذه الموعظة فالمرأة الكبيرة أصبحت فوق أن توعظ بهذا. ينبغي للمؤمن أن يصل إلى البلوغ لا فقط من خلال الموعظة والخطب الأخلاقية وإنما عليه أن يتعالى عن سفاسف الأمور فلا يجلس لساعات أمام التلفاز لمشاهدة ما لا يعود عليه بالنفع في دنياه ولا آخرته حتى وإن كان ما يشاهده محللا. فكما يقول العلماء في وصف اللغو: هو كل ما لا طائل تحته ولا نفع للإنسان فيه. وهذا لا يحتاج فيه الحث من الشارع وإنما العاقل تكفيه الإشارة.
مصاديق اللغو
وأما مصاديق اللغو فهي نسبية، فقد يكون الأمر لغوا للرجل ولكنه مفيد للمرأة. فمشاهدة برامج الطبخ وما شابه قد تكون مفيدة للمرأة وليست من صور اللغو ولكنها للرجل الذي يكتفي بالأكل هي برامج لاغية. وقد يهتم بعض المؤمنين بعادات الشعوب وتقاليد بعض المجتمعات التي ينبغي أن يتعالى عنها المؤمن الذي كرمه الله بالإسلام ولا يجعل نفسه في دائرة واحدة مع الكفار والملحدين. فينبغي للمؤمن أن يبحث بدقة عن اللغو في حياته. ويقول بعض العلماء: أن هناك مناسبة بين هذه الآية والتي قبلها؛ أي الذي يقبل على اللغو لا يقبل على الله في صلاته ولا يخشع فيها. أيتوقع الخشوع في الصلاة من أمضى ساعات قبل الصلاة في اللغو؟ وكأن الأمر بيد المرء، فيقول لله سبحانه: أقبل علي في الصلاة واذهب عني بعد الصلاة. وقد قيل: جل جناب الحق أن يكون شريعة لكل وارد.
فعل الزكاة
وقال سبحانه بعد ذلك: (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ)[٦] ولم يقل سبحانه: مؤدون. ففاعلون هو تعبير أبلغ من أداء الزكاة. وهذه الآيات كما ذكرنا هي مكية والزكاة قد شرع في المدينة، وقد أجاب العلماء عن ذلك: بأن الزكاة هنا بمعناه العام؛ أي الإنفاق في سبيل الله عز وجل. بل ذهب البعض من العلماء: إلى أن المراد هنا التزكية للنفس ولا داعي لهذا التكلف فالمراد هو الإنفاق في سبيل الله عز وجل. وقد يكون السبب أن الذي يزكي ويدفع من ماله للفقراء فهو يخلصهم بذلك من الفقر والفقر والحاجة وتراكم الديون وفقدان السكن والسكون وفقدان الكفاف قد تكون من موانع الإقبال على الله سبحانه. والذي لا معاش له لا معاد له، فينبغي للمؤمن أن يلغي جميع المشوشات في حياته. ولذلك روي عن ابن عباس أنه قال: (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ إِذَا نَظَرَ إِلَى اَلرَّجُلِ فَأَعْجَبَهُ قَالَ لَهُ حِرْفَةٌ فَإِنْ قَالُوا لاَ قَالَ سَقَطَ مِنْ عَيْنِي قِيلَ وَكَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ قَالَ لِأَنَّ اَلْمُؤْمِنَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حِرْفَةٌ يَعِيشُ بِدِينِهِ)[٧].
وقد يكون للرجل ما يكفيه من الأعمال والوظائف أو المحلات التجارية الصغيرة أو الكبيرة ولكنه يظل يبحث عن مشروع هنا وهناك حتى يوقع نفسه في المهالك وتتراكم عليه الديون؛ فيصلي وفكره منشغل بالشيكات المرتجعة وفي المصارف التي استقرض منها والتي قد لم يراعي فيها المسائل الشرعية فوقع في الربا من جراءها، وقد تقع بينه وبين الآخرين مشاكل ويستقر به المقام في نهاية المطاف في السجن ذليلا وقد كان عن كل هذا غنيا. إن المؤمن يأخذ من الدنيا بمقدار ما يعينه على أمر آخرته.
خلاصة المحاضرة
- ينبغي للفلاح أن يغتنم الفصول المناسبة للزراعة، فإذا بذر البذور في الأجواء التي تميت الحرث والنسل؛ سوف لن يحصد شيئا حتى وإن كانت بذوره من أجود البذور وكان الماء ماء دجلة والفرات وماء النيل. كذلك هو المؤمن يتربص بالمواسم المناسبة كشهر رمضان وموسم الحج وشهري محرم وصفر.
- إن الفلاح يراقب زرعه منذ أول يوم يبذر فيه البذور إلى يوم الحصاد. فلو قطع الفلاح الماء عن زرعه لجف الزرع ولو كان من أفضل الأنواع وأجود المنتجات. وقد تحرق نظرة واحدة من مؤمن في غير محلها موسم حصاده المعنوي كالحج والعمرة والزيارات والصيام بأكمله.