- ThePlus Audio
هل يُمكن معالجة الكذب؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الكذب والكاذبون
من الصفات السلبية التي لا يتصف بها المؤمنون وهي كانت منذ خلق الله الأرض ولا زالت من الصفات السلبية؛ مسألة الكذب سواء في الاعتقادات أو في التعامل مع سائر الأفراد.
ولا بأس قبل الدخول في الحديث أن نقوم بجرد لأنواع المعاصي سواء الكذب أو الغيبة أو البهتان أو سوء الظن أو غيرها لنتعرف على هيكلية الذنوب، وهي بدورها تساعدنا كثيرا على استيعاب ماهية المعاصي وكيفية معالجتها. إن المعاصي إما أن تكون قلبية جوانحية وإما أن تكون جوارحية.
والمعاصي الجوانحية تنقسم إلى قسمين: المعاصي الاعتقادية؛ كاعتقاد شريك لله عز وجل أو عدم الاعتقاد بعصمة الأنبياء والأئمة (ع)، فهي وإن لم تكن لتظهر على جوارح الإنسان إلا أنها من كبائر المعاصي. فقد كان المنافقون في صدر الإسلام يظهرون الإيمان ويستبطنون الكفر وهم والكفار سواء بل قد يفوق عقابهم عقاب الكفار الصريخين في الكفر، وقد قال عنهم سبحانه: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا)[١]، وهناك المعاصي القلبية الأخلاقية، من استبطان الحسد والحقد والتكبر وسوء الظن وغيرها من الهواجس الباطلة التي تعتري قلب الإنسان.
وقد اختلف العلماء في كونها معصية يعاقب عليها الإنسان، فقد ذهب البعض إلى أنها لا تكون معصية ما لم تظهر على سلوك الإنسان وما دامت هواجس قلبية ليس إلا، ومع ذلك يعتقد البعض من العلماء أنها بمثابة الدخان الذي وإن لم يحرق إلا أنها يلوث المكان الذي يحل به، ولك أن تتصور ما يفعل إطار مشتعل في منزل فاره جميل..! ومهما حاول الإنسان كتم مشاعر الحسد والحقد وسوء الظن فإنها ستظهر في فلتات لسانه أو صفحات وجهه.
المعاصي غير اللسانية
ويمكن تقسيم المعاصي الجوارحية إلى قسمين؛ القسم الأول؛ المعاصي اللسانية، ومعاصي غير اللسانية. وسيتضح فيما بعد لماذا أفردنا المعاصي اللسانية عن غيرها. أما المعاصي غير اللسانية فهي تحتاج إلى عدة عناصر حتى يتمكن الإنسان من ارتكابها؛ فالذي يهم بالزنا لا بد وأن يبحث عمن يرتكب معه هذه الفاحشة، ويحتاج إلى متابعة وموافقة وإيجاب من الطرف المقابل ولا بد له من خلوة يجتمع فيها معها، ثم لا يكون هناك مانع ورادع قانوني أو أخلاقي أو بيئي حتى تتم هذه المعصية في نهاية المطاف. وكذلك الأمر في شرب الخمر والقتل، وغير ذلك. ولو فقد عنصر من هذه العناصر لا يوفق الإنسان لتلك المعصية.
كيف يحول الله عز وجل بين العبد والمعاصي؟
ولذا يقال في معنى التوفيق للعبد من قبل الله تعالى: أن الله عز وجل قد يحول بين المرء وبين المعصية التي يهم بها. فتراه لحسنة من حسناته؛ من قيام ليلة أو صيامة يوم أو صلة رحم وإقامة صلاة في جماعة يصرفه الله تعالى عن تلك المعصية أو الفاحشة التي كان ينوي ارتكابها بحكمته، كما فعل ذلك مع النبي يوسف (ع): (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ)[٢] رأفة بعباده ورحمة بهم ولكن هذه الهداية والحيولة دون العبد والمعاصي لا تأتي جزافا بل هي تتبع قوانين محكمة، ولا بد للعبد من تهيئة مقدمات هذه العناية الإلهية، فالنبي (ص) رغم أنه كان مسددا من قبل الله عز وجل في جميع حروبه وغزواته إلا أنه كان يتبع الأسباب الطبيعية الموجبة للنصر، ففي معركة بدر قام النبي (ص) بوضع الجيش قرب بئر بدر، وقام ببعض التدابير الأخري، ثم جاء المدد الإلهي وأمدهم الله عز وجل بجند من السماء.
خطورة المعاصي اللسانية
وهنا لا بد أن نبين علة تقسيمنا المعاصي إلى لسانية وغير لسانية. ونقول: إن اللسان لا يحتاج للكلام إلى كثير معاناة وتعب، فتكفي الإرادة لتجري الكلمات على هذا اللسان. ولذلك تسهل المعاصي اللسانية لعدم احتياجها لاجتماع عناصر كما تحتاج المعاصي غير اللسانية كما ذكرنا ذلك آنفا.
والأمر الآخر في علة انتشار المعاصي اللسانية؛ عدم استنكارها من قبل المجتمع كما يستنكرون المعاصي غير اللسانية كالزنا والقتل والسرقة والضرب والجرح. فلا يستقبحون الكذب والغيبة والبهتان وإساءة الظن بالآخرين كما يستقبحون القتل، لأن القتل فيه سفك للدماء فآثاره ظاهرة بخلاف الكلام الذي هو مجرد أمواج صوتية. وقد قيل لأحد المراجع: إن فلانا يذكرك بسوء. فقال: ما الكلام إلا أمواج صوتية لا تقدم ولا تؤخر شيئا وإنما أخشى أن يتحول الكلام إلى الضرب فذلك الذي لا أتحمله…! وإن كانت آثار بعض هذه الكلمات آثار خطيرة وقد قال سبحانه: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ)[٣].
تعريف الكذب وكيفية الخلط بين الكذب والصدق
وسنتناول في حديثنا هذا معصية من المعاصي اللسانية الخطيرة؛ إلا وهو الكذب. ولا بد من تعريف لهذه المعصية قبل الخوض في التفاصيل. الكذب بتعريف علمي دقيق؛ إخبار عن شيء أو لوازم الشيء بما يخالف الواقع كليا أو جزئيا. فإما أن تخبر عن الشيء بالدلالة المطابقية فتقول: فلان إنسان بخيل وهو ليس ببخيل، أو بالدلالة الالتزامية، فتخبر عن فقره وأنه لا ينفق على عياله وهو قد يكون أمرا واقعا إلا أنك تريد أن تثبت بخله، والحال أنه لا ينفق على عياله لقلة ذات يده.
إن الإنسان عادة ما يمزج بين الحلال والحرام وبين الكذب والصدق فيأخذ من هذا ضغثا ومن ذلك ضغثا، فيشوش على المستمع. فتراه يذكر جانبا كبيرا من الحقيقة ثم يضيف من عنده بعض الأكاذيب ليثير الخلاف بين الزوجين على سبيل المثال. وأكثر من يقوم بذلك هم القنوات والصحف؛ حيث يذكرون ما يقارب التسعين بالمائة من الحقائق ليمرروا عشرة بالمئة من أكاذيبهم؛ ويعتبرون ذلك مهارة ويتقاضى الصحفي الأقدر على مزج الكذب بالصدق الأجور العالية منهم.
المبالغة والتهويل
فقد يكون الكلام بكله كذبا وقد يشاب بالكذب. وقد يكون الكلام صادقا ولكن في شيء من المبالغة والتهويل؛ فترى الإنسان يعاني من مشكلة مع زوجته أو جاره أو صديقه أو يحمل صفة سلبية فيأتي من يهول الأمر ويبالغ في وصف هذه المشكلة، فهو وإن لك يكن كاذبا إلا أنه يبالغ في الأمر بما لا يستحقه. وقد يكون البعض لسناً ذو بيان بديع وفصاحة فلا ينبغي استغلال هذه النعمة إلا في قضاء الحوائج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاح ذات البين لا في المبالغات وتخريب العلاقات. وقد يعرف البعض بأنه يبالغ في الوصف مما يجعل الناس لا يصدقونه في كثير من التفاصيل فيشبه ذلك الكذب في بعض نواحيه.
الكذب والفطرة السليمة
إن الكذب يخالف الفطرة السليمة، ولذلك لا ترى الأطفال في السنوات الأولى من حياتهم يكذبون حتى اشتهر في الناس؛ أن إذا أردت الصدق فأخذه من الأطفال، وإذا سألت الولد عن وضعهم العائلي والمعيشي مثلا فسيجيبك بكل صدق ووضوح، ولكن المدرسة وسوء تربية الوالدين وعدم وفائهم بما يعدان الأطفال به يغير من هذه الفطرة عند الأطفال ويجعلوهم يجانبون الصدق أحيانا، وقد ورد في روايات أهل البيت (ع): (قَالَ رَجُلٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ اَلْمُؤْمِنُ يَزْنِي قَالَ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ قَالَ اَلْمُؤْمِنُ يَسْرِقُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ قَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ اَلْمُؤْمِنُ يَكْذِبُ قَالَ لاَ قَالَ اَللَّهُ تَعَالَى: إِنَّمٰا يَفْتَرِي اَلْكَذِبَ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ)[٤]. فقد تجر الشهوة الإنسان إلى ممارسة الفاحشة ولكن الكذب مخالف للفطرة تماما.
دواعي الكذب
من دواعي الكذب جذب المصلحة. كتاجر يكذب ليسوق لبضاعته الكاسدة، فيقسم أنه اشترى البضاعة بالسعر الفلاني وسيبيعك بنفس السعر من دون أي ربح وهو كاذب فيما يدعي. والحال أن الروايات تؤكد على أن الكذب ينقص من رزق الإنسان. أو يريد أن يكون وجيها في الناس فيكذب ويبالغ في ذلك ليجذب الناس إليه؛ كبعض من يسمون بالعرفاء والصلحاء الذين يكذبون في رؤية المعصومين في مناماتهم ترويجا لنفسه ولمأتمه ولخطيبه، أو تراه قد رأى شخصية جليلة في منامه فيدعي زورا أنها المعصوم الفلاني، وهو مما يعاقب الإنسان عليه خاصة إذا ارتبطت هذه الأكاذيب بالمعصومين (ع)، وهناك من ينسب أقوالا غير دقيقة للمعصومين (ع) في تقييم بعض الأشخاص أو الاتجهات والحال أن المنامات لا يعول عليها.
من دواعي الكذب؛ دفع المفسدة. كالخادمة أو الطفل الذي يكذب إذا كسر زجاجة ما في المطبخ دفعا للعقوبة والعتب. وإن كانت الروايات تجوز الكذب لدفع المفسدة العظيمة كحفظ النفس وصون الدماء والأعراض، وهناك موارد أجاز فيها الشارع الكذب فهي شريعة سمحة ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام. أما الموارد التافهة كدفع عتب الزوجة أو غضبها فهو مما لا يسمح به الشرع.
التورية بدل الكذب
هذا وباب التورية مفتوح أمام الإنسان إن اضطر في موقف من المواقف، وقد ذكر القرآن الكريم نماذج من ذلك. فإبراهيم (ع) كان متهما بكسر الأصنام، وقد استعمل التورية فقال: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)[٥]؛ أي إذا كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم، فكبيرهم لم يفعل شيئا لأنهم بطبيعة الحال جماد لا ينطقون. ويوسف (ع) قد استعمل التورية في قوله: (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ)؛ ولم يكن يقصد أنهم قد سرقوا صواع الملك وإنما سرقوا يوسف (ع) من أبيه.
ومنها ما حكاه سبحانه عن إبراهيم (ع): (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ)[٦]، وقد فسر ذلك على أنه كان سقيما اعتقاديا يحتاج إلى برهان ودليل، لا سقيما جسديا. وينبغي للمؤمن أن يكون دقيقا في كلماته فبدل أن يقول لاضربنك يقول له افترض أنني سأضربك كنوع من أنواع التورية والتحايل في الكلام، كما كان دأب بعض علماؤنا فهو يحذر من الجزم بالضرب خوفا من أن يكون وعدا كاذبا؛ إن لم يكن يريد ضربه أصلا. وبإمكان الإنسان أن يستعمل أسلوب التورية ولكن ليس كثيرا حتى يعرف في الناس أنه إنسان لا يمكن الاطمئنان إلى حديثه، فتتزعزع ثقة الناس به ويعامل معاملة الكاذب والعياذ بالله.
التشفي والانتقام
من دواعي الكذب؛ التشفي والانتقام. فقد يلفق البعض أحاديث وافتراءات على الذي حصلت بينه وبينه مشكلة أو وقعت بينهما عداوة من أجل إسقاطه من أعين الناس، والافتراء أعظم من الغيبة حيث في الافتراء يوجد الكذب إلى جانب الغيبة. وقد يشتكي البعض من وجود أعداء وحساد لهم في العمل، ونقول لهؤلاء: أوكل أمرهم إلى الله عز وجل الذي وعد الدفاع عن المؤمنين حيث قال: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)[٧]، وإن لزم الأمر إرم الفسقة منهم بسهم من سهام الليل وبدعاء العقمي الذي يقرأ بعد زيارة عاشوراء، ولا ينبغي أن يدعى أو يقرأ هذا الدعاء على المؤمنين فهو دعاء يذر البلاد بلاقع وإنما يكفي أن يطلب للمؤمن طلب الهداية من الله عز وجل.
وإن استطعت أن تدفع العداوة بالمعاملة الحسنة فهو خير لك، وقد قال سبحانه: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[٨]. وقد روي: (إِنَّ رَجُلاً مِنْ وُلْدِ عُمَرَ بْنِ اَلْخَطَّابِ كَانَ بِالْمَدِينَةِ يُؤْذِي أَبَا اَلْحَسَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ويَشْتِمُ عَلِيّاً عليه السلام، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ حَاشِيَتِهِ: دَعْنَا نَقْتُلْ هَذَا اَلرَّجُلَ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَشَدَّ اَلنَّهْيِ، وسَأَلَ عَنِ اَلْعُمَرِيِّ فَقِيلَ: إنّه يزرع بِنَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي اَلْمَدِينَةِ. فَرَكِبَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَهُ فِي مزرعة [له] فَدَخَلَ اَلْمَزْرَعَةَ بِحِمَارِهِ، فَصَاحَ بِهِ اَلْعُمَرِيُّ: لاَ تُوطِئْ زَرْعَنَا، فَتَوَطَّأَهُ أَبُو اَلْحَسَنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِالْحِمَارِ حَتَّى وَصَلَ إِلَيْهِ فَنَزَلَ وجَلَسَ عِنْدَهُ وبَاسَطَهُ وضَاحَكَهُ، وقَالَ لَهُ: «كَمْ غَرِمْتَ فِي زَرْعِكَ هذا؟». فقال: مائة دينار. قَالَ: «وكَمْ تَرْجُو أَنْ تُصِيبَ؟» قَالَ: لَسْتُ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ. قَالَ: «إِنَّمَا قُلْتُ لَكَ: كَمْ تَرْجُو». فقال: «أرجوا أن يجيئني فيه مائتا دينار». قَالَ: فَأَخْرَجَ لَهُ أَبُو اَلْحَسَنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ صُرَّةً فِيهَا ثَلاَثُمِائَةِ دِينَارٍ، وقَالَ: «هَذَا زَرْعُكَ عَلَى حَالِهِ واَللَّهُ يَرْزُقُكَ فِيهِ مَا تَرْجُو». فقام العمري فَقَبَّلَ رَأْسَهُ وسَأَلَهُ أَنْ يَصْفَحَ عَنْ فَارِطِهِ، فَتَبَسَّمَ أَبُو اَلْحَسَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ وانصرف، ثمّ راح إِلَى اَلْمَسْجِدِ فَوَجَدَ اَلْعُمَرِيَّ جَالِساً فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ قَالَ: اَللّٰهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته)[٩].
الرغبة في الثرثرة
من دواعي الكذب الرغبة في الثرثرة. فالبعض لا يستطيع أن يلتزم الصمت ساعة، ويشعر بالاختناق إن بقي لفترة صامتا. وقد ورد في الروايات الشريفة: (مَنْ كَثُرَ كَلاَمُهُ كَثُرَ خَطَؤُهُ وَمَنْ كَثُرَ خَطَؤُهُ قَلَّ حَيَاؤُهُ وَمَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ وَمَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ وَمَنْ مَاتَ قَلْبُهُ دَخَلَ اَلنَّارَ)[١٠]. فلذلك لا ينبغي إطالة الجلوس في المجالس عند زيارة المؤمنين، فإذا تناولت الشاي والعشاء حاول أن تغادر سريعا، فقد نرى البعض يتكلف الحديث في المجالس ولا يدري ما يقول، والحال أنه لو زار ثلاثة مؤمنين في ليلة لمدة قصيرة كان خيرا له من الجلوس الطويل الثقيل عند واحد منهم.
وأكثر ما نلاحظ ذلك في النساء؛ حيث لا تدع هموم العمل والديون أن يتكلم كثيرا والبعض يكتم ما به رغم همومه الشديدة، ولكن البعض من النساء اللواتي لا هم لهن ولا ما يشغلهن، قد تأخذ الهاتف وتتحدث إلى صديقاتها الساعة والساعتين في حديث لو أخذت عصارته لا تكاد تخرج منه إلا بجملة نافعة واحدة والباقي هذر في الكلام وثرثرة غير ضرورية.
علاج الثرثرة وكثرة الكلام
وقد يكون الداعي إلى الثرثرة الفراغ الفكري والخواء الباطني. فلو بدأت بقراءة كتاب عميق ككتب الشهيد الصدر رحمه الله تعالى، ترى أنك بعد مضي فترة من القراءة في انشغال فكري مع ما يطرحه الكاتب من أفكار وتتفاعل مع ما تقرأ من كلمات ومعلومات، فتصبح لديك رغبة في الحديث عن ذلك الموضوع الذي تقرأه وقد شغل ذهنك، ولذلك يغلب على مراجعنا وعلماؤنا الصمت، لأنهم منشغلون في المسائل الشرعية، التي تطرح عليهم ولا مجال لهم في الخوض في الأحاديث اللاغية، وقد نلاحظ بعض المؤمنين لا يرغب في الحديث بعد قراءة بعض الأدعية كدعاء كميل لما يعيشه من أجواء روحية لا يرغب في الانتقال عنها وتساعده على التفكير والتدبر.
حب نقل الأخبار والأنباء من دون تثبت وتبين
من دواعي الكذب، حب نقل الأخبار والأنباء من دون تثبت وتبين. والبعض من الناس وكالة أنباء بمفرده؛ ينقل كل ما يصل سمعه من كلام سخيف أو مهم. وقد روي عن الصادق (ع): (كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِباً أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ)[١١]، فإذا كان هناك إناء نجس على سبيل المثال بين خمسة أوانٍ لا بد من اجتنباها جميعا وكذلك إذا كانت هناك نسبة مئوية معينة في أن الكلام يحتمل الكذب فلا ينبغي نقله. وإذا نقله أصبح كاذبا جملة لا تفصيلا.
علاج الكذب
وأما بالنسبة للحديث عن علاج هذه المعصية أن نلتفت إلى أن الكلام الإنسان من أفعاله؛ فكما أن ضرب الرجل زوجته أمر مشين وكذلك الكلام يمكن أن يكون مشينا ومسيئا، وقد قال الشاعر:
جِراحات السِّنانِ لها التِئامٌ *** وَلا يلتامُ ما جَرَحَ اللسانُ[١٢]
فقد يتذكر المرء كلمة سوء قيلت بحقه ثلاثين سنة أو أكثر وكلما ذكرها انتفخت أوداجه ويتمنى الفتك بقائلها، ولكنه ينسى جرحا أو كسرا في حادث سير بعد التيامه. وقد قال سبحانه: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[١٣]، وكذلك الله سبحانه من ورائهم شاهد على ما يصدر من الإنسان، فلا بد أن يرى نفسه في محضر الله عز وجل، ولا يتفوه بكل رطب ويابس.
وينبغي الاحتياط كثيرا قبل الحديث عن أي شيء وخصوصا القضايا الحساسة من قبيل تقييم شخص هو ند للإنسان أو بينهما علاقة مضطربة، فليعلم أن الله رقيب على كل كلمة يتفوه بها، ونحن نرى بعض السياسيين يختار الكلمات اختيارا لئلا يقع في مأزق من المآزق والمؤمن لا بد أن يكون كذلك في اختيار الكلمات خصوصا في تقييم الآخرين.
الابتعاد عن الحديث في المجالس العامة
وكذلك ينبغي الابتعاد عن طلب الشهرة وتصدر المجالس. فالبعض يرى نفسه ملزما بالحديث في المجالس والنوادي، والحال أن الله سبحانه قد أعطى البشر أذنين في مقابل لسان واحد؛ حتى يسمع ضعف ما يتكلم. ولا بد أن يقيم الإنسان نفسه هل يصلح للحديث في المجالس وأخذ أعنة الكلام ووضع نفسه مواضع الأنبياء والحكماء والأولياء؟ هل يعلم ما يجب الحديث عنه وما لا يجب؟ هل يعلم أن لكل مقام مقال؟ فقد يكون في المجلس الغارقون في المعاصي والذين يبحثون عمن يمنيهم الخلاص والتوبة ثم هو يبدأ بالحديث عن جهنم وأهوالها والختم على القلوب وما شابه من ذلك من حديث يزيد من يأسهم. ولذلك ينبغي أن تكون رغبة الإنسان في الصمت أكثر من رغبته في الحديث وإذا سئل عن شيء وبادر الإجابة غيره يحمد الله عز وجل على أن كفاه ذلك، كي يستمر في أذكاره وأوراده.
استدراك الخبر غير المطابق للواقع
وإذا قام بنقل خبر تبين له كذبه لا بد أن يتصل بكل من أوصل إليه الخبر فيبين لهم الحقيقة خصوصا إذا كان في البين هتك لعبد من عباد الله عز وجل. وقد روي عن الباقر (ع) أنه قال: (يُحْشَرُ اَلْعَبْدُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَمَا نَدَا دَماً فَيُدْفَعُ إِلَيْهِ شِبْهُ اَلْمِحْجَمَةِ أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ فَيُقَالُ لَهُ هَذَا سَهْمُكَ مِنْ دَمِ فُلاَنٍ، فَيَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّكَ قَبَضْتَنِي وَمَا سَفَكْتُ دَماً فَيَقُولُ بَلَى سَمِعْتَ مِنْ فُلاَنٍ رِوَايَةَ كَذَا وَكَذَا فَرَوَيْتَهَا عَلَيْهِ فَنُقِلَتْ حَتَّى صَارَتْ إِلَى فُلاَنٍ اَلْجَبَّارِ فَقَتَلَهُ عَلَيْهَا وَهَذَا سَهْمُكَ مِنْ دَمِهِ)[١٤]. وكذلك ينبغي للمؤمن الدفاع عن أخيه إذا رأى من يتكلم عليه بخلاف الواقع، وقد يخوض البعض من المؤمنين في بعض الشخصيات السياسية وكأنه أمر جائز ولا حرمة لهؤلاء والحال أن منهم الوجهاء والشخصيات المحترمة؛ ولكن النقد أمر آخر فنقيم فعلا شيء وأن نقيم الذات شيء آخر.
هل يجوز الكذب في بعض الموارد؟
ولكن هناك أيضا موارد يجوز فيها الكذب منها؛ إصلاح ذات البين، فتنقل للزوج كذبا عن شوق الزوجة وحبها له وتنقل العكس للزوج حتى تجمع بينهما، وإن أمكن الإصلاح من دون هذا الكذب كان أفضل.
وهناك الكثير من الروايات التي تذم الكذب صغيرها وكبيرها، فقد روي عن إحدى نساء النبي (ص) أنها قالت: (يا رسولَ اللهِ، إنْ قالتْ إحدانا لشيءٍ تَشتهيه: لا أشتَهيه يُعَدُّ ذلك كذِبًا؟ قال: إنَّ الكذِبَ يُكتَبُ كذبًا حتَّى تُكتَبَ الكُذَيبةُ كُذَيبةً). أي أن الإنسان لا يجوز له إذا عرض له طعام وهو يشتهيه أن يقول لا أشتهيه حياء، فذلك من مصاديق الكذب وإن كان صغير في ظاهره.
رُويَ أنّ رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وآله : أنا يا رسولَ اللّه ِ أستَسِرُّ بِخِلالٍ أربَعٍ : (الزِّنا، وشُربِ الخَمرِ، والسَّرَقِ، والكذبِ، فأيَّتَهُنَّ شِئتَ تَركتُها لكَ، قالَ: دَعِ الكذبَ، فلَمّا ولّى هَمَّ بالزِّنا، فقالَ: يَسألُني، فإن جَحَدتُ نَقَضتُ ما جَعَلتُ لَهُ، وإن أقرَرتُ حُدِدتُ، ثُمّ هَمَّ بالسَّرَقِة، ثُمّ بشُربِ الخَمرِ، فَفَكَّرَ في مِثلِ ذلكَ، فَرَجَعَ إلَيه فقالَ: قد أخَذتَ علَيَّ السَّبيلَ كُلَّهُ ! فقد تَرَكتُهُنَّ أجمَعَ)[١٥]. وللأسف الشديد يذهب بعض الشباب إلى المواخير[١٦]، ويشاهد الأفلام ثم يسأل في البيت أين كنت؟ فيقول: كنت في المسجد أو في دورة صيفية وما شابه ذلك من الأكاذيب التي يلقها، ولو التزم الصدق كما التزمها صاحب النبي (ص) لأقلع عن كثير من المحرمات.
[٢] سورة يوسف: ٢٤.
[٣] سورة النور: ١٥.
[٤] بحار الأنوار ج٦٩ ص٢٦٣.
[٥] سورة الأنبياء: ٦٣.
[٦] سورة الصافات: ٨٨-٨٠.
[٧] سورة الحج: ٣٨.
[٨] سورة فصلت: ٣٤.
[٩] إعلام الوری ج٢ ص٢٦.
[١٠] وسائل الشیعة ج١٢ ص١٨٧.
[١١] بحار الأنوار ج١٤ ص٤٩٤.
[١٢] يعقوب الحمدوني.
[١٣] سورة ق: ١٨.
[١٤] الکافي ج٢ ص٣٧٠.
[١٥] شرح نهج البلاغة ج ٦ ص٣٥٧
[١٦] جمع المَاخُورُ: مَجمَعُ أهل الفِسق والفَساد.
هاشتاغ
خلاصة المحاضرة
- إن الله عز وجل قد يحول بين المرء وبين المعصية التي يهم بها. فتراه لحسنة من حسناته؛ من قيام ليلة أو صيامة يوم أو صلة رحم وإقامة صلاة في جماعة يصرفه الله تعالى عن تلك المعصية أو الفاحشة التي كان ينوي ارتكابها بحكمته، كما فعل ذلك مع النبي يوسف (عليه السلام).
- إن الروايات تذم الكذب صغيرها وكبيرها، فقد روي عن إحدى نساء النبي (ص) أنها قالت: يا رسول الله إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه: لا أشتهيه يعد ذلك كذبا؟ قال: إن الكذب يكتب كذبا حتى تُكتب الكذيبة كُذَيبة. أي أن الإنسان لا يجوز له إذا عرض له طعام يشتهيه أن يقول لا أشتهيه حياء.
- إذا قام المرء بنقل خبر تبين له كذبه لا بد أن يتصل بكل من أوصل إليه الخبر فيبين لهم الحقيقة خصوصا إذا كان في البين هتك لعبد من عباد الله عز وجل.