- ThePlus Audio
أخلاق الوظفية والموظف المثالي
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وأفضل الصلاة وأتم السلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين محمد المصطفى وآله الطيبين الطاهرين
إنَّ حديثي هذا سيكون حول وظائف وواجبات الموظفين الذين يتحملون السؤولية في شتى النواحي، وأود التأكيد على أنَّ الآيات الشريفة تؤكد على أنَّ جميع البشر موظفون حتى الأنبياء منهم بالمعنى العام للوظيفة؛ فلكل إنسان مسؤوليته أمام الله سبحانه وتعالى، وكما ورد في بعض النصوص الشريفة: (اِعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)[١]، فلكل واحد منا دوره في الحياة وهو بدوره يسد فراغا فيها.
الآيات القرآنية حول الأمانة والوظيفة
ومن أهم الآيات التي تشير إلى هذه الحقيقة الكبرى قوله سبحانه: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا)[٢]، وقد أبهم القرآن الكريم بطريقة ملفتة معنى الأمانة في الآية وكان بإمكانه أن يصرح بماهية الأمانة وهل هو التكليف أم العمل أم الرسالة، ولذلك أصبحت الآية مثار جدل بين المفسرين، ولعل أفضل ما يمكن أن تفسر به الأمانة هي تلك الخصوصية التي أعطيت للإنسان في مقابل السماوات والأرض والجبال، والخصوصية هي أنَّ الإنسان خلق لهدف تكاملي وليحقق أعلى درجات العبودية لله عز وجل، بخلاف السماوات والأرض اللتين أتيا طائعين؛ وفق ما رسم لهم: (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ)[٣].
كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته..!
إنَّ كل واحد منا هو عنصر مؤثر في الوجود، وقد قال الله سبحانه: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ)[٤]، ومع ذلك قد حمَّل الإنسان هذه الأمانة المقدسة والولاية الألهية؛ ليكون عبداً لله عز وجل كما أراده، ومن الآيات قوله سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا)[٥]، والمراد هنا من الأمانات ما هو أعم من الأمانات المادية والمعنوية؛ فالأنبياء عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها وهم المرسل إليهم، وعلى الأب أن يؤدي الأمانة لعائلته والرئيس والحاكم والسلطان يؤدوها إلى رعيتهم والعالم إلى المتعلمين وإلى آخر ذلك، وهذا المعنى يشمل الجميع ويتبين منه أن لكل إنسان أمانة وله وظيفة وعليه مسؤولية وعليه أن يؤديها بالنحو الأحسن ومن الآيات قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)[٦].
من هو الموظف؟
وبعدما ذكرنا أن كل إنسان له وظيفة عامة وأمانة عليه أن يؤديها؛ نذكر المعنى الخاص والمتعارف للوظيفة في هذه الأيام، وهو العمل المقيد في قبال العمل الحر، والذي يتعاقد فيه مع جهة حكومية أو أهلية وبذلك يكون قد التزم بقوانين الإجارة، والإجارة هي المعاوضة عن المنفعة؛ بأن يضع الإنسان نفسه باختيار جهة أو فرد لكي يبذل جهده وطاقته الكاملة لتلك الجهة بحسب الشروط والاتفاقيات المبرمة؛ فهناك التزامات من الطرفين ومسؤولية تقع على عاتقهما؛ فأنت تبذل طاقتك في مقابل المال الذي يبذله لك صاحب العمل وعليك أن تبرئ ذمتك في مقابل هذا المال.
ولابد أن نلتزم بلوازم العقد بعد وقوعه، وقد لا يصرح أحياناً صاحب العمل ببعض الوظائف؛ إلا أنها وظائف متعارفة: من قبيل ساعات العمل والكفائة المطلوبة في العمل، وينبغي للمؤمن الالتزام بتلك الشروط حتى وإن لم يكن مصرح بها في العقد.
هل علينا أن نعمل من أجل كسب المال فقط؟
ولابد من الالتفات إلى نقطة مهمة في العمل في أي حقل أو مؤسسة وهي نقطة أخلاقية سلوكية وتجارية أيضاً، وهي أنَّ الإنسان ينبغي له أن يعلم أنَّه لا يبذل الطاقة في مقابل المال فحسب وهو قد يبذل ثماني ساعات من حياته بالإضافة إلى ساعة يبذلها في ذهابه وإيابه وقد تربو الساعات على اثني عشرة ساعة في اليوم؛ فيما لو أضيف إليها الأعمال الإضافية، وشأن الإنسان أجل من أن يبذل جهده ووقته من أجل المال فقط؛ بل إنما يبذل هذا الجهد لسد فراغ في هذا الوجود، ويقول سبحانه: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)[٧]، والمهندس إنما يسد حاجة الناس إلى السكن ويساهم في عمران الأرض؛ فلا ينظر إلى الشركة المقاولة ولا إلى المالك المترف؛ بل ينظر إلى أنَّ هذه الأرض تحتاج إلى عمران إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
قد يكون المهندس اليوم في خدمة المالك المترف المستكبر؛ ولكن هناك طبقة من الناس سيستفيدون من عمارته الأرض، وكذلك الطبيب الذي له وظيفة من أرقى الوظائف حتى لقد ورد عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (اَلْعِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمُ اَلْأَدْيَانِ، وَعِلْمُ اَلْأَبْدَانِ)[٨]، وفي هذا الحديث الشريف نرى أن علم الأبدان قد جعل في مقابل علم الأديان، لأن هذا العلم في الواقع يحيي الأبدان ويحافظ على النسل البشري وسلامة البيئة وهذه مسألة في غاية الأهمية، ولذلك نلاحظ أن الطبيب الذي يتعامل بالمال ويشترط المبالغ الكبيرة في مقابل العمليات الواجبة أو ما شابه ذلك يمقته الناس لأنه يستغل هذه الوظيفة المقدسة، وكذلك في مجال عمل علماء الدين لهم أن يؤدوا الوظيفة اللازمة، والأجرة محرمة على المسألة الواجبة.
وينبغي لنا أن نرفع شعارين وهما: الإعاشة للمعاش والمرتبة للراتب؛ فليس هدف الإنسان أن يحول الطاقة إلى راتب؛ بل عليه أن يحول الطاقة إلى دور في هذا الوجود، وهناك من الأعمال ما يصبح واجباً كفائياً تعلمها إذا كان المجتمع بحاجة إليها وإن كانت تخصصات بسيطة، من قبيل: إعداد الخبز والطعام حتى تستمر الحياة على وجه الأرض.
ما هي أفضل الوظائف التي ينبغي أن نشغلها؟
وينبغي للمؤمن أن يكون ذكياً لبقاً في اختيار الوظيفة التي يبذل فيها طاقته؛ إذ أنَّ هناك وظائف شكلية ل تقدم ولا تؤخر شيئا في الحياة ولا أريد أن أنتقص من بعض الوظائف والمهن؛ منها بعض الوظائف الكتابية ومنها موظف الاستقبال في بعض الفنادق الكبيرة، والذي يقف أمام الباب يفتحه أمام الضيوف والنزلاء والحال أنَّ بإمكانهم هم أن يفتحوا الباب وليست العملية إلا حركة تشريفية شكلية ليس لها دور أساسي في الحياة، وينبغي أن تكون الوظيفة التي يختارها المؤمن تسد فراغا في المجتمع؛ كالطب والهندسة والتعليم وسائر المهن المقدسة التي تلعب دوراً هاماً في الإنتاج وتعود بالنفع على الإنسان والأرض والحياة.
اختيار التخصص والفرع الدراسي المناسب
ولهذا أدعو شباب الثانوية العامة والجامعة والآباء المعنيين إلى اختيار التخصص المناسب وتحديد الاتجاه الصحيح ولا يكن اختيارهم جزافياً، فهم يعلمون أن ذهابهم إلى الكلية الفلانية يحدد مسيره في الحياة وقد يكون هذا المسير هو مسير استراتيجي، وعليه، يجب اختيار الفرع والدراسة التي تجعله يقوم بدور إيجابي في الحياة، ولن يكون هناك نقص في المجتمع إذا لم يكن فيه أصحاب الفن والرياضة وما شابه ذلك، وينبغي للمؤمن أن يستغل دوره وطاقته ودراسته لتقديم شيء للمؤمنين.
حالة الذل أمام رب العمل وصاحب الشركة
ولا ينبغي للمؤمن أن يعيش حالة الذل أمام رئيس القسم أو رب العمل أو رئيس الشركة، وإن كان بحسب المسمى الوظيفي هو موظف في الشركة الفلانية أو عند الرجل الفلاني وقد قلنا أنَّ المؤمن إنما يعمل في مختلف الوظائف والتجارات لأهداف سامية، والتي منها كف النفس عن السؤال وتكميل المسيرة الاقتصادية لعائلته، ومن الجميل أن يطالب المؤمن بجميع حقوقه، فقد نرى في الروايات الشريفة كيف يماكس الإمام الصادق (ع) في شراء بُدنة حتى اعترض عليه أبو حنيفة فقال له الإمام (ع): (مَا لِلَّهِ مِنَ اَلرِّضَا أَنْ أُغْبَنَ فِي مَالِي)[٩]؛ أي لماذا لا أدافع عن حقي؟ أريد أن اشتري شيئا وأوفر على نفسي.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الخدم والخادمات في المنزل؛ إذ أنهم موظفون مستأجرون، وقد تصرف الخادمة في اليوم سبع أو ثماني ساعات في الطبخ والغسل وما شابه ذلك، ولا ينبغي أن ينظر إليهم نظرة الجواري والإماء وأن يحملوا فوق ما هو متفق عليه، وكم من الجميل أن يتعامل الإنسان مع هذه الطبقة الفقيرة التي لا ناصر لها إلا الله عز وجل معاملة حسنة، وقد تكون الخادمة امرأة غريبة تركت وطنها وأولادها وزوجها وهي في سن متأخرة تأتي إلى هذه البلاد بحثا عن لقمة العيش؛ فلا ينبغي معاملتها معاملة الجارية والأمة، فكما قال أمير المؤمنين (ع) عن الناس: (فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي اَلدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي اَلْخَلْقِ)[١٠]، فإن لم تكن الخادمة مسلمة فهي نظير لك في الخلق، وإن كانت مسلمة وملتزمة من مذهب أهل البيت (ع) فهناك مشكلة في غيبتها وإهانتها وتكليفها فوق طاقتها أو التحكم بها وإذلالها نفسياً أو حتى عقائدياً بأن تعتقد أنك أرفع منها من دون أي منطق شرعي وما الذي يميزها عنك إن كانت مصلية صائمة أو عن سائر النساء؟ فينبغي الالتفات إلى أنَّ الوظيفة ليست منة من أحد على أحد ولا ينبغي أن يذل أحد؛ بل كما يقول سبحانه: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ)[١١]
استغلال الوظيفة والتصرف غير المشروع في الأموال الحكومية
وإذا أصبحت العلاقة بهذا المستوى؛ فلا يحتاج الموظف فيها إلى رقابة أبداً، وقد نلاحظ للأسف الشديد أن بعض الموظفين خاصة في القطاع الحكومي العام، ينظر إلى الوظيفة وإلى ما تحت يده من الأموال نظرته للغنيمة، وكأن هذه الأموال يجب أن تصادر، وقد يستفيد من بعض أدوات المكتب زيادة عن الحد الطبيعي القانوني المقرر، ويحاول أن يتحايل في المشتريات ويأخذ من الأموال العامة، ولا يجوز مراجع التقليد الغش في هذه الأمور؛ بل وحتى في تقديم التقارير والشهادات المزورة؛ إذ يمنعوها منعاً شديداً ويعتبرون الأموال الحكومية بحسب المصطلح الشرعي أموالاً مجهولة المالك، ولا يتصرف فيها زيادة عن ما أذن به الشارع المقدس.
بعض المسائل الشرعية حول الأموال المجهولة المالك
إنَّ الأموال المجهولة المالك لها مسائلها الخاصة، وهي وإن كان هناك إذن عام في التصرف بها إلا أنه لا بأس بأن يستحضر في ذهنه من يستلم الراتب من القطاع الحكومي أنه في الواقع يستلم هذه الأموال بإذن الفقيه وهو لا يعلم مالكها، وبالتالي فهو ملزم بأن يعمل وفق الأحكام الفقهية والجزئيات التي يبينها الفقيه؛ عند تصديه لأي منصب حكومي.
ومن الأموال المجهولة المالك هي الإيداعات في البنوك، ولا بأس أن تستحضر نية مجهولة المالك عند سحب المال من المصرف؛ إذ أن الأموال التي أودعتها قد تلفت وذهبت وإنما تأخذ من المال بمقدار ما أودعت، وبالنسبة إلى الإمكانات الحكومية العامة فلا يجوز التصرف إلا بالمقدار المتعارف؛ فما زاد عن ذلك يدخل في دائرة الغش والتحايل.
الموظف الخائن
وإذا كان الموظف لا يؤدي وظيفته بالصورة المطلوبة وهو ممن يشار إليه بالبنان ويبدو من هيئته وذهابه للمسجد أنه متدين؛ فهذا ممن يسيء إلى الدين وهو مسؤول يوم القيامة عمن ينحرف عن الدين بسبب سلوكه، وهناك بعض الناس ممن لهم مركز مرموق في دائرة معينة وتحت يده عشرات الموظفين والموظفات من التخصصات المختلفة ويتظاهر بالدين ويتصف بالإيمان وقد يصلي جماعة بموظفيه؛ ولكنه يفعل ما يفعله الخائنون، وهذا في الواقع خلاف ما أوصى به الإمام (ع) عندما يقول: (كُونُوا دُعَاةً إِلَى أَنْفُسِكُمْ بِغَيْرِ أَلْسِنَتِكُمْ وَكُونُوا زَيْناً وَلاَ تَكُونُوا شَيْناً)[١٢].
من هو الموظف المثالي؟
وينبغي للمؤمن أن يفكر في تطوير نفسه؛ فهناك من الموظفين من لم يتطور في أداء وظائفه الإدارية طوال أربعين سنة من العمل، ومادام هناك مجال لأن تتطور من موظف عادي إلى موظف متخصص عليك أن تبذل قصارى جهدك في سبيل ذلك، ويا حبذا لو كانت المناصب المهمة في مختلف الحقول بيد المؤمنين والصالحين، وماذا قال النبي يوسف (ع) عندما تقدم للعمل في وزارة فرعون؟ هل قال أنه نبي مرسل أو قال أنه ابن يعقوب وأنه قد قضى سبع سنين في السجون وضحّى ما ضحّى؟ بل قال: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)[١٣]، ولم تكن هنا للنبوة دور حتى يطرحها على فرعون وإنما ذكر تخصصه وأمانته وكفائته في الإدارة في السيرة الذاتية التي قدمها لطاغية زمانه، ولذلك عندما أرادوا أن يأتوا بأجير للإمام الصادق (ع) ووصفوه بالتدين؛ قال لهم الإمام (ع): أنه يريد القوي الأمين.
وقد ينجر المؤمن نتيجة عدم تطوره الوظيفي وعدم الكفاف المعيشي الناتج عنه، إلى الأموال الربوية والديون وما شابه ذلك؛ فيقع في متاهات شرعية واجتماعية ومشاكل مع الزوجة والأولاد.
الانتقال بين الوظيفة الحكومية والعمل الحر
وهناك من الناس كأنهم قد أقسموا على أنفسهم أن يبقوا موظفين إلى آخر حياتهم، أو عاهدوا الله عز وجل على أن لا يدخلوا في التجارة إلى آخر حياتهم، والحال أنَّ عليه أن ينظر إلى تقلبات الأيام ويأخذ الظروف بالحسبان؛ فإن رأى ان العمل الحر خيرٌ له من العمل المقيد فليبادر إلى ذلك، أو يرى أنه لم يفلح في التجارة فما المانع من أن يرضى بالعمل الوظيفي وإن كان دخله المعيشي أقل من تجارته؛ فالمؤمن يتبع المصالح التي قد تتغير في كل سنة أو في كل شهر، والمؤمن إنسان حيوي يتكيف مع مستجدات العصر وظروف حياته.
لماذا لا تتشبه بعلي بن يقطين؟!
وينبغي للمؤمن أن يحتل بعض الوظائف الحكومية أو الخاصة التي يمكن من خلالها تقديم الخدمة لإخوانه المؤمنين، ولا بأس أن يؤدي دوراً شبيهاً بدور علي بن يقطين؛ فيسعى في قضاء حوائج المؤمنين.
وقد يتذرع البعض من الموظفين المؤمنين الذين يشغلون مناصب وظيفية عالية عندما يطالبون بتمشية أمر مؤمن أو غير مؤمن وفي السياق القانوني من دون غش أو تحايل أن كلامهم لا يسمع أو أنَّ الأمر فيه إراقة لماء الوجه وما شابه ذلك، ومن قال أنك مكلف بقضاء الحاجة؟ كل ما عليك هو السعي في تحقيقها؛ تحققت الحاجة أم لم تتحقق، وكما قال سبحانه: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ)[١٤]، فيفوت على نفسه قضاء حاجة مؤمن من خلال كلمة لزميل أو مدير في العمل، وتارة ترى الموظف لا يكلف نفسه أن يوصي بموظف آخر دون مستواه الوظيفي خوفاً على بعض الأمور أو الأوهام في ذهنه.
قضاء حوائج المؤمنين
وقد نرى البعض من الناس، بالرغم من أنهم لا يشغلون أي منصب وظيفي إلا أنهم يسعون في قضاء حوائج إخوانهم بسبب علاقاتهم الاجتماعية الواسعة، وهؤلاء هم من المقربين يوم القيامة إلى الله عز وجل وإلى أهل بيته (ع)، وخاصة إذا كان قضاء الحاجة مما يثلج الفؤاد؛ كأن تخلص من هو على وشك الإفلاس أو السقوط أو التسفير أو الطرد من الوظيفة مما هو فيه، وقد يقلب مؤمن حياة أخيه رأساً على عقب فيحيي النفوس، وهؤلاء توازي أعمالهم سنوات وسنوات من الحج والعمرة والصلاة والصيام وما شابه ذلك، كإصلاح ذات البين وهو نموذج على عمل خير هو أفضل من عامة الصلاة والصيام.
اجتناب الوظائف المحرمة
وينبغي كذلك اجتناب الوظائف المشتبهة أو المحرمة كما نجتنب الوظائف غير النافعة، وهي قد تكون وظائف نافعة إلا أنها تكون محرمة بأن تتضمن بعض المعاملات الربوية، أو التعامل مع الأمور المحرمة من قبيل الميتة والخمر وما شابه ذلك أو يدعم من خلال عمله الجهات التي تحارب الدين، والحال أنَّ علينا الوقوف أمام من يحاربون الإسلام والدين في أي مكان بحسب فتاوى علمائنا أو مقاطعتهم على أقل التقادير وعدم التعامل معهم، وهناك بعض الوظائف المكروهة التي قد يعرفها الأغلب وهي بيع الأكفان وعمل القصاب، وما شابه ذلك.
الاختلاط في محيط العمل
وقد تكون بعض الوظائف لا شبهة في أولها ولكن المؤمن بفراسته يستشف أنها تنهتي في يوم من الأيام إلى عمل محرم؛ ففي بعض مجالات العمل يختلط النساء والرجال كالزنابير صباحاً ومساءً، وهناك الحديث مع النساء ومفاكهتهن والاختلاط والضحك وما شابه ذلك، وهي أمور لا تليق بالمؤمن، وخاصة في المجال الذي يضطر فيه إلى التعامل مع النساء السافرات، ومهما حاول المؤمن الاحتراز إلا أنه سيقع في الفخ يوماً ما، وكذلك على المؤمن أن يجتنب الأعمال التي فيها تعامل كبير مع النساء، وينبغي أيضا للموظفة أن تختار العمل المناسب لها والتي يوفر لها الاحتكاك مع الرجال أكبر قدر ممكن، وعليها الالتزام بالحدود الشرعية والمحافظة على العفة والحياء إن لزم الأمر مخالطة الرجال.
لا تحول موقع العمل إلى محل نزاع وتوتر..!
ومن النقاط المهمة أيضاً الابتعاد عن أجواء التوتر في العمل؛ فمن الصعب أن يجلس الإنسان على طاولة موظف آخر وهو يشاكسه منذ أول الصباح حتى انتهاء الدوام، ويضطر أن يرى الوجوه التي لا يطيق رؤيتها، وقد يعيش أزمة نفسية نظراً لعدم إمكان التخلص منه أو تغيير موقع العمل، فلا يخلق المؤمن منذ البداية بؤراً للتوتر مع الرئيس أو المرؤوس أو رب العمل أو رئيس الدائرة وما شابه ذلك؛ بل وحتى مع الفراش والذي ستعيش حالة من حالات التوتر عندما يأتي لك بالشاي كل صباح. وينبغي للمؤمن أن يبادر إلى معالجة التوتر إن وجد منذ البداية قبل أن يستفحل؛ إذ أن التوتر يجر الإنسان إما إلى المعصية أو إلى التعرض للأذى البليغ، والمؤمن المراقب لا يقع في المعصية إلا أنه يعيش الغليان الداخلي، ومن موجبات معالجة هذا التوتر مبادرة رب العمل أو رئيس الدائرة لحل النزاعات بين الموظفين من خلال موقع الاقتصادي الوظيفي الاجتماعي والذي تجعل كلمته مسموعة عندهم؛ فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
للعاطلين عن العمل..!
وبما أنني قد تحدثت سابقاً عن التجار وتحدثت الآن عن الموظفين؛ قد يسأل البعض أني لست من أولئك ولا هؤلاء ولكنني عاطل عن العمل، وأبحث عن رزقي ولا أدري ماذا أفعل؟ وأقول لهؤلاء، إن على المؤمن أن يسعى في طلب الرزق وإن كانت هناك بعض الروايات التي تقول: (وَاَلرِّزْقُ رِزْقَانِ رِزْقٌ تَطْلُبُهُ وَرِزْقٌ يَطْلُبُكَ)[١٥]؛ إلا أنَّه ليس الرزق يبحث عنك دائماً وإنما عليك أيضاً أن تبحث عن رزقك وتطرق الأبواب في سبيله وتقرأ في الصحف عن الوظائف الشاغرة على سبيل المثال، وتذهب يميناً وشمالاً؛ فإن الله عز وجل يحب أن يرى العبد ساعياً، والنبي (ص) كان يرى الرجل عاطلاً عن العمل فيسقط من عينه، والإنسان المحترف حبيب الله عز وجل وقريب منه.
وهناك من الناس من يسعى ولكنه يبحث عن راتب معين ومكان معين وبلد معين وكما يقال: كلما كثرت القيود كلما عز الوجود، وأنت بإكثارك القويد تقلل من فرص العمل، ولا تتوقف عن البحث وإن وجدت عملاً في هذا البلد فنعما هو وإلا فابحث عنه في بلد آخر أو في بلدك ولكن براتب أقل والأمور لا تبقى على حالها، وكما قال سبحانه: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)[١٦]، وسيفتح الله عليك أبواب الرزق من حيث لا تحتسب نتيجة لسعيك.
ولهذا إن أمكن أن يجعل الموظف في أي عقد عمل بنداً يمكنه من فسخ العمل متى شاء، تقول لرب العمل: أنت تحب نفسك وأنا أحب نفسي فلنتفق من الآن أنني أفسخ العمل إن وجدت فرصة عمل مناسبة في مجال آخر، في مقابل مبلغ من المال أو تنازل عن أمر معين، وبعد السعي وبذل المجهود في طلب الرزق يلجأ الإنسان إلى أدعية الرزق.
والمعصية من موجبات الضيق الرزق، فقد يعصي الإنسان معصية في النهار يحرم بها صلاة الليل؛ فإن حرم صلاة الليل يقطع أو يمنع رزقه، وللاستيقاظ بين الطلوعين دور مهم في طلب الرزق وكذلك الخروج مبكراً إلى العمل ودفع الصدقة وما شابه ذلك وإذا تأخر الرزق بعد كل ذلك؛ فليتذكر هذه الفقرة من دعاء الافتتاح: (وَلَعَلَّ الَّذي اَبْطأَ عَنّي هُوَ خَيْرٌ لي لِعِلْمِكَ بِعاقِبَةِ الأمورِ)[١٧].
الهجرة إلى بلاد الغربة والآفات المترتبة على ذلك
ومن سعادة المرء أن يكون متجره في وطنه كما دلت على ذلك الروايات الشريفة، وإنَّ مسألة الغربة مسألة غير طبيعية وفيها يحرم الإنسان من صلة الأرحام، وهناك من الآباء والأمهات من حرموا من رؤية أبناءهم عشرين أو ثلاثين سنة، وإخال الابتسامة على وجه الوالد العجوز أو الأم العجوزة تعدل عند الله الملايين من دراهمك، وهناك حالة غير صحية وهي أن يعيش الرجل بعيداً عن زوجته وأبناءه وقد يكبر الولد ولا يعرف أباه، وهناك حقوق للزوجة عليه قد يهملها والحال أن على الرجل أن يعطي حق الزوجة الشرعي وإن استدعى الأمر أن يضغط على نفسه، نعم للضرورات أحكامها ولكن هذه الحالة حالة غير صحية أبداً.
وإذا اضطر الإنسان للهجرة في سبيل لقمة العيش فليطلب من الله عز وجل بصورة جدية ما هو خير له، وليس المال خير للمؤمن في جميع الأحوال، فقد يدعوه الغنى إلى البطر والتعالي، ولذلك قد يضيق الله عز وجل الرزق عليه حفاظاً على دينه وإيمانه وقربه من الله سبحانه وتعالى، ويكتفي المؤمن بالسعي ويفوض أمره إلى الله عز وجل بعد ذلك وهو خير الحاكمين.
وتعلمون أنَّ الله عز وجل حريص على مسألة الرزق، وهو القائل سبحانه: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)[١٨]، وقد رأيت فيلماً وثائقياً عن الحيوانات التي تعيش في القطب الجنوبي حيث الثلوج والدرجة الحرارة التي تصل إلى الستين تحت الصفر وحيث لا شجر ولا مدر ولا يعيش في تلك البلاد أحد؛ إذ أنَّ الثلوج قد تصل إلى أمتار؛ ولكنَّ الله عز وجل قد خلق حيوانات تعيش في هذه الظروف المناخية القاسية: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ)[١٩].
وهناك من الناس من يذهب إلى بلاد الغرب في أول فرصة ممكنة عندما يضيق عليه رزقه، وقد ذكر لي أحد الإخوة ممن ذهب إلى هذه البلاد الأجنبية أنه تحدث إلى ضابط الهجرة وقال له: قل بحق ما هو السر وراء اهتمامكم هذا ودعوتكم الحثيثية لنا نحن المسلمين للهجرة إلى بلادكم؟ – وكان قد رأى منهم استقبال جيداً وكثيراً من المغريات – قال: بصراحة نحن لا نفكر بكم أنتم بل نفكر في ذراريكم المسلمين وما أنتم إلا جسور لأولادكم وذراريكم وهؤلاء هم هدفنا من فتح أبواب الهجرة، وقد يأتي المسلم يوم القيامة وإذا به يرى الآلاف المؤلفة من ذريته أصبحوا يهوداً ونصارى، فتصبح جداً لليهود والنصارى لأجل لقمتين زائدتين، فهل هذا مما يستسيغه المؤمن؟
ولكن إذا اضطر الإنسان لأخذ بعض الجوازات أو لتولي بعض المهام؛ فلتكن القضية مؤقتة جداً كأكل الميتة، وليحاول أن يرجع إلى بلاد الإسلام في أول فرصة ممكنة؛ فيعود للقاعدة سالماً كما يقولون، ليس لأجلك فقط – إذ قد يقول البعض أنه متدين يصلي حتى صلاة الليل في البلاد الكذائية – ولكن لأجل ذريتك الذين سيدرسون ويتعلمون هناك، ولأجل ابنتك التي تبلغ في بلاد الكفر ولا ضامن لحجابها ودينها، وإن كان هناك بعض الاستثناءات كالعلماء الذين يذهبون لأجل خدمة الدين مع الحفاظ على ذراريهم لو أمكن، فنحن لا نحرم ما أحل الله عز وجل، ولكنَّ هؤلاء أيضاً لا تسلم ذريتهم مما وقعت فيه الحضارة الغربية من أنواع الانحرافات وغيرها، وأنا أقول: اللهم لا تحوجني إلى لئام خلقك ولا إلى الهجرة إلى بلاد الكفر، لا تحوجني إلى هذه البيئة التي أتخوف فيها على ديني، وإذا صدق الإنسان في نيته، تفتح له أبواب الفرج والتوفيق.
[٢] سورة الأحزاب: ٧٢.
[٣] سورة طه: ٥٠.
[٤] سورة غافر: ٥٧.
[٥] سورة النساء: ٥٨.
[٦] سورة المؤمنون: ٨.
[٧] سورة هود: ٦١.
[٨] بحار الأنوار ج٣٠ ص٤١٥.
[٩] الکافي ج٤ ص٥٤٦.
[١٠] نهج البلاغة ج١ ص٤٢٦.
[١١] سورة الحديد: ٧.
[١٢] الکافي ج٢ ص٧٧.
[١٣] سورة يوسف : ٥٥.
[١٤] سورة النجم: ٣٩.
[١٥] نهج البلاغة ج١ ص٣٩١.
[١٦] سورة آل عمران: ١٤٠.
[١٧] مفاتيح الجنان، دعاء الافتتاح.
[١٨] سورة هود: ٦.
[١٩] سورة العنكبوت: ٦٠.
هاشتاغ
خلاصة المحاضرة
- إن كثيرا من الآيات القرآنية تؤكد على أن جميع البشر موظفون حتى الأنبياء منهم بالمعنى العام للوظيفة؛ فلكل إنسان مسؤوليته أمام الله سبحانه وتعالى، وقد ورد في النصوص الشريفة: (اِعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) ، فلكل واحد منا دوره في الحياة وهو بدوره يسد فراغا فيها.
- (إِن الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا)، والأمانات هنا تشمل الأمانات المادية والمعنوية؛ فالأنبياء عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى المرسل إليهم، وعلى الأب أن يؤدي الأمانة لعائلته والرئيس والحاكم والسلطان يؤدوها إلى رعيتهم والعالم إلى المتعلمين وهلم جرا.
- ينبغي للمؤمن أن لا ينظر إلى وظيفته نظرة مادية فحسب وأنه يعمل ويبذل الطاقة والمجهود في سبيل كسب المال ليس إلا؛ إنما عليه أن ينظر إلى أنه يسد فراغاً في هذه الوجود وأنه يخدم المؤمنين من خلال عمله ويكف نفسه عن السؤال هو وعياله.
- إن المؤمن يحاول أن يبحث عن الوظائف التي لها دور أساسي في الحياة وتسد فراغاً في المجتمع؛ كالطب والهندسة والتعليم وسائر المهن المقدسة التي تلعب دوراً هاماً في الإنتاج وتعود بالنفع على الإنسان والأرض والحياة، ويجتنب الوظائف التي لا تقدم شيئا في الوجود ولا تؤخر.
- لا ينبغي للمؤمن أن يعيش حالة الذل أمام رئيس القسم أو رب العمل أو رئيس الشركة، وإن كان بحسب المسمى الوظيفي هو موظف في الشركة الفلانية أو عند الرجل الفلاني؛ بل إنما يعمل في مختلف الوظائف والتجارات لأهداف سامية، والتي منها كف النفس عن السؤال وتكميل المسيرة الاقتصادية لعائلته.
- ينبغي للمؤمن أن يفكر في تطوير نفسه؛ فهناك من الموظفين من لم يتطور في أداء وظائفه الإدارية طوال أربعين سنة من العمل، ومادام هناك مجال لأن تتطور من موظف عادي إلى موظف متخصص عليك أن تبذل قصارى جهدك في سبيل ذلك، ويا حبذا لو كانت المناصب المهمة في مختلف الحقول بيد المؤمنين والصالحين.
- إن المؤمن يجتنب في عمله الاختلاط المحرم، ولا يحتك بالنساء ما أمكنه ذلك خصوصا السافرات منهن، إذ قد ينصب له فخ من حيث لا يعلم ويقع به في يوم من الأيام بالرغم من احترازه وشدة توخيه وحذره، فالشيطان بالمرصاد للإنسان.
- من سعادة المرء أن يكون متجره في وطنه كما دلت على ذلك الروايات، ومسألة الغربة مسألة غير طبيعية؛ إذ يحرم المرء من صلة الأرحام، وهناك من الآباء والأمهات من حرموا من رؤية أبناءهم لسنين طويلة، والحال أن إدخال الابتسامة على وجه الوالدين العجوزين تعدل عند الله الملايين من الدراهم.