البيئة النقية..
إنَ المؤمن لا يمكنه التكامل إلا ضمنِ جَوٍ خالٍ من التوتر!.. وكلما ازدادَ الإنسان إيماناً، ازدادت محاولة الشياطين لصدهِ عن المسير؛ هذا إن كانَ منَ المُخلَصين.. والمُخلَص: هو الذي خارج دائرة التأثير الشيطاني، أما المُخلِص: فهو الإنسان الذي يقومُ ويقعد، يتذكرُ وينسى؛ أي إنسان متعثر.. بينما الذي على الطريق، هو الإنسان المُخلَص؛ وهؤلاء لا سلطانَ للشيطان عَليهم، لذا فإنه يأتيهم من خلال الأقارب: فيحرك الزوجة يَوماً، والأولاد يوماً، والجارَ يوماً.. المؤمن لا يَسلم من أذى الشياطين، ولو ذَهبَ إلى رأسِ جَبل، فقد قال رسول الله (صلی الله علیه): (مازلت أنا ومن كان قبلي من النبيين والمؤمنين، مبتلين بمن يؤذينا.. ولو كان المؤمن على رأس جبل، لقيض الله -عز وجل- له من يؤذيه؛ ليؤجره على ذلك).. لذا، فإن المؤمن يحاول قَدر الإمكان أن يُزيل الألغام من حَوله، هو ليسَ مطالب بأن يُزيل كُلَ ألغام الوجود، إنما عليه بإزالة اللغم من منزله، ومن أسرته، ومن مَحَلِ عمله؛ كي يعيش في بيئة نفسية نقية.
السيدة القدوة..
إنَ هُنالكَ عدداً من النساء في التأريخ، هنّ مَضرِبُ المثل في سيادة نساء العالمين بدرجةٍ من الدرجات، ولا شَك أنَ مريم (عليها السلام) على رأسِ هذهِ القائمة في زمانِها.. وأما السيدة القدوة بقولٍ مُطلَق، فهيَ أمُ أئمة الهُدى، والدة الأئمة الأحد عَشر، السيدة فاطمة الزهراءِ (عليها السلام).
– موجبات عَدم التأسي بِها..
إن هناك مسألتين هما من موجبات عدم التأسي بسيدة نساء العالمين (عليها السلام) عندَ البَعض، أو من موجبات عَدم التوفيق لذلك:
أولاً: أنوثتها.. إن البعض من الرجال يقولون: نحن نقتدي بأمير المؤمنين (عليه السلام)!.. وهذا أمر طبيعي؛ لأنه أميرٌ للمؤمنين.. أما الزهراء (عليها السلام) فهي سيدة نساء العالمين، ونحنُ الرجال لسنا منَ النِساء، فهيًّ تُعد سيدة لما عَدا الرجال!.. هذا الكلام باطل؛ لأنه لا أنوثة ولا رِجولة في الأرواح!.. فالزوج الذي يرى تميزاً في إيمان زوجته، كأن ينامُ هو إلى الصباح، بينما زوجته تستيقظ لصلاة الليل؛ تأسياً بالزهراءِ (عليها السلام)، عليه أن يعترف أنها خَيرٌ منه ولو في هذهِ الحَركة.. لأن الذي قام وَصلى صلاة الليل، ليسَ هذا البدن، إنما روحها التي أحبت وعَشقت صلاة الليل، هي التي جعلتها تقوم للصلاة.
فإذن، إن قضية الأرواح ليسَ فيها تذكير ولا تأنيث، ولهذا في القرآن الكريم، عندما يَصل الأمر للتكاليف يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى﴾.. حتى كَلمة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾، إجماع المُفسرين أنَ المُراد بهذهِ الكلمة يَعمُ الرجالَ والنساء، وإلا ما وَجبَ الصوم على المرأة؛ لأنَ الخطاب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾.. وبالتالي، فإنه لا ذكورة ولا أنوثة في عالم الأرواح.. والإنسان عندما يتأسى بالزهراء (عليها السلام) فإنه يتأسى بصفاتها وأفعالها، والصفات والأفعال؛ لا أنوثةَ فيها.
٢. قِصرُ عمرها.. إن من موجبات عدم التأسي بها بالنسبة للبعض، هو العمر القصير الذي عاشته!.. ولكن العبرة ليست بطول العمر أو قصره، فالزهراء (عليها السلام) أعطيت الكثير من الكمالات، رغم قصر عمرها.. فهذه الأرواح لا تتسم بسِمة بقاء الأبدان في هذهِ الحياة الدُنيا، إنما لها خصوصيتها.. وإلا لماذا يُخَلد المؤمن في الجَنّة، رَغمَ أنّهُ أطاعَ اللهَ -عَزَ وجل- ستينَ سنة؛ بل البعض أطاعَ الله دقيقة واحدة: فالكافر الذي يشهر إسلامه، ثم يموت بعد ذلك بدقيقة؛ وإذا به يُخلّد في الجَنّة.. والمسلم الذي يرتد عن الإسلام، ويموت بعد لحظات، يُخلّد في نارِ جَهنم.. فما ذلك إلا لأنَ الروح أصبحت متسانخة مع الجنة، ولو دقيقة واحدة.. مثلاً: الحر بن يزيد كانَ في طريقِ أعوج، ولكنه عندما استقام سويعات، وإذا به يصبح من المتميزين في التاريخ، ويضرب به المثل في الإخلاص والتضحية.
فإذن، إن الروح إذا تَشكلت بشكلٍ، تصبح متسانخة معَ عالم القُرب الإلهي، وإن قَلَّ مكوثها في الحياة الدُنيا.. ففي مقام سنوات الدعوة: نوح (عليه السلام) لَبِثَ فيهم ألف سنة إلا خمسينَ عاماً، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا﴾.. ولكن النتيجة كانت أنهم أُغرقوا جميعاً، إلا ثُلة رَكبت السفينة.. أما النبي (صلی الله علیه)، فإنه في ثلاث وعشرين سنة، أسسَ الدولة التي ستبقى إلى قيام الساعة.. وبالتالي، فإن عمل تسعمائة وخمسين سنة، كانت نتيجتها الغَرق الشامل تقريباً، بينما عمل ثلاث وعشرين سنة؛ كانت نتيجتها النجاة الدائمة.
وعليه، فإن العبرة ليست بطول العُمرِ أو قصره.. ولهذا عندما يدعو الإنسان لأخيه المؤمن بطول العمر، فليجعله بقيد، ألا وهو “في خير وعافية” وإلا ما الفائدة من طول العُمر؟!.. بل كُلما طالَ عُمر الإنسان، كَثُرت خطاياه.. لذا، فإن الموت الفُجائي للبعض نعمة عليِهم؛ لأنَ هذا كُلما زادَ عُمره؛ كُلما اقتربَ من نارِ جَهنم.
– أسماء سيدة نساء العالمين..
قال أبو عبدالله (عليه السلام): (لفاطمة -عليها السلام- تسعة أسماء عند الله عزّ وجل: فاطمة، والصدّيقة، والمباركة، والطاهرة، والزكيّة، والراضية، والمرضيّة، والمحدّثة، والزهراء).
١. فاطمة.. وهو الاسم المعروف، فعندما يُقال: “فاطمة” لا يتبادر إلى الذهن إلا هذهِ السيدة.. ويُقال: أنَ أكثر الأسماء تداولاً في العالم الإسلامي هذهِ الأيام؛ اسم النبي المصطفى مُحمد (صلی الله علیه) وبالنسبة للإناث؛ اسمُ فاطمة الزهراءِ بنتِ مُحمدٍ (صلی الله علیه).. وكَلمة “الفَطم” مأخوذة من القطع؛ فَطمتُ الحَبل؛ أي قطعتهُ.. والفَطم يستعملُ كثيراً؛ بمعنى فصل الولد عن الإرضاع: فالأمُ فاطمة؛ أي فَطمت ولدها عن اللبن.. هنا قد يقول قائل: ما المناسبة بينَ كلمة فاطمة بمعنى الفطم عن اللبن، وبينَ اسمِ الزهراءِ (عليها السلام)؟..
الجواب: في اللغة العربية -بعض الأوقات- يُستعمل تعبير الفاعل بمعنى المفعول، أي يمكن جعل فاطمة بمعنى المفطومة.. فنقول: بأنَ الأم فاطمة، والبنت فاطمة أيضاً؛ لأنها فُطمت منَ اللبن.. وهُنالكَ دليل على هذا الاستعمال من القرآن الكريم، يقول تعالى: ﴿عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾؛ أي عيشة مرضية؛ لأن العيشة لا تكون راضية، إنما الإنسان هو الذي يكون راضياً عن عيشته.. فالعيشةُ مَرضِيةٌ، والإنسان راض بعيشته؛ ولكن القرآن قال: ﴿عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾.. فإذن، الزهراءُ فاطمة؛ بمعنى مفطومة.. ولكن فُطمت من أي شيء؟.. هناك معنيان:
المعنى الأول: الفطم من الشر.. وهذا معنى العصمة، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): (أتدرون أي شيء تفسير فاطمة؟.. قلت: أخبرني يا سيدي، قال: فطمت من الشر).. قد يقول قائل: أين الفضلُ في ذلك؛ فكل المعصومين رب العالمين أذهبَ عنهم الرجس، إن كان هذا الإذهاب قدرياً، فليسَ هُنالكَ من فضيلة في البين؟!.. الجواب في كلمة واحدة: هذا تفضلٌ إلهي، في أرضيةٍ قابلة.. مثلاً: لو كان هناك أرضٌ سبخة وأرضٌ خصبة، عندما يضع المزارع البذرة في الأرض الخصبة؛ فإنه يحصد ما زرع، أما عندما يزرع في الأرض السبخة؛ فإنه لن يحصد شيئاً.. إذن، أرضية المعصومين (عليهم السلام) أرضيةٌ مُباركة!..
المعنى الثاني: الفطم من النار.. إن القلب الذي يحب فاطمة ووالدها وبعلها وبنيها، هذا القلب لا يمكن أن يكون مسانخاً لنارِ جَهنم.. وفاطمة فُطمت من النارِ في ذلك اليوم، الذي ﴿تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾.. ويدل على ذلك قول رسول الله (صلی الله علیه): (يا فاطمة، أتدرين لِمَ سميتِ فاطمة؟.. قال علي (عليه السلام): لم سميت؟.. قال: لأنها فطمت هي وشيعتها من النار).
٢. الصديقة.. قال الصادق (عليه السلام): (وهي الصدّيقة الكبرى، وعلى معرفتها دارت القرون الأولى).. والصديقة للمبالغة في الصدق والتصديق، فقد كانت كثيرة التصديق لما جاء به النبي (صلی الله علیه)، وكانت صادقةً في جميع أقوالها، مصدّقةً أقوالها بأفعالها؛ أي فعلها مطابق لما أرادَ اللهُ -عزَ وجل- وهذا معنى دَقيق!.. رَب العالمين أرادَ أن تكونَ فاطمة كما يُريد، فصارت كما يُريد، وكل ما أرادهُ الله ينطبق تماماً على هذا الوجود الخارجي.. وهذا أعلى معاني الصديقة!..
٣. المباركة.. وأيُ بركة!.. فلقد ورد في معنى كلمة “البركة” هي النماء والزيادة، وما يأتي من قبله الخير الكثير.. والزهراء (عليها السلام) تركت ذرية طيبة من بعدها، فعندما يجتمع جَمعٌ من المؤمنين، تكون عادةً نسبة السادة في المجلس بينَ الرُبعِ والخُمس وقد يصلُ إلى الثلث.. فما من مجلس، وما من ديوان، وما من مكان يخلو من ذُرية الزهراءِ (عليها السلام).
٤. الطاهرة.. هي طاهرة من كُلِ دَنس، نقية، مبرءة من كل رجس، وأفضل دليل على طهارتها هو آية التطهير، يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾.. وقد ورد عن أبي جعفر (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام) أنه قال: (إنّما سمّيت فاطمة بنت محمّد (صلی الله علیه) «الطاهرة» لطهارتها من كلّ دنس، وطهارتها من كلّ رفث، وما رأت قطّ يوماً حمرة ولا نفاساً).
٥ ـ الزكية.. ومعنى هذا الاسم مماثل ومرادف للمباركة، فالزكاة هي: الطهارة، والنماء، والبركـة.. وزكا الشيء، يزكو؛ أي زاد ونما.. يقال: زكا الزرع، وزكت التجارة؛ إذا زاد ونما كل منهما.. والزهراء زكية لأن الله تعالى جعل ذرية رسول الله (صلی الله علیه) تزداد عن طريقها.
٦ ـ الراضية.. فلقد جاء في الحديث الشريف عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (إنّ أعلم الناس بالله؛ أرضاهم بقضاء الله عز وجل)!.. وسيرتها الذاتية تثبت أنها كانت راضية بما قدر الله لها، فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال لرجل من بني سعد: (ألا أحدثك عنّي وعن فاطمة؟.. إنّها كانت عندي وكانت من أحبّ أهله إليه!.. وإنّها استقت بالقربة حتّى أثر في صدرها، وطحنت بالرّحى حتّى مجلت يداها، وكسحت البيت حتّى اغبرّت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتّى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضررٌ شديد ، فقلت لها: لو أتيت أباكِ فسألتيه خادماً يكفيك حرّ ما أنت فيه من هذا العمل.. فأتت النبي (صلی الله علیه) فوجدت عنده حدّاثاً، فاستحت فانصرفت، فعلم النبي (صلی الله علیه) أنّها جاءت لحاجة، فغدا علينا …. فقال: يا فاطمة!.. ما كانت حاجتك أمس عند محّمد؟.. فخشيت إن لم تجبه أن يقوم، فأخرجت رأسي فقلت: أنا والله أُخبرك يا رسول الله (صلی الله علیه)!.. إنها استقت بالقربة حتّى أثر في صدرها، وجرّت بالرحى حتّى مجلت يداها، وكسحت البيت حتّى اغبرّت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتّى دكنت ثيابها، فقلت لها: لو أتيت أباك فسألتيه خادماً يكفيك حرّ ما أنت فيه من هذا العمل.. قال رسول الله (صلی الله علیه): أفلا أُعلمكما ما هو خيرٌ لكما من الخادم؟.. إذا أخذتما منامكما فسبّحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبّرا أربعاً وثلاثين، فأخرجت (عليها السلام) رأسها فقالت: رضيت عن الله ورسوله، رضيت عن الله ورسوله، رضيت عن الله ورسوله).
٧ ـ المرضية.. أي أعمالها وأقوالها مرضية عند الله سبحانه وتعالى، ومرضية أيضاً من جهة ما أعطاها الله -تبارك وتعالى- من المقامات الكبرى، ومنها مقام الشفاعة يوم القيامة.. فرب العالمين يشفع لمحبي فاطمة، ولمن له تعلق بفاطمة، ولمن أحسن إلى ذريتها، ولو لم يكن من شيعتها، وقد ورد في الرواية: (فيوحي الله -عزّ وجلّ- إليها: يا فاطمة!.. سليني أُعطكِ، وتمنّي عليّ أُرضك، فتقول: إلهي!.. أنت المنى وفوق المنى، أسألك أن لا تعذّب محبّي ومحبّي عترتي بالنار، فيوحي الله إليها: يا فاطمة!.. وعزّتي وجلالي وارتفاع مكاني!.. لقد آليت على نفسي من قبل أن أخلق السماوات والأرض بألفي عام، أن لا أعذب محبيّك ومحبّي عترتك بالنار).
٨. المُحدّثة.. إن المؤمن يُلقى في روعه، يقول علي (عليه السلام): (عرفت الله بنقض العزائم، وفسخ الهمم).. المؤمن يقعُ في قلبهِ ما يقع، هذا الإلقاء في القلب يترقى ويترقى إلى دَرجةٍ، يصبح بعدها يتلقى المعاني بشكلٍ واضحٍ جداً.. فالمؤمن الذي ينوي السفر لزيارة الحُسينِ (عليهِ السلام) هذا إلقاء في الروع، فعن أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) أنه قَالَ: (مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ الْخَيْرَ؛ قَذَفَ فِي قَلْبِهِ حُبَّ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) وَحُبَّ زِيَارَتِهِ.. وَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ السُّوءَ؛ قَذَفَ فِي قَلْبِهِ بُغْضَ الْحُسَيْنِ، وَبُغْضَ زِيَارَتِهِ).. وهكذا بالنسبة إلى حب الذهاب إلى العُمرةِ والحَج، فهو عندما يذهب للعُمرةِ والحَج، تُفتح له البركات العظيمة؛ وهذا معنى بسيط!..
ولكن بالنسبةِ إلى أمِ موسى (عليه السلام) فالقضية مُعقدة ومُركبة، يقول تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾.. هذهِ المعاني المُعقّدة المُركبة، رَب العالمين حَدّثَ بها أمِ موسى (عليه السلام) رغم أنّها ليست من الأنبياء ولا من الأوصياء.. فهذا معنى آخر من معاني التحديث!.. وهذا المعنى وقع في حياة الزهراءُ (عليها السلام) بشكلٍ مُذهل!.. فقد روي عن حارثة بن قدامة قال: حدثني سلمان، قال: حدثني عمار، وقال: أخبرك عجبا؟.. قلت: حدثني يا عمار!.. قال: (نعم، شهدت علي بن أبي طالب، وقد ولج على فاطمة، فلما أبصرت به نادت: “ادن لأحدثك بما كان وبما هو كائن وبما لم يكن إلى يوم القيامة حين تقوم الساعة”.. قال عمار: فرأيت أمير المؤمنين يرجع القهقرى، فرجعت برجوعه إذ دخل على النبي، فقال له: “ادن يا أبا الحسن”!.. فدنا، فلما اطمأن به المجلس قال له: “تحدثني أم أحدثك؟.. قال: الحديث منك أحسن يا رسول الله، فقال: كأني بك وقد دخلت على فاطمة، وقالت لك كيت وكيت فرجعت، فقال علي: نور فاطمة من نورنا؟.. فقال: أو لا تعلم”؟.. فسجد علي شكراً لله تعالى.. قال عمار: فخرج أمير المؤمنين، وخرجت بخروجه، فولج علي فاطمة، وولجت معه، فقالت: “كأنك رجعت إلى أبي فأخبرته بما قلته لك؟.. قال: كان كذلك يا فاطمة، فقالت: اعلم يا أبا الحسن أن الله تعالى خلق نوري، وكان يسبح الله جل جلاله، ثم أودعه شجرة من شجر الجنة، فأضاءت فلما دخل أبي الجنة أوحى الله تعالى إليه إلهاماً: أن اقتطف الثمرة من تلك الشجرة، وأدرها في لهواتك، ففعل فأودعني الله سبحانه صلب أبي، ثم أودعني خديجة بنت خويلد فوضعتني، وأنا من ذلك النور، أعلم ما كان وما يكون وما لم يكن.. يا أبا الحسن!.. المؤمن ينظر بنور الله تعالى”).
فإذن، إن فاطمة (عليها السلام) كانت تعلم بما كان وبما يكون إلى يوم القيامة؛ ولا غرابة في البين!.. نعم، رَب العالمين لَهُ هذا العلم؛ وهذا لا خِلافَ فيه!.. ولكن ما المانع أن يجعل هذا العلم الإلهي في إناءٍ قابل؟!.. فهو المُحيي؛ ولكنه جَعلَ خاصية الإحياء في إناء عيسى (عليِهِ السلام) فصار عيسى (عليه السلام) يحيي الموتى بإذن الله تعالى!.. ونحن عندما نُنكرُ عِلمَ الآخرينَ بالغيب؛ ننكره بمعنى الاستقلال، لا بمعنى التفضل.. وإلا رَب العالمين يُطلع على غيبهِ من يشاء: كالزهراء (عليها السلام).
٩. الزهراء.. ومن صفاتها (عليها السلام) أنّها كانت زهراء، كانت كأنّها البَدر أو الشمسِ.. قيل للصادق (عليه السلام): يا بن رسول الله!.. لم سُميت الزهراء زهراء؟.. فقال: (لأنها تزهر لأمير المؤمنين (عليه السلام) في النهار ثلاث مرات بالنور: كان يزهر نور وجهها صلاة الغداة والناس في فراشهم، فيدخل بياض ذلك النور إلى حجراتهم بالمدينة، فتبيضّ حيطانهم، فيعجبون من ذلك، فيأتون النبي (صلی الله علیه) فيسألونه عما رأوا، فيرسلهم إلى منزل فاطمة (عليها السلام) فيأتون منزلها فيرونها قاعدة في محرابها تصلي، والنور يسطع من محرابها من وجهها، فيعلمون أن الذي رأوه كان من نور فاطمة.. فإذا انتصف النهار وترتبت للصلاة، زهر نور وجهها (عليها السلام) بالصفرة، فتدخل الصفرة في حجرات الناس، فتصفر ثيابهم وألوانهم، فيأتون النبي (صلی الله علیه) فيسألونه عما رأوا، فيرسلهم إلى منزل فاطمة (عليها السلام) فيرونها قائمة في محرابها، وقد زهر نور وجهها -صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها- بالصفرة، فيعلمون أن الذي رأوا كان من نور وجهها.. فإذا كان آخر النهار وغربت الشمس، احمرّ وجه فاطمة فأشرق وجهها بالحمرة؛ فرحا وشكرا لله عز وجل، فكان تدخل حمرة وجهها حجرات القوم، وتحمرّ حيطانهم فيعجبون من ذلك، ويأتون النبي (صلی الله علیه ) ويسألونه عن ذلك فيرسلهم إلى منزل فاطمة، فيرونها جالسة تسبّح الله وتمجده، ونور وجهها يزهر بالحمرة، فيعلمون أن الذي رأوا كان من نور وجه فاطمة (عليها السلام).. فلم يزل ذلك النور في وجهها حتى ولد الحسين (عليه السلام) فهو يتقلب في وجوهنا إلى يوم القيامة في الأئمة منا أهل البيت، إمام بعد إمام).
إن رب العالمين عطاياه ليست جُزافية، إن أرادَ الإنسان أن يتمتع بعطيةٍ إلهية، عليه بتهيئة نفسه لتحمل الصعاب في طاعةِ رَب العالمين.
– ولادة سيدة نساء العالمين..
قيل للصادق (عليه السلام): كيف كان ولادة فاطمة (عليها السلام)؟.. فقال: (نعم!.. إن خديجة (عليها السلام) لما تزوج بها رسول الله (صلی الله علیه) هجرتْها نسوة مكة، فكن لا يدخلن عليها، ولا يسلمن عليها، ولا يتركن امرأة تدخل عليها فاستوحشت خديجة لذلك، وكان جزعها وغمّها حذرا عليه (ص)، فلما حملت بفاطمة كانت فاطمة (عليها السلام) تحدّثها من بطنها وتصبرّها، وكانت تكتم ذلك من رسول الله (صلی الله علیه).. فدخل رسول الله يوما، فسمع خديجة تحدث فاطمة (عليها السلام) فقال لها: يا خديجة من تحدثين؟.. قالت: الجنين الذي في بطني يحدثني ويؤنسني، قال: يا خديجة!.. هذا جبرائيل يخبرني أنها أنثى، وأنها النسلة الطاهرة الميمونة، وأن الله -تبارك وتعالى- سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة، ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه.. فلم تزل خديجة (عليها السلام) على ذلك إلى أن حضرت ولادتها، فوجّهت إلى نساء قريش وبني هاشم: أن تعالين لتلين مني ما تلي النساء من النساء، فأرسلن إليها: أنت ِعصيتنا ولم تقبلي قولنا، وتزوجت ِمحمداً يتيم أبي طالب فقيراً لامال له، فلسنا نجئ ولا نلي من أمرك شيئاً، فاغتمت خديجة (عليها السلام) لذلك.. فبينا هي كذلك، إذ دخل عليها أربع نسوة سمر طوال، كأنهن من نساء بني هاشم، ففزعت منهن لما رأتهن.. فقالت إحداهن: لا تحزني يا خديجة!.. فإنّا رسل ربك إليكِ، ونحن أخواتك: أنا سارة، وهذه آسية بنت مزاحم وهي رفيقتك في الجنة، وهذه مريم بنت عمران، وهذه كلثم أخت موسى بن عمران، بعثنا الله إليك لنلي منك ِما تلي النساء من النساء، فجلست واحدة عن يمينها، وأخرى عن يسارها، والثالثة بين يديها، والرابعة من خلفها، فوضعت فاطمة (عليها السلام) طاهرة مطهرة …. الخبر).
– فضلِ سيدة نساء العالمين..
قال جابر للباقر (عليه السلام): جعلت فداك يا بن رسول الله!.. حدثني بحديث في فضل جدتك فاطمة، إذا أنا حدثت به الشيعة فرحوا بذلك.. قال الباقر (عليه السلام): (…. فإذا صارت عند باب الجنة تلتفت، فيقول الله: يا بنت حبيبي!.. ما التفاتكِ وقد أمرت بكِ إلى جنتي؟.. فتقول: يا رب!.. أحببت أن يُعرف قدري في مثل هذا اليوم، فيقول الله: يا بنت حبيبي!.. إرجعي فانظري من كان في قلبه حبّ لكِ أو لأحد من ذريتك، خذي بيده فأدخليه الجنة).. قال الباقر (عليه السلام): (والله يا جابر!.. إنها ذلك اليوم لتلتقط شيعتها ومحبيها، كما يلتقط الطير الحب الجيد من الحب الرديء.. فإذا صار شيعتها معها عند باب الجنة، يُلقي الله في قلوبهم أن يلتفتوا، فإذا التفتوا فيقول الله عز وجل: يا أحبائي!.. ما التفاتكم وقد شفّعت فيكم فاطمة بنت حبيبي؟.. فيقولون: يا ربّ!.. أحببنا أن يعُرف قدرنا في مثل هذا اليوم، فيقول الله: يا أحبائي!.. ارجعوا وانظروا من أحبّكم لحب ّفاطمة!.. إنظروا من أطعمكم لحبّ فاطمة!.. انظروا من كساكم لحب ّفاطمة!.. انظروا من سقاكم شربة في حبّ فاطمة!.. انظروا من رد عنكم غيبة في حبّ فاطمة!.. خذوا بيده وأدخلوه الجنة).. قال الباقر (عليه السلام): (والله!.. لا يبقى في الناس إلا شاك أو كافر أو منافق، فإذا صاروا بين الطبقات نادوا كما قال الله تعالى: ﴿فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾.. فيقولون: ﴿فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.. قال الباقر (عليه السلام): (هيهات!.. هيهات!.. منُعوا ما طلبوا ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾).. فالشفاعة تعدت من الزهراءِ (عليها السلام) إلى محبيها؛ وهذهِ الشفاعة الغامرة تشملُ الجميع.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.