وصلنا بحمده تعالى إلى الحلقات الأخيرة، وأوشك أن نكمل الأربعين وصية بإذن الله تعالى.. وهنا أحب أن أؤكد مرة أخرى على أن هذه الوصايا-إن شاء الله تعالى- عِبرة لمن أراد أن يتخذ إلى ربه سبيلا.. إن البعض يريد أن يستمزج الأمور استمزاجا، أو لأنه عنده حوائج ومشاكل، ويريد أن يقضي على هذه المشاكل، بالتقرب إلى رب العالمين.. فإذا أعطي الحاجة، عندئذ يقف عن حركته في التقرب لله تعالى، ولا وجه بعد ذلك لأن يكون من المتقربين، لأنه حصل على جائزته!..
ولكن الذي يعيش هاجس العبودية، وأن الهدف من الخلقة أن يكون لله تعالى عبدا، فإن هذا لا شك يحب أن يتلمس معالم الطريق.. ونحن بفضل الله-عزوجل-، نرجو أن نكون قد ساهمنا في هذا المشروع، على إيضاح معالم الطريق، ليُعلم الزيف من الحقيقة.
س١/ لا خلاف أن طول الأمل قاد الكثيرين إلى حافة التهلكة، وأعقبهم الخسارة الكبرى، حيث جرهم إلى الركون إلى الدنيا، والاشتغال بها إلى درجة الالتهاء عن هدف الخلقة.. وكأننا خلقنا لهذه الحياة، وليس هنالك من حياة أخرى وحساب وعقاب ينتظرنا!.. ولا يخفى أن السبب هو الجهل وضعف حالة اليقين، فما هو الطريق لترقية اليقين؟..
إن الذي يكسر طول الأمل-كما هو المستفاد من الروايات- ذكر هادم اللذات، ألا وهو الموت.. وذلك بأن يعرف أن الموت هي حقيقة مصاحبة له، وليست بحقيقة مستقبلية.. فكما أن النوم ممتزج بحياة بني آدم، فالموت كذلك، إذ من الممكن أن يطرق بابه في أي لحظة من اللحظات.. بل إن الموت أقرب وأوضح إليه من النوم، لأن النوم يأتي في ساعات معينة، بينما الموت لا يعلم له وقتا، وإن الإنسان مرشح في كل لحظة لأن يكون في عداد عالم الأموات.
ولكن-مع الأسف- إن الموت الذي لا شك فيه ولا شبهة فيه، لا نتعامل معه بما يستحق من اليقين!.. فليس هناك يقين كالموت، كثر فيه الشك!.. إن البعض لا يزور المقابر، ولا يذهب للمستشفيات، ولا يذهب للفواتح، بل فإن أي شيء يذكره بالموت ينفر منه ويفر منه!.. إن الذي يريد أن يحقق النهايات السعيدة، لابد أن يكون من الذين يفكرون في النهايات وهو في البدايات.. لابد أن يسعى في أن يرقي هذا العلم النظري، إلى علم متغلغل، ويترقى من حالة علم اليقين إلى عين اليقين، ثم إلى حق اليقين.
وإن هذه المشكلة ليست في الموت فقط، بل في كل الأمور النظرية غير المادية، أي في كل أنواع الغيب بدءا من غيب الغيوب واجب الوجود، إلى باقي الغيوب كالمعاد والملائكة والروح.. فإن اليقين بهذه المغيبات، يحتاج إلى حالة من حالات البلوغ الباطني.. إن الطفلة المراهقة التي بلغت التسع سنوات، رغم أنها مكلفة، وكما يقولون لا فرق بين سن التاسعة وسن التسعين، في مقام التكليف.. ولكن مع ذلك، فإنه لا يمكن لابنة التاسعة أن تعلم لذائذ الحياة الزوجية، ولذة الأمومة وغيرها، لأنها لم تصل إلى مرحلة تلمس هذه المعاني.. إن بعض الناس ليس عنده هذا البلوغ، الذي يؤهله إلى أن يلتفت إلى عالم الغيب.
ومن أسباب ترقية الإنسان، والطريق إلى كشف الحقائق:
أولا: التخفيف عن المشتهيات:
إن توغل الإنسان في التلذذ بالماديات، يبعده عن إدراك لذة عالم المعنى.. ولهذا نلاحظ أن رب العالمين، جعل ليلة القدر في شهر رمضان.. لأن أنسب الشهور لدرك حقيقة ليلة القدر وللعبادة، هو في ذلك الشهر، الذي يكف فيه الإنسان نفسه عن الطعام والشراب.. فالصائم بكفه عن الماديات، وباقي المفطرات، كأنه يؤهل لمناجاة الله-عزوجل-، مناجاة بليغة في تلك الليلة، وليس هناك ليلة طوال السنة مثلها في التمحض العبادي.
ثانيا: البحث النظري:
إن المعرفة النظرية دائما مهيئة وليست علة تامة، لتصعيد مستوى اليقين.. ولهذا فالبعض الذي له إيمان فطري بالله-عزوجل-، أي إيمان تعبدي، فإنه عندما يأخذ دورة في العقائد: في الصفات الإلهية الجلالية والكمالية، وفي الأسماء الحسنى، وفي أدلة وجود الخالق، تلاحظ أن هذا اليقين الذي كان عنده يزداد تجليا.
والأمر كذلك بالنسبة للصلاة، فالحركات الظاهرية للصلاة من الركوع والسجود، لهو أمر مرتبط بعالم الأبدان.. ولكن الخشوع والتفاعل القلبي في الصلاة، أمر معنوي غيبي، وهذا التفاعل لا يلمس، لا يدرك، لا يرى، لا يشم.. ولكن الذي يقرأ كتابا في الصلاة الخاشعة، أو يأخذ دورة في الصلاة الخاشعة، فهو عندما يصلي-وإن كان خاشعا فطريا لحبه لله عزوجل-، فإنه يزداد تألقا في هذا المجال.
س٢/ إن الذي يحرك الإنسان في هذه الحياة، ويجعله يسعى ويكافح ويتحمل المشاق والألم، هو الأمل.. ولكن كيف نفرق بين هذا الأمل المحمود، وبين طول الأمل المذموم؟..
إن طول الأمل هو أن يفترض الإنسان لنفسه، وجودا أبديا في هذه الحياة، أو جودا ممتدا، ويبالغ في الاشتغال بأمور الدنيا، والسعي في تأمين الرزق، زيادة عن حاجته، غافلا عن الآخرة.. إن بعض الأثرياء لو أراد أن يعيش من دون عمل، لكان بإمكانه أن يعيش مئتي سنة.. ومن المعلوم أن يسعى الإنسان، ويبرمج زيادة عن العمر الطبيعي، زيادة عما هو مطلوب منه، إن هذا ليس من الطموح، وليس من الأمل المحمود!..
إن الإنسان المؤمن يبرمج حياته، ويعمل من باب أن يكون خليفة لله-عزوجل- حقا، وأن يكون وارثا لله-عزوجل- في أرضه، وأن يكون من الذين يستثمرون الدنيا للآخرة.. وكلما عمل في هذه الدنيا أكثر، تحققت منه حالة العبودية.. ومن حالات العبد الإنفاق، فالفقير لا يمكنه أن ينفق، والذي يبرمج ويخطط، وله آمال وطموح، فإنه يصبح غنيا، ومن ثم يستغل ما عنده في الإنفاق، تقربا إلى الله-عزوجل-.. ولكن هذا كله يعد خيرا للعبد المراقب، وإلا فإن الكفاف خير للمؤمن، إن (ما قل كفى خير مما كثر وألهى).. ولعل الفقر خير للفاسق، لأن المادة بيد الفاسق، أداة للفسق.. ولكن المؤمن يبرمج ويطيل أمله في الحياة الدنيا، بهذه النية التي أشار إليها الإمام علي (ع): (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا).
س٣/ كيف نجعل ذكر الموت، ذكرا فاعلا في حياتنا؟..
إن البعض ينظر إلى الموت نظرة سلبية، وأنه انقطاع عن ما هو متعلق به من زينة الحياة الدنيا، والموت عنده إعدام، ولا يتشوق إلى ما بعد الموت.. وحتى التعبير بالإعدام، تعبير غير دقيق!.. فليس هنالك من إعدام في البين، بل هنالك إزهاق وإخراج للروح من البدن..
وبالتأكيد، فإن حال هذا الإنسان بهذه النظرة العدمية للموت، غير الذي ينظر إلى الموت على أنه نقلة للقاء الإلهي، والاستمتاع بمتع ما وراء الحياة الدنيا.. لأن المؤمن يعتقد بأنه (إذا مات ابن آدم قامت قيامته)، ومن المعلوم أن المتع في عالم البرزخ، وفي جنان الخلد لا تقاس بمتع الدنيا.. فإذا كان من باب المتع، فيتمنى الموت ليستمتع.. وإذا كان من باب الحب الإلهي، فيتمنى الموت ليلتقي بالله-عزوجل-، اللقاء الذي يناسب ذلك العالم.. فالموت بالنسبة للمؤمن، يعتبر انتقالا من عالم موحش إلى عالم مؤنس، من عالم ضيق إلى عالم واسع.
إن الإنسان مثله في هذه الدنيا، كمثل الجنين في بطن أمه.. فالجنين لو خير بين الخروج للدنيا، والبقاء في رحم الأم، فإنه يفضل البقاء في مكانه، لأنه يرى مكانه مريحا، وغذاءه مؤمنا، والجو ملائم والحرارة مناسبة.. فهو مأنوس بما هو فيه، ولا يعلم أن هناك مكان أوسع من العالم الضيق الذي هو فيه، ولا يعلم ما أعدته له هذه الأم من فراش وثير، ومن صدر فيه اللبن السائغ..
فنحن نعيش في رحم الدنيا، ولو علمنا بما بعد هذه النشأة من المتع، لزهدنا في الدنيا كما نزهد في بطون الأمهات!.. نحن الآن عندما نتصور الرحم، وبطن الأم، نكاد نستوحش من هذا المكان الضيق.. ولكن هذا الاستيحاش لم يتحقق إلا بعد الانتقال.. وإن المؤمن قبل أن ينتقل من الدنيا، يعيش هذه الحالة من الوحشة، من ضيق الدنيا، وعدم اتساعها.
وإن العبد الذي يريد أن يصل، ويحقق هذه الحالة من الاستيحاش من الدنيا ومتاعها الزائل وهو في الدنيا، فإن عليه أن يطلب من ربه، أن يزهده في الدنيا.. وقد ورد عن الرسول الأكرم (ص): (إذا أراد الله-عزوجل- بعبد خيرا؛ فقّهه في الدّين، وزهّده في الدنيا، وبصّره بعيوب نفسه).
والأمر يحتاج إلى جذبة إلهية، تلهيه عن متاع الدنيا، عندما تتجلى له بعض أنواع التجليات الإلهية، من ذلك العالم.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.