س١/ إن الملاحظ في أحاديثكم تأكيدكم على أن التكامل للجميع.. ومن المعلوم-كما في كتب الأخلاق والسير والسلوك- أن السير إلى الله تعالى لا يوفق له إلا القليل.. فكيف نوفق بين الأمرين؟..
إننا نؤكد على مسألة التكامل للجميع، لأن البعض عندما نتكلم عن التكامل والسير، ينعزل جانبا، ولا يهتم بهذا الكلام، ويقول: إن هذا الكلام يخص العلماء مثلا، وأما الشاب حدث السن المشغول بالدنيا ومتاعها، أو المرأة ربة البيت المشغولة بشؤون الأسرة والزوج والأولاد؛ فإن هذه أمور لا تعنيهم!..
ولكن نحن نلاحظ أن القرآن الكريم يؤكد على ذلك، في آيات متعددة.. وإن القرآن الكريم هو الذي يؤسس المفاهيم، وهو الدستور، وهو المسطرة التي لابد أن نمشي عليها.. ومن الأمور التي يؤكد عليها القرآن الكريم، مسألة لزوم الكدح، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ}.. ومن المعلوم أن الكدح أعلى من السير، فالكدح هو السير بإصرار وبتعب.. وأيضا، نلاحظ الحث على الفرار إلى الله تعالى، قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}.. وفي آية أخرى، الحث على اتخاذ السبيل: {فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا}.. فهذه التعابير كلها، تدل على أن المؤمن في عملية انتقال من النقص إلى الكمال..
إلا أننا عادة نخلط بين التكامل وبين العبادة الجوارحية.. فترى إنسانا قد يصلي أربعين سنة، ولكنه لم يحقق التكامل.. فإن (الصلاة معراج المؤمن)، والذي لا ينتقل إلى ملكوت الصلاة، فهو لم يتكامل، وإنما أسقط التكليف، وفي يوم القيامة لا يعاقب عقاب تاركي الصلاة.. فإن البعض يظن أن سلوك طريق التكامل، خاص لفئة من الناس، ولكن-كما قلنا- إن الآيات القرآنية والروايات التي تدعو لذلك كثيرة، قال تعالى: {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}.. وعن الإمام الكاظم (ع): (ليس منا مَن لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسنا استزاد منه، وإن عمل سيئا استغفر الله منه وتاب إليه)..
فالمستفاد من الروايات والآيات، أن الكل مطالب بأن يسعى للتكامل، وأن يكون من أهل الكمال.. وإن المطلوب أن يبدأ من ساعة البلوغ، لا أن يلهو ويلعب على أمل أن يعود إلى ربه في سن الأربعين!.. إنما من ساعة التكليف هناك مطالبة ببدء عميلة التكامل.. وإن كانت هذه الحركة التكاملية، قد تكون حركة بطيئة، للبنت المكلفة التي في سن التاسعة، وكذلك بالنسبة للشاب البالغ.. ولكن هذه العملية لابد أن تبدأ، لتعطي ثمارها بعد أربعين سنة.
ولنتأمل جيدا في قوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}.. إن من المعلوم أن المساءلة الإلهية يوم القيامة، هي للجميع.. والملفت أنه لم يقال في الآية: (مآخذون)، أو (معاقبون)، بل (مسؤولون)، أي في موقف المساءلة!.. ويفهم من بعض النصوص، أن في عرصات القيامة كما أن هناك معاقبة للبعض، أيضا هناك معاتبة للبعض!.. فالمكروهات التي كان يمكن للمؤمن التغاضي عنها، ولم يفعل، فإنه يقال له: لماذا ارتكبت ما لا يرضي رب العالمين؟.. أو لماذا تسامحت في المستحب الفلاني؟.. وإن كانت المساءلة من باب العتاب الذي لا يستتبع عقابا، إلا أن عتاب رب العالمين يوجب الخجل والاستحياء.. وإن كان في نار جهنم هناك خجل في أوجه وبأشده، ولكن المعاتبة في ترك المستحبات وفعل المكروهات، أيضا توجب الخجل.. وإن التفكير في هذا الموقف، لمن موجبات أن يرتدع المؤمن في هذا المجال أيضا!.
س٢/ ما الفرق بين التكامل الأنفسي والتكامل العبادي؟..
إن التكامل في الجانب العبادي، بمعنى إتقان الجانب العبادي، إنما هو الإتيان بهيكل العمل.. ولكن العبادات كلها لها ظاهر، ولها باطن، كما يستفاد من الروايات المختلفة، كحديث الشبلي وغيره.. فالصوم له حقيقة واقعية، ما وراء كف النفس عن الطعام والشراب؛ والحج هو لقاء الله تعالى، لا مجرد الطواف والسعي؛ وكذلك الصلاة والإنفاق..
وإن الذي لا يفكر في تحويل العبادات إلى رتبة باطنية في عالم الأنفس، فهذا الإنسان سوف يبقى في عالم العمل الجوارحي.. ولهذا فلا نستغرب، أو لا نستبعد، أن نرى من كان-وما زال- يواظب على صلوات الجماعة دهرا من عمره، أنه عند المال الحرام لا يستنكف، ولا يرتدع.. بل إنه يُعلم من ذلك، أن العبادات إن لم تقترن بهذه المراقبة الجوارحية، فإنها لا تعطي ثمارها كاملة.
س٣/ إن البعض يشتكي من صعوبة السعي للتكامل، لبعض المعوقات الملازمة له، وخاصة في المجتمع النسائي.. فما تعليقكم على ذلك؟..
إن النساء من ناحية هن أكثر قابلية من الرجال في مجال التكامل الأنفسي، ومن ناحية أخرى هن أقل قابلية..
فأما الجانب الإيجابي عند النساء، فمن الممكن أن نحصره في أمرين:
الأول: الرقة العاطفية:
إن من المعلوم أن قلب المرأة سريع التعلق، فإنها من الممكن أن تحب بسرعة وبسهولة.. ولهذا نلاحظ بأن المشاكل الشبابية في هذه الأيام-في كثير من الحالات- سببها المرأة، فهي التي تنصب الفخ للرجل، وتوقعه في شباكها، في دائرة الحرام.. ولذا نحن نقول: إن هذا الخيط الذي خرج من القلب، بدلا من أن يربط بالباطل وبالفانيات، فليربط بالملأ الأعلى، كآسيا، ومريم، ومولاتنا فاطمة الزهراء (ع).. إن هذا القلب الذي يمكن أن يحب بسرعة وبسهولة، لماذا لا نجعله محطة ومحلا للحب الإلهي؟.. عن الإمام الصادق (ع): (القلب حرم الله، فلا تسكن حرم الله غير الله).
والثاني: الفراغ:
إن من مثبطات الهمم، ومن العقبات في الطريق إلى الله تعالى، هو انشغال الرجال بزحمة الأسواق، وغيره من بيئ العمل.. ولكن المرأة معفية من هذا المجال، إذ يأتيها الرزق رغدا من الزوج، أو من الإرث، أو من أولاد صالحين، أو غيره..
فإذن، إن الرقة العاطفية، والفراغ الذي لدى النساء، هذان عنصران مساعدان.
وأما الجانب السلبي، فهو الانشغال الزائد بالأمور الدنيوية:
إن اهتمام المرأة بجانب الزينة والزخارف، وجزيئات المتاع الدنيوي، لمن موجبات التأخر عن ركب التكامل.. فإن المرأة التي تجعل همها في الحلي والحلل، ومتاع الدنيا: الملبوس، والمأكول، والمشموم، فإن قلبها يُحجز بهذا المتاع، وبمقدار ما حُجز القلب لا يمكن للتجليات الإلهية أن تجد طريقا إليه.
إن رب العالمين أنواره أنوار عزيزة، (جل جناب الحق أن يكون شريعة لكل وارد).. إن رب العالمين لا يجعل التجليات المتعلقة به، وبالنظرة المرتبطة به، وأنواع النعيم المرتبط به، في القلب المشغول ولو كان الانشغال لصنم واحد: حب الأولاد، أو حب المنصب، أو حب الرئاسة.. فما دام هناك صنم، فإن القلب يتحول إلى معبد للأصنام.. فليس من اللازم أن يكون المعبد مليئا بالأصنام، بل ما دام فيه ولو صنم بمقدار أنملة، فإن هذا معبد، وما دام هو معبد لا يصح أن يكون مسجدا!..
إن هذا القلب إذا شغل بغير الله تعالى، لا يمكن أن يكون لله تعالى.. وكما في مضمون بعض الروايات: (إن الله خير الشريكين).. فمثلا: لو أن إنسانا عمل عملا صالحا، يريد به وجه الله تعالى، وخالطه بشائبة الرياء، وبالرغبة في ثناء الآخرين.. ولو كان هذا العمل بنسبة تسعين بالمئة لله تعالى، وعشرة بالمئة لغيره، فإنه غير مقبول ومردود.. فإن رب العالمين يقول: أنا لا أريد هذا العمل، وما عملته لي سأعطيه للشريك الآخر!..
فإذن، علمنا لماذا أن النساء في هذا المجال لهن قابلية من جهة، ولهن موجبات ضعف من جهة أخرى.. وفق الله تعالى الجميع لأن نكون على درب أوليائه الصالحين، من الذكور والإناث.. والتاريخ مليء بالعناصر المتميزة.. ففي عالم النساء هناك المتميزات، وعلى رأسهن سيدة نساء العالمين على الإطلاق فاطمة الزهراء (ع)، وسيدة نساء زمانها مريم (ع).. وفي الرجال هناك الأنبياء والأوصياء، والأولياء والصالحين.. وعلينا أن نتأسى بهم، لنحقق-إن شاء الله تعالى- ذلك اللقاء والرضوان، الذي نريده في الجنة.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.