س١/ إن النوافل مع أنها متصفة بعدم الوجوب، إلا أن لها دورا كبيرا في عملية التكامل.. فكيف يمكننا الجمع بين عدم الوجوب، والضرورة للتكامل؟..
إن من المناسب مراجعة حديث قرب النوافل، فهذه من الروايات التي وردت في كتب الفريقين وبكثرة، وبصيغ مختلفة، وهي رواية ليس فيها ما يثير الرفض أو الإنكار، بل مطابقة للعمومات..
عن النبي (ص) أنه قال: (ما تقرب إلي عبدي بأحب إلي مما افترضته عليه.. ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل، حتى أحبه.. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ولئن سألني لأعطينه، ولأن استعاذني لأعيذنه)..
ومن الملفت في الرواية: أن الذي يقرب العبد إلى الله تعالى، هو العمل بالفرائض، ولكن المحبوبية تأتي من المداومة على النوافل، وإن كان الحديث سمي بحديث قرب النوافل.
وللتقريب نذكر هذا المثال: إن من المعلوم أن الصواريخ تحتاج-لترتفع إلى الفضاء الخارجي- إلى محركات قوية، تخرجها من دائرة الجاذبية الأرضية.. ثم إنها عندما تستقر في نقطة معينة، تحلق وتبحث وتسير في الفضاء الخارجي..
فيمكن أن نقول أن الفرائض هي بمثابة المحركات، التي تخرج الإنسان من دائرة الهوى إلى دائرة الهدى، من دائرة التثاقل إلى الأرض إلى دائرة التعالي في مدارج الكمال.. ولهذا فإن المعني بقوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}، من هو على غير خط الهدى.. فإذا استقر الإنسان، بمعنى أنه صار مطيعا، ويأتي بالفرائض، ويترك المحرمات، فهو يريد حينئذ أن يتفنن في القرب..
وللتقريب نذكر مثالا آخر: لو أن إنسانا لا يسمح له بالدخول إلى قصر السلطان، ولكنه تمكن أن يدخل بقيامه ببعض الأعمال.. فهو بعد أن دخل، يريد أن يتفنن في التودد إلى السلطان، والتقرب منه، فتارة بالمديح، وتارة بالشعر، وتارة بالخدمة..
فالفرائض بمثابة الأعمال التي تمكن من الدخول إلى قصر السلطان.. والنوافل بمثابة التفنن في التودد والتقرب من السلطان.
فإذن، إن النوافل هي غير ضرورية من جهة، وضرورية من جهة أخرى.. فإنها غير ضرورية؛ لأن الإنسان لو مات وهو مقتصر على أداء الواجبات، دخل الجنة قطعا.. فليس هناك من يقول أن دخول الجنة، متوقف على النوافل..
ولكن الذي يريد الوصول إلى الله تعالى، لابد له من قيام الليل، كما ورد عن الإمام العسكري (ع): (إن الوصول إلى الله تعالى سفر، لا يدرك إلا بامتطاء الليل).. فللوصول إلى مملكة المولى تعالى، هناك مسافات، لا تقطع إلا بامتطاء الليل.. وكأن الليل مركب يركبه السائر إلى الله تعالى، وكلما داوم على القيام قطع المسافات حتى يصل.
س٢/ إن الملاحظ أن البعض يمتنع عن حضور صلاة الجماعة، بعذر عدم وجود حالة الإقبال.. فما تعليقكم على ذلك؟..
إن صلاة الجماعة من أهم المستحبات.. وإذا أردنا أن نعمل جردا للمستحبات التي ورد فيها تأكيدا، فنجد أنه قلما ورد التأكيد على شيء، كما ورد في التأكيد على نافلة الليل، وصلاة الجماعة.
وهما تقريبا عبادتان متعاكستان.. فنافلة الليل تؤدى في المنزل، وفي جوف الليل في الستر؛ وصلاة الجماعة تؤدى في بيوت الله تعالى، أي في العلن.. فيبدو أن المؤمن يحتاج إلى الصفتين: الخلوة مع رب العالمين في سره، والخلوة مع رب العالمين في جهره.. فصلاة الجماعة أيضا خلوة، فمن يصلي فهو في صلاته يختلي مع الله تعالى، ولكن في ضمن صفوف الجماعة.
ولكن الشيطان-كما هو معروف- وسوسته لكل فئة بحسبها.. فوسوسته للفسقة، هي: بشرب الخمر، والزنا وغيره.. ووسوسته للمؤمنين، هي: بتثبيطهم عن العمل المرضي لله تعالى.. فتراه-مثلا- يثبط البعض عن صلاة الجماعة، بدعوى أن هذا يحتاج للخروج من المنزل، وهو يعيش في جو معين، ويقرأ كتابا، وإذا خرج فمقدمات الاستعداد للصلاة والطريق، تحرمه من قراءة هذا الكتاب.. أو أنه يواجه العصاة في المسجد، وقساة القلوب، ويخشى من العدوى..
ولكن إذا كان الأمر كذلك، فلماذا رسول الله (ص) دعا للجمعة والجماعة إلى درجة كبيرة، وقد ورد في مضمون رواية: (إن ركعة من صلاة الجماعة، لا يحصي ثوابها إلا الله تعالى)؟!.. إن هذا تسويل شيطاني، وينبغي الحذر!..
وما المانع أن يجمع المؤمن بين جوه الذي يكون في المنزل، وصلاته في المسجد جماعة.. صحيح أن هناك جمعا من الناس، ولكن أنت عندما تصلي فوجهك للقبلة، ومن بجانبك لا يرى ماذا تعمل.. وأنت في حال السجود مثلا، ما الفرق بين سجودك في المنزل، وسجودك في المسجد؟!.. إن المؤمن بإمكانه أن يعيش جوه المنزلي الذي في صلاة الليل مثلا، أن يعيشه في صلاة الجماعة في المسجد، وإذا انتهى من الصلاة عاد إلى جوه الاجتماعي..
فلابد أن نكون كرسول الله (ص)، الذي كان إذا دخل وقت الصلاة، كان كأنه لا يعرف أحدا، ولكنه بعد أن يصلي يعود إلى ما كان عليه.. كما ورد عن إحدى زوجاته: (كان النبي (ص) في بيته هاشا، باشا وكان ضحاكا في بيته، وكان يجلس معنا يحدثنا ونحدثه.. فإذا أذّن للصلاة، كأنه لا يعرفنا ولا نعرفه)..
وقد كان النبي (ص) لما كان يصلي-وما أدراك ما صلاته!.. إنها معراج بكل معنى الكلمة- ويحس أن هناك من بجانبه له سؤال أو له حاجة، يعجل في صلاته ويختمها بسرعة، ليقضي حاجة المؤمن.. فنلاحظ حتى وهو في قمة الانشغال مع رب العالمين، لا ينسى حوائج الناس.. وكذلك المرتضى (ع) كان كأخيه، وكما نعلم في قضية ذلك السائل الذي سأل المسلمين، فقدم له الخاتم.. فهم في قمة الانشغال بالحديث مع رب العالمين، ولهم خلوتهم الروحية، ولكنهم لا يغفلون عن الواجبات الاجتماعية.
س٣/ هل من السائغ أن ينقل المؤمن بركات صلاة الجماعة إلى منزله؟..
لا مانع من ذلك، ولكن للمؤمن الذي يوثق بعدالته.. ومن المعلوم أن قمة العدالة، هي عدالة الإنسان أمام عائلته؛ لأن الزوجة والأولاد، هم أخبر الناس بالإنسان، وبأحواله في الخلوات، وهنيئا لمن كان عادلا عند زوجته!..
فما المانع إذا أحرزت العدالة، وصحت القراءة، وباقي الشروط، أن يحول الإنسان المؤمن البيت إلى مسجد.. وخاصة أن البعض قد يوفق أن يصلي الظهرين والعشائين في المسجد جماعة، ولكنه في خصوص صلاة الفجر يحرم من ذلك.. فما المانع أن ينقل البركات إلى منزله، وخاصة إذا اتخذ مصلى في منزله، كالبعض الذي يتخذ في المنزل مصلى، ويفرشه بطريقة تشبه المساجد، بحيث يكون له هذا السجاد القصير، وله محراب، ويضع فيه مصحفا، وكتاب دعاء؛ فيجعل له مسجدا مصغرا في غرفة من غرف المنزل، ويصلي فيه على هيئة الجماعة.. وإن المؤمن ليتفنن في طرق القرب إلى الله تعالى، ومنه هذا العمل.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.