– إن لقبول الأعمال مقياسا، لا يكشف زواياه ويعرف خوالجه؛ إلا من جعل تلك الأعمال ممتثلة نصب عينيه، ظاهرة بارزة أمامه.. فمن المعلوم أن الذي يستعجل هلال العيد، ويترقب ظهوره، ينظر إلى تلك الثمار اليانعة، التي قد حان قطافها ليحصدها.. فليلة العيد تعد ليلة عظيمة القدر، وقد تضاهي وتقابل سموها ليلة القدر؛ من حيث الأعمال الكثيرة، والأذكار الجمة الواردة في هذه الليلة؛ فهي ليلة العتق من النار على كل الأحوال.
– ولا شك بأن كل إنسان يأنس بوجود حبيبه؛ فيتمنى طول مقامه، ولا يشبعه طول الحديث معه، بل يتمنى المزيد والمزيد.. ولا خلاف في أن الوقت مع هذا الحبيب قصير ، يمضي سريعاً، وإن قرب الرحيل حدث ولا حرج بلوعة الفراق ولهفة المشتاق!.. والعكس صحيح، فلو حل بالدار شخص ثقيل على البال؛ لعدّ الدقائق والثواني، وضاقت به الحال، وللاحت البشرى على محياه وقت الترحال!.. ومن هنا فالذي يجد في نفسه ثقلاً بقيودات الشهر الكريم، فيؤديها على مضض؛ نراه يفرح بهلال العيد.. أما عشاق شهر رمضان فهم على العكس تماماً، حيث ترتسم الكآبة على وجوههم، ويغلبهم الحزن، وكأنهم قد فقدوا عزيزاً يصعب عليهم توديعه وفراقه.. وهذا الإمام زين العباد (ع)، عند رؤيته لهلال العيد، نطق بكلمات التفجع والألم، وأخذ يندب هذا الشهر وينعاه.. ومن الطبيعي جداً أن تفسر مثل هذه الحالة، بوجود السنخية والمزاوجة والارتباط الوثيق، بين شهر الله الكريم وعشاقه.
– إن البعض منا قد يحرم من بركات هذا الشهر الكريم؛ لعوائق تمنعه من صيامه وقيامه.. فتكون أيام شهر رمضان كسائر الأيام، وساعاته تمر من دون فائدة ترجى؛ متناسين أن الأنفاس فيه تسبيح، والنوم فيه عباده، (فمن تساوى يوماه فهو مغبون)!.. وقياساً نقول: بأنه مغبون من تساوى شهراه أيضاً.. إذ من المعلوم أن الإنسان كلما تقدم في العمر، ازداد رشداً وبلوغاً فكرياً أكثر في أمور الحياة.. فلماذا هذا السكون والثبات في المجال العبادي: صلاة، وصوماً، وحجاً… الخ؟!.. ليسأل المؤمن نفسه: أنه ما الفرق بين صيامه هذا العام، والعام الذي قبله، وكيف سيكون الذي يليه؛ كي يسعى لتحقيق الأفضل عاماً بعد آخر.. فتشابه وتساوي الأعمال، دائماً ما تحكي عن نقص في القابلية والفعلية، التي لابد للعبد من تطويرها في نفسه.. ومن تعزيزها في جوانحه التي تعبر عن مدى صدق العبد في طاعة المولى عزوجل، والإخلاص في التغلب على نزواته ورغباته.
– إنه لمن المناسب جداً استغلال اللحظات الأخيرة من الشهر الكريم: بالاستجداء من الرب الكريم، وإكثار الدعاء والتضرع إليه تعالى؛ فإنها من مواطن الإجابة.. حيث تتغير الأجواء وترتفع المائدة الإلهية: فلا يعد النوم عبادة، ولا النفس تسبيحاً، ولا الدعاء مجاباً، ولا الأعمال مقبولة، والأهم من ذلك أنه يصير بين يدي الشياطين، التي تنفست الصعداء بعدما كانت حبيسة الأغلال، المملوءة بالغيظ، والتي تترقب هذه الفرصة للانتقام منه شر انتقام!.. فهل أعددنا العدة لهذه الحملة الشعواء؟!.
– ومن هنا يعد شهر شوال، من أشح الشهور وأجفاها في التقرب والعبادة.. فبعد سياحة عبادية راقية، متمثلة في أشهر الطاعة الثلاثة، تطلق الشياطين أخيراً أغلالها، وترتفع الملائكة؛ لتنقم من العبد بعدما ارتقت نفسه في ملكوت رضا الإله عزوجل.. فمثل أحدنا كمثل من تزود من غدير ماء عذب، ليواجه صحراء قاحلة قاسية، لا يجد سوى السراب والنصب فيها.. غير أنه من الممكن أن تتبدل هذه الأرض القاحلة إلى واحة غناء.. وذلك بالعمل المستمر، والكدح الدائم من أول أيام شهر شوال؛ فهو يحتاج إلى متابعة ومراقبة.. وخير المراقبة الاستمرارية في الاستغفار؛ فإنه ورد المؤمن الدائم، وليس من الضروري أن يكون عقيب ارتكاب المعصية.. إذ أن كل انشغال أو التهاء عن المولى -جل وعلا- يوجب الاستغفار.. ومن هنا ورد التأكيد على استحبابية الاستغفار -سبعين مرة- بعد صلاة العصر.. فإن ذلك كفيل بأن يجعل المؤمن يحافظ على مستوى إيمانه وارتقائه وتكامله.. فاصطناع الأجواء المناسبة في شهر شوال، تعد صورة صادقة للعبد المحب، الذي لا يطيق مفارقة محبوبه على كل الأحوال.
– لا يختلف اثنان في حال الناس يوم العيد من: السرف، والترف، والتبذير؛ بحجة أن اليوم عيد فلنفعل ما نريد!.. والحال بأن ذلك ما هو إلا وهم في وهم، فما الفرق بينه وبين فرح الأطفال الذين يترقبون العيد؛ شوقاً للهدايا واللبس الجديد!.. فليس العيد لمن لبس الجديد؛ إنما العيد لمن أمن الوعيد، وللمؤمن الذي وفق للصيام والقيام، ونال المغفرة والرضوان.. فهنيئاً لهكذا إنسان!.
وبعد إلمامة موجزة عن هذا الشهر العظيم، وعوائدة الجمة، وعطاياه الزاخرة؛ عارفين بحقه، وعظم شرفه.. علينا أن نسعى حثيث السعي للمحافظة على هذه الثمار المجنية بعد طول انتظار؛ فنجعل هذه الثمرات عائدة علينا بالخير والبركات في جميع الأمكنة والأوقات.
– كيف نثبت المكاسب المجنية من شهر الله الكريم؟..
أولاً: التخطيط الفكري وبرمجة العمل: على المؤمن أن يكون يقظا وحذرا؛ لما ينتظره من قبل الشياطين ليلة العيد.. حيث أنه لابد أن يكون مدافعاً حذقاً كالجندي؛ ليذب هو عن نفسه، ويطرد غارات إبليس اللعين وجنوده، من أفعال جوارحه، واعتقادات جوانحه.
ثانياً: المداومة والاستمرارية: قال تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ}.. إن تعهد العبادة والمداومة عليها بعد شهر الرحمة والرضوان: بالتزام الصلاة في المساجد، وتلاوة القرآن، وقراءة الدعاء، وتخصيص وقت للتفرغ والعبادة في سحر الليالي؛ تمثل صدق وفاء العبد في جنب الرب جل وعلا.. حيث وإن اختلفت الأزمنة وتباعدت؛ سيبقى المحب دائم الصلة بمن هوى وأحب.
ثالثاً: المراقبة الجادة: إن المراقبة الواعية من العبد لنفسه؛ تجعله دائم النشاط والهمة في التقرب والعبادة، بعيداً تمام البعد عن الكسل والفترة، كالمراقب للنبتة؛ فدائماً ما يسعى لأن يتعهدها بالسقاية والرعاية.. بعكس الذي لا يكترث بشأن النبتة؛ فإنها حتماً ستفقد رونقها، وتذبل بعدما كانت مضرباً للروعة والجمال.. ومن هنا لابد أن نأخذ درساً بليغاً على التعهد بالمراقبة والمحاسبة والمعاتبة؛ لنحفظ ديننا ودنيانا من كل بلية وآفة.. فدوام الاستغفار، والذكر؛ تجعل العاشق يراقب عمله؛ لأنه واقع تحت نظر من عشق .
رابعاً: خوف السلب: إن من موجبات سلب النعم وحرمانها، إنكارها بعد أن منّ الباري بها علينا.
فدائماً ما نرى هذه الانتكاسات ما تقترن بعد العبادة التكاملية، والتوجه القلبي لها.. وذاك بكفرانها، والإساءة في رعايتها، وعدم المحافظة عليها.
ومن المناسب هنا أن نقف وقفة تأملية، مع فقرات من مناجاة الإمام السجاد (ع) في وداعه لشهر رمضان، وكأنه يودع عزيزاً عليه، آلمه فراقه:
* (وقد أقام فينا هذا الشهر مقام حمد، وصحبنا صحبة مبرور، وأربحنا أفضل أرباح العالمين): أعظم به ربحاً!.. النوم فيه عبادة، والأنفاس تسبيح، والآية فيه تعدل الختمة.
* ( ثم قد فارقنا عند تمام وقته، وانقطاع مدته، ووفاء عدده.. فنحن مودعوه وداع من عز فراقه علينا، وغمنا وأوحشنا انصرافه عنا): رفيق عزيز، عاش معنا ثلاثين يوماً وليلة، وها نحن مودعوه.
* (السلام عليك يا شهر الله الأكبر، ويا عيد أوليائه): إن الإمام (ع) يسلم على الشهر الكريم سلام الوداع، ويناديه بأنه عيد أولياء الله.. نعم، فليس يوم العيد بعيد، بل هو فراق العيد.. إذ أن كل يوم في شهر رمضان، كان عيداً لأولياء الله.
* (السلام عليك من أليف آنس مقبلا فسر، وأوحش منقضيا فمض.. السلام عليك من مجاور؛ رقت فيه القلوب، وقلت فيه الذنوب..): إن من بركات هذه الشهر الكريم: رقة القلب، وسرعة جريان الدمعة من خشية الله تعالى .
* (السلام عليك من ناصر أعان على الشيطان، وصاحب سهل سبل الإحسان، السلام عليك ما أكثر عتقاء الله فيك): ومن بركاته أيضاً كثرة العتقاء من النار، ففي كل يوم يعتق ألف ألف عتيق!.
* (السلام عليك ما كان أطولك على المجرمين، وأهيبك في صدور المؤمنين): فالمجرم المفطر، الذي لم يكن يرعى حرمة الله في هذا الشهر الكريم، من الطبيعي أنه كان شهرا ثقيلاً عليه.
* (السلام عليك ما كان أحرصنا بالأمس عليك، وأشد شوقنا غدا إليك): إنا كنا حريصين عليه، ولا نعلم بأنه ينتهي.. أما الآن فقد أخذنا الحنين والشوق إليه.
* (اللهم!.. وما ألممنا به في شهرنا هذا من لمم أو أثم، أو واقعنا فيه من ذنب، واكتسبنا فيه من خطيئة على تعمد منا، أو على نسيان ظلمنا فيه أنفسنا، أو انتهكنا به حرمة من غيرنا.. فصل على محمد وآله!.. واسترنا بسترك، واعف عنا بعفوك، ولا تنصبنا فيه لأعين الشامتين، ولا تبسط علينا فيه ألسن الطاعنين!.. واستعملنا بما يكون حطة وكفارة لما أنكرت منا فيه، برأفتك التي لا تنفد، وفضلك الذي لا ينقص.. اللهم صل على محمد وآله!.. واجبر مصيبتنا بشهرنا، وبارك لنا في يوم عيدنا وفطرنا، واجعله من خير يوم مر علينا؛ أجلبه لعفو، وأمحاه لذنب.. واغفر لنا ما خفي من ذنوبنا، وما علن).
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.