– من الملاحظ هذه الأيام أن هنالك حركة فطرية طبيعية مشغلة لبال الكثيرين ، ألا وهي أن الكل أصبح يتطلع إلى الوصول إلى درجة من درجات الكمال.. ومنشأ هذه الحركة هو أمران ، الأول : العودة إلى الذات ، فإن المؤمن بعد أن عاش وجرب سلسلة من التجارب المتنوعة في استذواق لذائذ هذه الدنيا المحدودة ، تنتابه حالة من الفتور والملل ، فلا يرى لتلك بهجة ولا لذة.. أما الأمر الآخر : فهو الانتشار المعلوماتي والانفتاح الثقافي ، الذي أدى إلى توعية جماهيرية قلما عهدت من قبل ، حيث صار الأمر مستساغاً سهلاً ميسراً ، ليس فقط لطلاب العلم بل وحتى لربات البيوت في المنازل.
– إن الإنسان المؤمن الذي يعيش سنوات من المجاهدة والمراقبة ، لابد وأنه سيصل إلى حالة من التكامل النسبي ، تؤهله أن يلقى ربه وهو على أفضل حالة.. وإنه ليفكر كيف يرسم مستقبله اللامحدود الأبدي بهذه السنوات المحدودة التي سرعان ما تطوى !.. فكيف به أن يقنع أن يكون من الضيفان في الجنة ، وغايته القصوى حوز الرضوان الإلهي ومجاورة النبي وآله(ع) ؟!.
– غير أن الأمر يحتاج إلى إرشاد صحيح ، لأنه -مع الأسف- نتيجة لعدم وجود مقاييس دقيقة ثابتة -كما هو الحال في بعض العلوم- ، فإنه صار الخلط والخبط ، فبرزت الاتجاهات الباطلة والأفكار المنحرفة عبر التأريخ كالمتصوفة وغيرهم.. هنالك نظرية نعتقد بصحتها ، وهي : أن الأئمة (ع) لما أوتوا من تأثير في القلوب ، ولما أعطوا من ملكات تجعل الناس متوجهة إليهم ، فقد ظهرت حركات مضادة ، لاقت ترحيباً ودعماً من قبل أئمة الجور ، والتي لم تستهدف فقط القضاء على أبدانهم الطاهرة ، بل أيضاً اغتيال الشخصية ، محواً لذلك التأثير واستقطاباً للجمهور العريض ؛ ولو أن الأمر بحسب الظاهر دعوة للإسلام ، غير أن باطنه ضلال في ضلال !..
وعليه، ينبغي للمؤمن الذي يريد التكامل لنفسه أو لغيره تعيين المنهجية الواضحة ، فلينظر من يتبع ، وممن يستقي ، أمن العذب الزلال أم من الملح الأجاج !.. لو أنه اشترى جهازاً جديداً ، ألا تراه يراجع المصنع المنتج له ، أو الكتيب الذي يرافقه ؟.
– إن الروح الإنسانية من أغلى وأثمن وأعقد موجودات هذا العالم ، فكيف يمكن اكتشاف أسرارها ، وما هو الطريق لاستئصال الحسد منها مثلاً ؟!.. إن الله سبحانه وتعالى ما أمر الملائكة بالسجود لآدم (ع) ، إلا بعد أن نفخ فيه هذه اللطيفة الربانية.. إذن، لاكتشاف هذا الوجود ، ينبغي مراجعة العليم الخبير ، وهو الله سبحانه وتعالى ، وقد كشف المعلومات عن هذه النفس من خلال طريقين :
* الأول : في كتبه السماوية.. إذ أن القرآن الكريم محتوٍ على آيات كثيرة متناولة لهذه المصطلحات : الروح ، النفس ، القلب.. ويكفي هنا أن نشير إلى هذه الآية : {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} : أي أن الله عزوجل عندما يأتي يوم القيامة ، وينظر إلى حصيلة هذا التراث الإنساني الكبير ، الذي امتد إلى ملايين السنيين ، بل قد يكون المليارات ، فإن الثمرة التي ينظر إليها هي هذا القلب السليم !.
* والثاني : فهو التراث الحديثي.. إذ هو يمثل عوناً كبيراً لامتلاك حصيلة فكرية معرفية ، في مجال معرفة النفس ، وتهذيبها ، والسعي بها إلى مدارج الكمال.. وإن من أروع المجاميع في هذا المجال ، هو كتاب (جهاد النفس) في وسائل الشيعة للحر العاملي (قدس سره).
* وهناك طريق ثالث وهو : البصيرة.. وهو حصيلة لتلك الثروة المستقاة من الطريقين السابقين ، فهو بهذه الخلفية بإمكانه أن يخرج بنتائج إبداعية تأملية ، تنبثق من أعماق نفسه ، مزيتها أنها في أصولها مأخوذة من الكتاب والسنة ، ولكنها تناسب حالته.. فإن العلماء يتكلمون في الأمور العامة ، ولكن كيف له أن يطبق هذا الأمر على نفسه ، فإن الأمر يحتاج إلى بصيرة.
– إن من الأبحاث المشكلة في علم الأخلاق ، والتي سببت في انحراف البعض ؛ إما لسوء الفهم لأصل المفهوم ، أو لسوء التطبيق ، فوقعوا في الخلط بين العزلة البدنية والعزلة الروحية ، فتراه يغلق على نفسه الأبواب ، ويقل حديثه وإن كان نافعاً ، وقد ينصرف عن إكمال نصف دينه ، فيرفض الزواج ، وبالتالي فهو يتحول إلى إنسان مجانب في سلوكه لمسلمات الشريعة.. وهذا لأنه لم يفهم المعنى الصحيح للعزلة ، الذي هو اعتزال قلبي عن الأباطيل ؛ وقد ترى البعض يكون مستوعباً للمفهوم ، ولكنه قد يتخبط في التطبيق من حيث لا يشعر.. إن من مصاديق العزلة النافعة ، العزلة اليومية في سويعات الليل.. وقد ورد عن الإمام العسكري (ع) -وهو نور من الأنوار اللاحدة في هذا الطريق- : (الوصول إلى الله سفر ، لا يدرك إلا بامتطاء الليل).. وعليه، إن الإنسان يحتاج إلى نور من ربه ، إلى مدد إلهي ، سواء لكشف المفاهيم ، أم في تطبيقها.
– إن من الموانع المهمة في هذا الطريق : وقوف الشيطان في طريق بني آدم.. فهو حاقد ويغلي حسداً ضد كل من يحاول الخروج عن سلطانه ، ويتمرد عليه ؛ إذ كيف هو عصى وتمرد على رب العالمين ، وهذا يكون خاضعا متذللا مطيعا !.. بلا شك إن الشياطين من أنبغ الوجودات ، ولها خبرتها العريضة في الإغواء منذ خلقة آدم (ع) ، فهي بدلاً من إغواء الناس البسطاء ، تركز الجهد على العناصر المؤثرة في الأمة.
– من الأمور المهمة التي تعين الإنسان في هذا الطريق : البطانة الصالحة المؤثرة في سلوك المؤمن ، والتي تقربه من المولى عزوجل.. فإذا هو لم يبحث عن الصالحين ويعاشرهم ، فمن الطبيعي أن يتحول الأمر تلقائياً إلى البطانة السيئة ، ومن المعلوم أن المرء على دين خليله ، فلينظر أحدكم من يخالل.
– إن الله سبحانه وتعالى إذا علم بصدق عبده ، فإنه سيسوق له في الوقت المناسب من يكون له دليلاً له في حركته إلى الله تعالى ؛ فلا ينبغي أن ينتابه اليأس ، بل عليه أن يعزم نيته على الاستمرارية في المجاهدة المتصلة إلى أن يلقى ربه تعالى : {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه}.. فإنه الله عزوجل البصير بالعباد ، فكما كفَّل مريم لزكريا (ع) لما رأى فيها القابلية والصدق ، فإنه يهيئ له ما يصلح أمره.
– أخيراً : إن المؤمن في حركته الدائبة في توسل دائم إلى رب العالمين ، لأن يبارك في سعيه.. فهو مسبب الأسباب ، وهو سبب من لا سبب له ، وهو الذي يسبب الأسباب من غير سبب.. فليكثر من الدعاء في خلوات الليل ، وجلوات النهار ، وفي مشاهد أحبته وأوليائه ، وعند زيارته لبيته الحرام ، وقبر نبيه المصطفى (ص) والأئمة من ذريته (ع) ؛ ليطلب من الله عزوجل طلباً حثيثاً في أن يفتح له الأبواب ، والله عزوجل -كما في بعض الأخبار- يستحي أن يرد يدي عبده صفراً إذا مدت إليه.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.