– إن الآية القرآنية الداعية إلى النصر.. هذه الآية عامة لكل الطبقات الاجتماعية: نساء، ورجالا.. {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}؛ بمعنى الجماعة، والجماعة تنطبق على جماعة الرجال وجماعة النساء.. فآية النصر مبدئيا آية واسعة في مفهومها، وشاملة لما يسمى هذه الأيام: بالحوزات الرجالية، والحوزات النسائية.
– إن البعض من المفكرين أو الفلاسفة يقولون: بأن العلم يطلب لنفسه، سواء أفاد حركة في الحياة أو لم يفد، انتقل إلى الغير أو لم ينتقل.. والحال بأن الآية الكريمة صريحة، في أن المفهوم الإسلامي للعلم والتعلم، ليس كذلك {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}.. فالقرآن الكريم مليء بالإشارات والنكات، وهذه الآية وكأنها آية تبليغية.. ولكن في كل كلمة من هذه الآيات، هنالك نكتة قرآنية.. وبنظرة أولية نلاحظ بأن في هذه الآية هناك ثلاثة عناصر مهمة: يبلغون، ورسالات، ويخشونه.. وكل كلمة من هذه الكلمات، ترمز إلى مفهوم من المفاهيم العالية.
– إن كلمة {يُبَلِّغُونَ} فيها إشارة لحالة الحركة والدؤوبية -إن صح التعبير- في إيصال الرسالة الإلهية.. فالشرط الأول للمبلغ، أن يكون فيه حالة لما يسمى هذه الأيام بالديناميكية، والتحرك في العمل.. فالإنسان المبلغ لا ينتظر الناس يأتون إليه، بل هو الذي يقتحم الميادين، كما يقول أمير المؤمنين (ع) واصفاً النبي (ص): (طبيب دوار بطبه، قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه.. يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمى، وآذان صم، وألسنة بكم.. متتبع بدوائه مواضع الغفلة، ومواطن الحيرة).. إذن كلمة {يُبَلِّغُونَ}، فعل مضارع، وهو يدل على الاستمرارية.. أي أن هنالك حركة في الخارج.
– إن كلمة {رِسَالاتِ} جمع، فهو لم يقل: رسالة الله -عز وجل-، بل {رِسَالاتِ}.. حيث أن هنالك رسالة جامعة، ولكن لله -عز وجل- رسالات مختلفة: في العالم، وفي المجتمع، وفي الأسرة، وله رسالة في سياسة المدن، ورسالة في اقتصاد البلاد.. فإذن، إن النقطة الثانية: هي كشف هذه الرسالة.. والحوزات متكفلة بهذا الجانب؛ أي بتعريف الرسالة وفهم أبعادها.
– إن العنصر الثالث {يَخْشَوْنَهُ}.. والجميل أن هذا العنصر تقريبا مغاير للعنصرين السابقين: فـ{يُبَلِّغُونَ} من مقولة الحركة، و{رِسَالاتِ} من مقولة العلم، ولكن {يَخْشَوْنَهُ} من مقولة الحركة القلبية.. فالمبلغ لابد وأن تكون فيه حالة من حالات الخشية الباطنية؛ الخشية التي تأتي من البعد العلمي {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}.. لابد وأن تكون للمبلغ حركة في الباطن، وهو ما يسمى بالحركة الأخلاقية أو العرفانية أو التربوية.
– إذن، لا بد من هذه العناصر الثلاثة في كل مبلغ، يريد أن يبلغ رسالات الله.. فالطبيب ليس ملزما أن تكون له حركة أخلاقية باطنية، إذ يكفي أن يكون ملما بمهنته، عارفا بأسرار علمه.. أما الذي لا يبني باطنه، فهذا الإنسان غير مؤهل لأن يكون من الدعاة إلى الله -عز وجل-.. حتى في آية السراج المنير، {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}، القرآن الكريم يأتي بكلمة {بِإِذْنِهِ}؛ أي أنت يا رسول الله بما فيك من الملكات، وبما أوتيت من المعجزات، إذا لم تكن مأذونا في هذا العمل التبليغي -حتى أنت يا رسول الله- سوف لن تكون سراجا منيرا لهذه الأمة.. أي لابد من وجود ترشيح سماوي في هذا المجال.
– إن في آية النصر، أيضا جاء بالعنصر العملي والعلمي: {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ}؛ إشارة إلى أن التفقه في الدين شرط أساسي في المبلغ.. والمراد بالتفقه هنا، ليس ما يطلق على ما يتناول المعاملات والعبادات.. ولكن التفقه في الدين معنى أشمل، أي معرفة مقاصد الشريعة في كل الحقول، وبما أراده الله -عز وجل-.. فالفقيه الممارس يصل إلى درجة أنه من خلال مجموع الآيات والروايات، يعرف مقاصد الشريعة، وروح الشريعة، ويعلم مزاج الشارع في حقل من الحقول.. أيضا ليتفقهوا في الدين {وَلِيُنذِرُواْ}، إشارة إلى العنصرين: الحركة التبليغية، واستيعاب مقاصد الشريعة.
– إن هناك مقومات كثيرة للعمل التبليغي، للوصول إلى هذه الأهداف النظرية.. ويا حبذا لو تعقد دورات وندوات ومحاضرات في الحوزات العلمية، للتأكيد على هذا الجانب؛ لأن هناك نقصا -مع الأسف- في الجانب النسائي.. فالرجل بمجرد أن يدخل الحوزة، وإذا به يترجم هذا العلم إلى تدريس بمستوى ما يمكن، في ساحات العمل الاجتماعي.. ولكن كأنه في الجانب النسائي، هنالك ارتكاز في الذهن: أن المرأة جاءت لتتعلم العلم، وتتهذب، وتتكامل، وتتفقه.. من دون أن تبحث بنفسها، أو يبحث لها عن مجالات تصريف.. هذا العلم والإحصائيات الأولية، تشير إلى أن المجتمع النسائي والرجالي متناصفان تقريبا.. هذا النصف من المجتمع من يتولى تثقيفهن، وخاصة أن في الشريعة، هنالك الحواجز مرتفعة بين الرجل والمرأة، الإسلام الذي جاء ليقول: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ}، كيف يمكن أن يكون لرجل الدين الدور الفعال في المجتمع النسائي، مع وجود هذه الحواجز الكثيرة التي ندعو إلى حفظها، والتمسك بها.. وعليه، فإن المرشحة الوحيدة لهذا المجال، هي الحوزات النسائية في هذا المجال.
– آليات العمل التبليغي:
أولا: الإخلاص في النية: لا نحب أن نرفع شعار الإخلاص في النية من باب التبرك، كما هو المتعارف في كل الأحاديث، يرفعون شعار الإخلاص.. وسبب التأكيد على مسألة الإخلاص في النية، هو أن العمل التبليغي الإسلامي الرسالي من شؤون المولى.. فرب العالمين هو الذي ندعو إليه، وهو المحور في المشروع.. وإذا كان المحور مبتور الصلة بمن يقيم هذا المحور، كيف نتوقع المباركة والنجاح في هذا المجال؟.. أن يذهب الإنسان إلى النقاط المخفية في النفس، فالنفس لها طبقات: الإنسان قد يخلص العمل في الطبقات الأولية من النفس، كأن يلقي محاضرة، ويستحضر قصد القربة إلى الله -عز وجل-.. ولكن عندما ننظر إلى الدوافع الخفية، نلاحظ بأن الدوافع الخفية مشوبة، وقد ورد أن من لامات عدم الإخلاص، أن يفرح الإنسان بالمدح والثناء.. ومن منا لا يتوقع ذلك؟.. فإذن، إن القضية فيها دقة، وفيها مقدار كبير في الخفاء.. ومن هنا عبر عن الشرك في العمل (الشرك في الناس، أخفى من دبيب النمل على المسح الأسود، في الليلة المظلمة).
ثانيا: الهمة العالية وطول النفَس: إن عملية البناء المادي عملية سهلة، حيث أن هنالك قواعد واضحة، وأشياء ترى بالعين، فالإنسان بإمكانه أن يذلل العقبات الطبيعية.. أما بالنسبة إلى البناء الأنفسي في مقابل البناء الآفاقي، فالنفس أمر لا يرى، يقول تعالى في القرآن الكريم: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}؛ فأبهم في الجواب، ثم يقول: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}، وكأن الآية تريد أن تقول: أن القضية فوق التصور!.. وهذه الروح التي لا ترى ولا تلمس، ولا تصلها الحواس الخمس.. كيف يمكن للإنسان أن يطورها؟.. فالأمر بحاجة إلى همة عالية في هذا المجال، ومداومة في مقاومة الموانع في هذا الطريق.. حيث أن هنالك منافسين في هذا المجال: الأهواء، والشياطين.. والعمل التبليغي مشكلته، أن الإنسان في حال حرب، وإن لم تعلن هذه الحرب.. فالحوزات العلمية هي معسكرات قتال، مقابل معسكرات فيها أعداد أكبر من الشياطين الذين يروننا ولا نراهم.. فإذن، إن الحوزة عبارة عن معسكر قتالي، والطرف المقابل له خبرة آلاف السنين في إغواء بني آدم.. والمعسكر الآخر أقرب إلى قلوب الناس من معسكر الحوزة، لأن سلاح الشياطين هو: إثارة الهوى، والهوى مطابق لميل النفس الإنسانية، فمن الطبيعي أن تكون المعركة غير متكافئة.. ومن هنا لزم علينا أن نحسب حساب الانتصارات المستقبلية.. والأنبياء هكذا كانت خطتهم، فنبي الله نوح (ع) لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وانتهت الحركة التبليغية بإهلاك من في الأرض، إلا سفينته.. ولكن مع ذلك يبقى نوح من الأنبياء أولي العزم، ومن مفاخره أنه على رأس سلسلة من الأنبياء.. فالأنبياء أولي العزم كلهم من ذرية نوح (ع).
ثالثا: اكتشاف الأساليب المؤثرة والفاعلة في كل عصر: كما أن هنالك تغيرا في أنماط الحياة، فهذه الأيام تحولت الدابة ذات الأرجل الأربعة، إلى صواريخ تقتحم الفضاء، وتكتشف الكواكب.. فكما هنالك تغير في أساليب الحياة المادية، هنالك أيضا تغير في أساليب التفكير والتأثير على الآخرين.. في يوم من الأيام كان الشعر هو الإذاعة الرسمية المتنقلة، فالفرزدق اكتسب الخلود بقصيدته: هذا الذي تعرف البطحاء.. ولكن هذه الأيام لم يبق للشعر ذلك الدور الذي كان في زمن انعدام الفضائيات، ووسائل الاتصالات العصرية.. ولهذا لابد من أن نكتشف الأساليب الجديدة، في مسألة فتح القلوب والعقول.. ولهذا بعض العلماء الأجلاء في هذه الأيام حولوا الفقه إلى حواريات، لأن التحرير أو المنهاج لم يعد كتابا جذابا لعامة الجمهور.. فهم يريدون فقها مصورا حواريا باصطلاحات مفهومة، وبعيدة عن التعقيد.. هنالك أساليب جديدة في التأثير، فعلم البرمجة اللغوية العصبية، هنالك نقاط إيجابية فيه.. إذ لا بأس أن نأخذ من كل قوم ما تمرسوا فيه، وما أبدعوا فيه، من أجل تطبيقها على العمل التبليغي الديني.
رابعا: الاستفادة من تجارب الآخرين: من كتابات الغربيين في أساليب التأثير، مثلا: هنالك كتب في الخطابة، فالخطابة فن من الفنون العالمية.. في طوال التأريخ السياسيون والحكماء والفلاسفة والمبلغون، كان سلاحهم الخطابة، وبعض الثورات قامت على الخطابة البليغة.. فالثورات القومية والشيوعية وغير ذلك، من عناصر نجاحها أن قائدهم إنسان خطيب، ومؤثر في تحريك الجماهير.. فالخطابة علم كأي علم من العلوم التي تتداول في الجامعات، لها أصول: نظرة الخطيب، ونبرة الخطيب، وأسلوب الخطيب، ووقفة الخطيب، وزي الخطيب.. فكل ذلك عناصر دخيلة!.. علينا التعلم من تجارب الغير في التأثير، وخاصة الذين غيروا مجرى الأمم بحركات فردية.. والغريب هنا أن هؤلاء لم يكونوا مدعومين من عالم الغيب أمثال: ماركس في روسيا، أو غاندي في الهند، أو عبد الناصر في الأمة العربية.. هؤلاء أشخاص دعواتهم لا تطابق منهج السماء، وليس هنالك من مدد غيبي، ومع ذلك يأتي إنسان مستضعف في الشكل كغاندي ويحول مجرى حياة قارة كبيرة.. وهو صاحب المقولة المشهورة: أنه تعلم من الإمام الحسين (ع) كيف يكون مظلوما فينتصر.. أراد غاندي بهذه العبارة، أن يفهم أنه استولى على القلوب، من خلال إظهار نفسه بمظهر المظلومين.. وبهذه الحركة دخل إلى قلوب أمته، وبعد الدخول إلى القلب غير من أفكارهم، وأخرجهم من هيمنة الاستعمار الذي كان حاكما عليهم.. فإذن، إن الاستفادة من تجارب الآخرين، هي أيضا من مقومات العمل التبليغي.. فالتبليغ فن من الفنون، كأي فن حياتي.. الهيأة هيأة مشتركة، ولكن المواد تختلف من أمة إلى أخرى.
خامسا: امتلاك القلوب: نحن نخاطب أرواح، والأرواح أجزاء متكاملة.. إذ لا يمكن للإنسان أن يقول: أخاطب الشخص من زاوية عقله، وليكن قلبه مبغضا لي، فأنا أتكلم مع عقله، وعقله معي.. وأنا كلامي كلام منطقي، فأتكلم مع جهة توافقني وهو العقل!.. هذا الكلام غير صحيح، في بعض الأوقات نلاحظ جفاء بين الأم وبين ابنتها، تتكلم معها بمنطق شرعي عقلي إلى آخره، ولكن البنت لا تزداد إلا عناداً!.. فالمشكلة تكمن في أن هذه الجسرنة العاطفية منتفية: البنت لا تنظر إلى أمها نظرة محترمة، وكذلك الولد، وكذلك عالم المنطقة، وكذلك صاحب المشروع أو المؤسسة.. إذا لم ينفذ إلى قلب الطرف المقابل، الذي يراد التأثير عليه؛ فإن الخطاب العقلي المنطقي الفلسفي، سوف لن يجد آذانا صاغية.. فالتودد إلى القلوب أيضا من مقومات العمل التبليغي، وهو من أصعب المهام.. فالمنطق له قواعد مدونة في كتب المنطق، والفلسفة لها قواعدها في كتب الفلسفة.. ولكن هل رأيتم كتابا يشرح كيفية الاستيلاء على القلوب؟.. هذه مهارة من المهارات الدقيقة جدا، والمدد الإلهي يأتي في هذه النقطة، بأن الله -عز وجل- يتصرف في قلوب المخاطبين، كما نعلم في الآية المعروفة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}.. الود أمر مجعول، كما في موضوع الحياة الزوجية، أيضا رب العالمين جعل هذه المودة والرحمة في القلوب.. طبعا هنا يأتي دور المدد الغيبي، والارتباط بعالم الغيب في تليين القلوب، وهو ما رأيناه جليا في حياة النبي الأعظم (ص) الذي امتلك قلوب الجاهليين فأوصلهم.
سادسا: الاستناد للمتون الشرعية: نلاحظ -مع الأسف- البعض مبتور الصلة بأصول الكتاب والسنة، أحد العلماء يقول: حضرت مجلسا من مجالس الوعظ، وإذا بالخطيب يصعد المنبر من أول ما صعد المنبر إلى أن نزل، لم يتجاوز النصوص.. وكان من الغريب أنه عندما كان يريد أن يشرح كلمة في حديث معناها مجهول، كان يستفيد من نص آخر لكشف أو لتفسير المعاني.. المشكلة أن الذي لا صلة له بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة، هذا إنسان فقير، وإذا أراد أن يتكلم، فإنه يتكلم من وحي باطنه، من دون أن يكون مستندا إلى ما أنزل من قبل الله -عز وجل-.. ولهذا طالبة العلم، لابد لها من أن تقرأ دورة حديثة جامعة، مثل: ميزان الحكمة، وسفينة البحار، -مع الالتفات إلى أنه ليس هنالك عندنا ما يسمى بالصحيح- بعد فترة من امتلاك ذوق التمييز، ومعرفة مقاصد الشريعة، لابد من أن نقرأ دورة حديثة في هذا المجال.. ويا حبذا لو أن المؤمنات يحتفظن بكل نص ملفت في حقل من الحقول، فيصبح لديهن مجموعة روائية منتقاة جميلة في هذا المجال!..
سابعا: القراءة الممنهجة: مع الأسف نلاحظ البعض قبل أن ينام، يأخذ كتابا عشوائياً ويقرأ صفحات منه، ثم يرجعه إلى مكانه.. وعندما يسافر، يجعل في حقيبة سفره كتاباً نافعاً، يقرأ منه سطورا.. هذه القراءة المبعثرة غير الممنهجة، لا تربي إنسانا مبلغا له كم من المعلومات المدونة.. بعض العلماء الأفاضل هذه الأيام، معروف بالتأليف الكثير المركز، وهو الشيخ جعفر سبحاني.. هذا الرجل أثرى المكتبة الإسلامية بكتب نافعة، فأسلوبه في القراءة أسلوب أخّاذ.. يمر على مطلب جميل، يدونه في مكان ما، وبالتالي الآن لديه آلاف المذكرات في هذا المجال، وهذا الثراء العلمي جاء من وراء هذه الطريقة في تدوين ما يقرأ.. وهذه الأيام الأمر لا يحتاج إلى أوراق وإلى بطاقات، فهذه الوسائل العصرية هي التي تبرمج، أنت أعط المعلومات وأعطه العنوان، وهو يفهرس لك ما تقرأ.. وبالتالي، بعد عشرة أو عشرين سنة من المطالعة -هذه الساعات التي ذهبت وتبخرت- وإذا بها تحولت إلى مكتبة خاصة بك.. قد يستهوي الإنسان حقلا من حقول المعرفة، فليثري نفسه في ذلك الحقل.. هناك كتاب جميل بعنوان: “المثال” صاحبه جمع توصيات الأخلاقيين، وعلماء السلف طوال التأريخ تقريبا.. لأن العالم بعد فترة من تربية التلاميذ والسير في المجال الأخلاقي، يلخص فلسفته الأخلاقية في رسائل موجهة إلى تلاميذه.. فالإنسان الذي يريد أن يثري نفسه معلوماتيا بعد الإثراء النصوصي، لابد وأن تكون له هذه الحركة من المنهجية في تجميع المعلومات.
ثامنا: عدم الإحباط من عدم التأثير الآني: مع الأسف نحن نتوقع أن يكون العمل التبليغي والرسالي، كمزرعة الحنطة والقمح.. فالزارع يزرع زرعه، ويسقيه، وينظر إلى التقويم، ويقول بعد ثلاثة أشهر: لدي هذه الكمية من الحنطة، في كل سنبلة مئة حبة.. فإذا جاء الموسم، ولم يحصل على هذه الكمية، يصاب بانتكاسة نفسية، ويبني على عدم الزراعة، أو يزرع مادة أخرى.. ولكن إذا أصيب في تلك السنة بنكسة زراعية كبيرة، قد يبدل مهنته أساسا.. أما العمل التبليغي، فهو ليس كزراعة القمح والشعير، فالإنسان يلقي محاضرة الآن، وبعد انتهاء المحاضرة يتوقع التغيير في نفوس الخلق!.. الإنسان في العمل التبليغي عليه أن لا يستعجل الثمار الآنية.. فالفكرة تتغلغل إلى باطن الشخص، وقد لا يعمل بها، ولكن يبقى كملف مستور في حاسوبه.. أنت ألقيت الفكرة، والفكرة ما ذهبت هباءً.. ولكن الطرف عناداً أو لغلبة الشهوات، لم يجعل كلمتك في الملفات الساخنة، ويجعلها في الملفات غير المستعملة.. وفي ساعة من الساعات قد يحتاج لهذا الملف، وإذا بهذا الملف يصعد إلى شاشة الجهاز.. تتكلم كلمة مع أحدهم، لا يعبأ بكلامك.. ولكن بعد سنوات في ساعة من الساعات، وإذا به يستذكر هذه النقطة، ويصبح منطلقا لتغيير منهج حياته.
– مثلا: إن الشباب والرجال المفتونين بالعنصر النسائي، على الإنسان أن يأتيهم من زاوية معينة مؤثرة فيهم، لأن قضية الوعد والوعيد، هي صورة مخيفة للعاصين.. كأن تقول لهم: إن من يغرم بفتاة من خلال مظهرها، أي أنه يحول الفتاة إلى لحم ودم وشكل.. وجمال المرأة في وجهها، وهذا الوجه عبارة عن جلد لا يتجاوز عمقه الميكرون أو أقل من الميكرون، يغطي ما تحت الوجه من منظر الأنف والعين واللحم والشحم والقروح والجروح.. فرب العالمين جعل نقاباً جميلا ساتراً لهذه القضايا، وإلا هل أحد ينظر إلى الجمجمة!.. فالجمجمة تكسى بمجموعة من العظام واللحم والدم، ثم رب العالمين يغطي هذه الجمجمة القبيحة، وهذه العضلات التي هي مليئة بالدماء وغير ذلك، يغطيها بنقاب جميل.. إذا أنت جعلت المرأة عبارة عن هذا النقاب الجميل، هذا النقاب غير مغر؛ لأن هذا النقاب يرتفع بحريق بمادة أسيدية كاوية، وإذا بهذا الجلد يتجعد ويزول.. هذه الكلمة قد يسمعها منك، ولا يبالي ويكابر.. ولكن في يوم من الأيام، هذا الشاب يتذكر هذه المقولة، فيجل نفسه أن يكون أسيراً لهذا النقاب الميكروني -إن صح التعبير- شبر في شبر بعمق ميكرون، فالإنسان لا يبيع دينه وآخرته بهذا المظهر المادي، الذي لا ثبات له.. هذا مثال أن كلمة قد تلقى وتنسى، ولكن في يوم من الأيام يعمل بها.
– إن على المؤمن أن يبذر البذرة، والله -عز وجل- هو الأولى بالإنبات، فهو صاحب المزرعة، وهو الأحرص على استنبات هذه البذور.. هل حرص المالك والمستثمر أقل من الزارع المستأجَر؟.. إن في الحوزات أناسا مستأجَرين، والأجرة دفعت سلفاً، سواءً هذه البذرة أكلتها الديدان أو أصبحت حديقة غناء.. نوح (ع) بعض الروايات في تفسير قوله تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ}؛ أي دون المائة، كل تسع سنوات ونصف تقريباً، إنتاجه شخص واحد.. ولكن هل يعتبر نوح إنسان فاشل في الحياة، لأنه ما رأى ثمار غرسته، بل جاء الطوفان ليدمر مزرعته كاملة، ما بقيت له مزرعة في الأرض، فالطوفان ضرب الوجود ما بقيت إلا سفينة نوح!.. ليس الأمر كذلك، ولعل بعض العلماء في البلاد إنتاجهم أضعاف أضعاف إنتاج نوح (ع) في هداية الناس.. إذن، علينا بعدم الإحباط من عدم وجود التأثير الآني.
– إن المؤمن لا ينسى أن الحوزات الإسلامية الإمامية في شرق الأرض وغربها، لها عميد واحد، هو المشرف عليها أينما وجدت حوزة تدعو الناس إلى صف الله وأوليائه.. ألا وهو إمامنا صاحب الأمر والزمان -روحي وأرواح العالمين له الفداء- ذلك الإمام الذي يصح عندما نسلم عليه، أن نسلم عليه ببعض فقرات السلام على الإمام الحسين الشهيد (ع)، فنقول عن إمامنا الحسين: السلام على الإمام الغريب!.. وكذلك إمامنا يصح أن نسلم عليه بـ: السلام على الإمام الغريب!.. فهو غريب في شيعته، وهناك جفاء موجود تجاهه -صلوات الله عليه- فنحن لا نستشعر وجوده، من منا سلم عليه؟.. إن الولد عندما يستيقظ من النوم، يسلم على أبيه وأمه، إذا كان يعتقد بوجود أب، إلا إذا كان يرى أن هذا الأب لا يستحق السلام لظلمه لأسرته، فإنه عندما يصبح الصباح، لا يسلم على هذا الأب!.. والرسول الأكرم (ص) قال: (أنا وعلي أبوا هذه الأمة).. هذه الأبوة بملاك الإمامة، وبملاك النبوة، الملاك الموجود في علي (ع).. هذا الملاك موجود بعينه في ولده المهدي (ع)، فهو أيضاً أبو هذه الأمة.
– إن طالبة العلم التي ليس لها علاقة متميزة بولي أمرها؛ زيادة عن جمهور الناس، وزيادة عما يسمى بعوام الناس.. كيف تتوقع هذه الأخت، البركات الولائية في هذا المجال (بيمنه رزق الورى، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء)، (لولا الحجة لساخت الأرض).. إذا أرادت التأثير في عالم التبليغ، لابد من مد جسور فكرية وعاطفية مع ذلك الوجود الشريف، ولا غضاضة في أن نطلب منه (ع) -فكرياً الطلب من المعصوم، طلب من الله -عز وجل- لا أثنينية في ذلك- فالذي ندعوه هو الذي جعل لنا وسائط الفيض، وطلب منا أن نطلب منهم، لأن الله -عز وجل- أكرمهم بالإجابة.
– وعليه، يجب أن يكون لطالب وطالبة العلم برنامج ارتباط به: فكراً، وإرضاءً: السلام عليه في كل صباح، والتصدق باسمه الشريف، وإهداء الأعمال الصالحة لوجوده الشريف، والأهم من كل ذلك العمل بالمضامين الواردة في دعاء العهد، (اللهم!.. اجعلني من أنصاره وأعوانه، والذابين عنه، والمسارعين إليه في قضاء حوائجه، والممتثلين لأوامره، والمحامين عنه).. وفي ساعة من ساعات الاستجابة -إن أعطيتم رقة تحت الميزان، أو الحطيم، أو عند المستجار، أو عند قبة الحسين (ع)- الدعاء بالرجعة معه (عج)، فإن من أجمل الأمنيات التي يغفل عنها الكثيرون، أن يرزق الرجعة معه (عج).. وهنيئاً لمن يكون معه في عصره، ليكونوا من الدعاة إلى طاعته!.. والامتياز في الذين يرجعون معه في رجعته الكريمة، أن لهم الدور في تأسيس حكومة إسلامية ممتدة إلى قيام الساعة.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.