– إن من متع الدنيا أن يجلس الإنسان إلى أحبابه وإخوانه من المؤمنين، لأنه إذا اجتمع المؤمنون على طاعة الله، وعلى ذكر الله: لكلمة هادفة، أو لدعوة بين يديه، أو حتى لإجابة دعوة مؤمن على طعام؛ فإن هذا الاجتماع لأي من هذه الأمور الثلاثة، هو موضوع لنزول الهبات الإلهية.. وفي روايات أهل البيت (ع) دعوة إلى التزاور في البيوت، ودعوة إلى إحياء أمرهم (ص).. عن أبي جعفر، وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: (أيما مؤمن خرج إلى أخيه يزوره؛ عارفا بحقه: كتب الله له بكل خطوة حسنة، ومحيت عنه سيئة، ورفعت له درجة.. فإذا طرق الباب، فتحت له أبواب السماء.. فإذا التقيا وتصافحا وتعانقا، أقبل الله عليهما بوجهه، ثم باهى بهما الملائكة فيقول: انظروا إلى عبدي!.. تزاورا وتحابا في حق، عليّ أن لا أعذبهما بالنار بعد ذلك الموقف).
– إن الله -عز وجل- له أشعة كونية، وله ما يسمى بأشعة الليزر، وله ما يسمى بهذه الأشعة التي تصور بها بواطن العباد من خلال الأشعة المعروفة.. ولله -عز وجل- أشعة روحانية، يسلطها على بقاع من الأرض بشكل دائم ورتيب، كبيته الحرام.. وهنالك ما يشبه الأقمار الصناعية، تسلط أشعتها وحزمتها النورية على بقاع في الأرض في بعض الأوقات، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (اغتنموا الدعاء عند أربع: عند قراءة القرآن، وعند الأذان، وعند نزول الغيث، وعند التقاء الصفين للشهادة).. وكذلك المجالس التي يتم فيها عقد القران، حيث أن هنالك حزمة نورية روحانية تلف المجلس، والإنسان يشعر بهذا الجو، ومن هنا أمرنا بالدعاء في مجالس العقد.
– إن الشجرة المثمرة لها ملائكة موكّلة بالثمار، ولكن عند اجتماع المؤمنين، فإن ملائكتهم هي التي تحف بهذه المجالس المباركة.. ولهذا فإن من متع الحياة أن يلتقي الإنسان بإخوانه المؤمنين.. ورحم الله سلمان، هذا الذي تربى في مدرسة أهل البيت (ع) إذ يقول: (لولا السجود لله، ومجالسة قوم يتلفظون طيب الكلام، كما يتلفظ طيب التمر.. لتمنيت الموت).. وسلمان هو تلميذ علي (ع)، وعلي عندما يصف المتقين يقول: (المتقون حقاً هم أهل الفضائل: منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع)، (صحبوا الدنيا بأبدان، أرواحها معلقة بالمحل الأعلى).. فقلب سلمان في العرش، ولا يحب المكوث في الدنيا؛ لولا السجود والجلوس مع المؤمنين.. وبالتالي، فإن المؤمن في متعة مستمرة، لأنه في النهار يلتقي بإخوانه في المسجد وغيره فيستمتع، وإذا جن عليه الليل يسجد بين يدي الله عز وجل.
– إن من كلمات ومواعظ الإمام علي (ع): (نعم القرين الرضا)!.. فما الفرق بين الرضا والتسليم القلبيين، والرضا والتسليم الاعتقاديين؟..
– إن الدنيا دار بالبلاء محفوفة، (الجنة حفت بالمكاره، والنار حفت بالشهوات).. هنالك مكاره في حياة الإنسان، إن أكبر الشخصيات الدنيوية في هذه الأرض، لم تحقق كل آمالها، حتى كبار رؤوسا الدول العظمى، من آمالهم -مثلاً- أن يقضوا على القوة الأخرى المنافسة لهم.. إذن، حتى هؤلاء لم يحققوا مآربهم في الحياة.. فالدنيا دار تنازع، نزاع وتصارع من أجل البقاء.. وطبيعة الحياة الدنيا طبيعة محدودة: فالثروات محدودة، والفرص محدودة، والمقامات محدودة.. والناس في سباق نحو اغتنام الفرص، واقتناء المكاسب.. وبالتالي، فإنه من الطبيعي أن يصبح هناك شح في الموارد الطبيعية.. ففي أدغال أفريقيا المياه قليلة، وعندما يأتي قطيع من الجواميس العطشى؛ فإنها تتناطح فيما بينها من أجل الماء، وقد يصل الأمر إلى معركة حامية فيما بينهم.. والدنيا هكذا!.. الفرص فيها محدودة، والإنسان مهما بلغ لن يصل إلى مآربه.. أضف إلى أن الله -عز وجل- له مشيئته، فيبتر بعض الأعمار بتراً.. وهذه الأيام كثرت قائمة الأمراض التي ليس لها علاج، قال الرضا (ع): (كلّما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون، أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون).
– إن الذي يريد أن يرتاح في حياته من جميع الجهات: أسرة، ووظيفة، ومالاً، وصحة، وعافية، وو.. الخ؛ هذا إنسان متوهم، فهذا الأمر ما جعله الله -عز وجل- لأنبيائه.. ولو كان الإعفاء من البلاء مزية، لما كان النبي أكثر الأنبياء بلاءً، حيث يقول (ص): (ما أوذي نبي مثلما أوذيت)!..
ماذا نعمل أمام البلاء؟..
– إن هنالك عدة وصفات في البلاءات، فلكل شيء في الشريعة وصفة وبرامج للمواجهة:
الخطوة الأولى: معرفة نوع البلاء.. إن الخطوة الأولى أمام البلاء، هي أن ننظر هل أن هذا البلاء بلاء مقدر، أو بلاء مكتسب؟.. أي هذا قضاء وقدر، أم أن هذه نتيجة وهذا جزاء؟.. وهذا يحتاج إلى قدرة تعقلية كبرى، فالدين هو دين التعقل، (تفكر ساعة، خير من عبادة سبعين سنة)، لأن الإنسان إذا قوى في نفسه الجانب التعقلي والتحليلي، بإمكانه أن يصلح مسيرته في الحياة مع نفسه ومع ربه.
– إن البلاءات تارة تكون قضاء وقدرا بحتا، والإنسان ليس له فيه أي دور.. ولكن بعض أنواع البلاء، هو انعكاس لعمل الإنسان، مثلا: إنسان يبتلى بالإفلاس، لأنه طمع في مال الدنيا، ووسع في رقعة تجارته زيادة عن القدر المتعارف، فاضطر لأن يأخذ قروضا ربوية.. هذا الشعار يجب أن يكتبه المؤمنون على صدورهم الباطنية، إنه شعار جميل، متخذ من نصوص أهل البيت (ع): (ما قل وكفى، خير مما كثر وألهى)!.. قد يستنكر البعض هذا الحديث، ويقول: إذا عملت بهذا الحديث من أين أدعم المشاريع الإسلامية؟.. فأنا إنسان أحب أن أنمي ثروتي، ليزداد خمسي، وتزداد المشاريع الإسلامية والحوزات انتعاشاً!.. ولكن من قال ذلك؟.. إذا كان زيادة المال يلهي صاحبه عن نفسه، وعن مسيرته التكاملية، ويوقعه في الحرام، كيف يكون أمرا راجحا؟.. ومن قال: بأن تنمية المال بأي طريق كان، أمر راجح؟.. فإذن، إن الخطوة الأولى في مواجهة البلاء، هي أن ندخل في مختبر النفس، وننظر إلى أن هذا البلاء من أي أصناف البلاء!..
الخطوة الثانية: الصبر.. إن هناك صبرا جيدا، فالأم التي تسمع بوفاة ولدها، فلا تجزع ولا تظهر الجزع.. فإن هذا الصبر يعود إلى عدة أسباب: قسم منه خشية على نفسها، وقسم منه لأجل مراعاة الآخرين، وقسم منه للعقل.. إن بعض أصحاب النبي (ص)، كان لا يشرب الخمر قبل تحريم الخمرة، لأن الخمرة شيء غير جيد، فإذا شرب الخمر، فإنه سيسكر ويذهب عقله، والصبيان يضحكون عليه.. فهذا تعقل!.. لأن الخمرة لم تحرم، ولكن هذا الرجل عقله حرم الخمر على نفسه.. فإذن إما من باب مراعاة الناس، أو من باب الرفق بالسلسلة العصبية، والجهاز الهضمي والقلبي، وما شابه ذلك؛ فإنه يصبر!..
– إن هنالك ما هو أعلى من الصبر، نريد أن نصل إلى جوهر كلام علي (ع) قدر استطاعتنا.. فالأعلى من ذلك هي أن يصل العبد إلى درجة يرى مالكية الله -تعالى- له أقوى من مالكيته لنفسه.. يرى نفسه ملكاً طلقاً حقيقياً لله عز وجل، ورب العالمين يريد أن يعمل في ملكه ما يشاء.. فهذا البلاء الذي نزل على بدن الإنسان، الذي أصيب بجرح بليغ، والدماء تنزف منه نزفاً.. هذا البدن له نسبة إلى الإنسان، فالجسم الذي نعتني به، ونبعثه للبلاد الأجنبية بآلاف الدنانير لعلاج شيء فيه، هذا الجسم -على احترامنا له وتقديرنا له- هو مطية مؤقتة للإنسان وليس مطية أبدية.. هذا الجسم الذي هو دابة الروح له صلة بالإنسان: صلة الراكب والمركوب.. أما صلته بالله -عز وجل- فهي صلة المعلول والعلة، الخالق والمخلوق.. أين علاقة الدابة وصاحب الدابة، وعلاقة المالك والمملوك؟.. مثلا: عندما يستأجر الإنسان سيارة، وتعطب هذه السيارة، أيهما يكون أكثر حزناً: هو، أم الشركة المالكة؟.. وكذلك فإن أجسامنا مستعارة، كالسيارات المستأجرة من شركات التأجير.. بينما هو الذي أخرج الإنسان من ظلمة العدم إلى نور الوجود، هو أولى ببضاعته -بدابته- يعمل بها كيفما يشاء.. بينما أحدنا في مقام العمل هكذا تؤلمه البقة، والحال أن المؤمن أرقى من هذا بكثير.. في بلاد الهند هناك عجائب وغرائب من خرق الطبيعة، وهم أناس في مقام التقييم الذاتي من أسخف خلق الله، ولكن ببعض الرياضات، وصل إلى درجات مذهلة في التصرف بالمواد الطبيعية.. فكيف إذا كانت هذه المجاهدة ضمن المدرسة الإسلامية، ومدرسة أهل البيت؟!.. في هذه المدرسة عندما يتعالى الإنسان عن متطلبات ذاته، وإذا به في ساعتها يعطى درجة من درجات استشعار حلاوة السيطرة على النفس.. وكيف إذا استمرت المجاهدة في دروب مختلفة من دروب الحياة؟!..
– إن الإنسان لابد أن يصل إلى هذه الدرجة: أن نرى الله -عز وجل- أولى بنا من أنفسنا.. ولهذا النبي (ص) في عيد الغدير، قال للمسلمين قبل أن ينصب ابن عمه ووصيه علي (ع) لإمامة المسلمين إلى الأبد، قال: ألست أولى بكم من أنفسكم؟.. قالوا: بلى.. انتهى الأمر!.. ما دام أنا الأولى بكم من أنفسكم، فمن كنت مولاه، فهذا علي مولاه.. انطلق من هذا المنطلق!.. ولهذا نحن نعتقد أن الإمام المعصوم له سلطة على الإنسان، أكثر من سلطة الإنسان على نفسه بمقتضى هذا النص.. فإذن، نعم القرين الرضا!..
– إن المشيئة ماضية على الإنسان أجزع أم صبر، وبالتالي، فإن مقتضى العقل يقول: ما دام قد كتب لك هذا البلاء، لماذا لا تستثمر هذا البلاء في التودد إلى الله -عز وجل-؟.. إذا ذهب الإنسان إلى باب كريم من كرام الدنيا وطرق بابه، ولكن هذا الكريم يطل عندما يراه، ويقول: لا تفتحوا له الأبواب!.. لا لبخل فيه، فخزائنه مملوءة بالطعام؛ ولكن هناك عداوة بينه وبين هذا السائل، لأنه ربما ضرب ولده أو عاكس ابنته في الطريق.. فهو يعتبر أن ذلك استهانة به، ويعتبره عدوا له.. وبالتالي، فإن كرمه لا يصل إليه.. ولكن وهو واقف على الباب، وإذا بحجر يسقط من بناء هذا الكريم، فيشج رأسه، وتسيل الدماء على صدره.. عندها يقول هذا المسكين: الآن يا فلان هب أني عصيتك!.. لا تنظر إلي لما بيني وبينك، ولكن ترى وضعي، وإلى ما أصابني على بابك.. فهذه البلية نزلت علي، وأنا بين يديك، الآن من هذا الباب أكرمني، لا لاستحقاقي، ولكن لما أصابني بين يديك، وفي سبيل الاستجداء منك.. أحد المؤمنين -إنسان عادي- ولكن في موسم الحج رجع وأصيب بحادث، فبترت رجله.. فألقى الله -عز وجل- عليه نوراً، ما فارقه إلى هذا اليوم.. وذلك لأنه أصيب في سبيل الله، فعوضه رب العالمين بما لا يخطر بالبال، فرب العالمين شكور غفور.. إن الإنسان المؤمن في شهر رمضان قريب إلى الله عز وجل، وهو شهر المصالحة.. فرب العالمين يلغي الملفات العالقة، ويقول: هذه الملفات؛ ملفات الخصومة اجعلوها جانباً، يا ملائكتي!.. غلوا أيدي الشياطين، وافتحوا الأبواب على الصائمين، واستجيبوا أدعيتهم!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.