– لماذا اخترنا هذا الموضوع بالذات؟..
أولاً: الملاحظ أن الأمراض النفسية شائعة إلى درجة كبيرة هذه الأيام.. والأمراض النفسية تقريبا منشؤها الهموم والغموم، والنفس الإنسانية لها قابلية وقدرة على التحمل.. وعندما يزداد الهم والغم عن معدل طبيعي معين بحسب الأعمار، تنعكس الآثار على الجهاز العصبي وعلى الأداء الوظيفي.. فالقلب يتأثر، وأجهزة الجسم كلها تتأثر.. وهناك علاقة وثيقة بين البدن والحالات النفسية.
ثانياً: إذا أردنا أن نعيش حياة وادعة وسعيدة وسليمة، لابد من القضاء على الهموم.. والقضاء على الهموم كليا، لا يكون إلا في الجنة؛ هنالك: لا حزن، ولا خوف، {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}.. في الجنة ليس هنالك من همّ، ولكن دار الدنيا: دار بالبلاء محفوفة، وبالمكاره موصوفة.. فكيف نخفف الحزن في الحد الأدنى؟..
– إن الهموم قسمان: هنالك هموم مقدسة، وهنالك هموم مرضية:
الهم المقدس: هو ذلك الهم الذي يرتبط بأبدية الإنسان.. فالإنسان خلق لهدف، والهدف هو العبودية.. والإنسان الذي يرى نفسه ليس على الجادة، يصيبه الهم والغم.. ولكن ما هي صفات الهم المقدس؟..
أولاً: الهم المقدس يعطي الإنسان سكونا نفسياً وهدوءاً باطنياً.. إن الهموم المقدسة غير مرتبطة بسلسلة الأعصاب؛ أي أن الإنسان الذي يحمل هم الآخرة، لا يصاب بالأمراض النفسية ولا الجسمية.. والإنسان الذي يحمل هم الدنيا، إنسان عصبي متوتر، يغضب لأتفه الأسباب.. بينما عندما يزداد همه الأخروي، يزداد هدوءا وثباتا، ويرى أن الكلمة هنا تنعكس في عرصات القيامة {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}، هذا الإحساس يجعل الإنسان أكثر انضباطاً.. ولو كان هناك جهاز يقيس نبض الإنسان في ليلة القدر، فإنه سيكشف على أن نبض القلب في أفضل حالاته، رغم البكاء والصياح والصراخ وما شابه؛ أي أن الوضع النفسي في أفضل صوره.
– إن الوجوه تكون في حالة استبشار، بعد انتهاء مجالس عزاء سيد الشهداء، حتى ليلة العاشر.. هذا الاستبشار وهذه الراحة النفسية، لا توجد حتى في الأعراس.. في مجلس عزاء سيد الشهداء تكون: العيون باكية؛ ولكن يخرج الإنسان من المأتم، وهو في أفضل حالاته النفسية.. لهذا فإن الكلمات المسترسلة، وحالة الضحك وغير ذلك بعد الفراغ من المجلس؛ هي حالة مذمومة.. ولكن الابتسامة بعد المأتم لها دلالة، حيث أن الإنسان خرج من حمام روحي.. فالإمام الرضا (ع) يقول عن مجالس جده الحسين (ع): (فإن البكاء عليه، يحط الذنوب العظام).
فإذن، إن الصفة الأولى للهموم المقدسة، أنها تعطي الإنسان سكوناً نفسياً، وهدوءاً باطنياً.. {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ}؛ فالجلود تقشعر ثم تلين.. ولين الجلد هو علامة وجود العمق الباطني لحالة السكنية.
ثانياً: الهم المقدس مقدمة للعمل.. إن الهموم على قسمين: هموم تثبيط، وهموم دافعة.. إن همّ الآخرة، أشبه بهمّ سائق خرج من هذه البلدة، ليصل إلى بلدة أخرى، فضلّ وانحرف عن الطريق؛ عندها يعيش الهم والغم.. هذا الغم يدفع للسؤال عن الطريق، وللرجوع إلى الجادة.. فإذن، هذا هم بناء، بخلاف هموم الدنيا؛ لأن هموم الدنيا لا تبني الإنسان، بل تحطمه.. فالإنسان الذي يذهب إلى بيت جاره، ويرى صور المتاع المعلق هنا وهناك، فإنه يرجع إلى المنزل وهو معترض على حياته.. ولهذا: إياكم ومعاشرة المترفين والمترفات؛ لأن هؤلاء يذكرون الإنسان بالدنيا ومتاعها.. فإذن، الهم المقدس يدفع الإنسان إلى الأمام.
ثالثاً: الهم المقدس يعمق في الإنسان حالة العبودية.. إن البكائين في التاريخ معروفون، منهم: آدم الذي بكى على خطيئته، ونبي الله نوح (ع)، ونبي الله يعقوب.. ومن أئمة أهل البيت، الإمام زين العابدين (ع).. إن هذه الهموم التي كانت في قلوبهم، كلها هموم رسالية: فآدم همه التوبة، وكذلك يعقوب همه أن يرجع نبي إليه، والإمام زين العابدين (ع)، يبكي على مقتل أبيه الإمام الحسين (ع)، ولما انتهك منه.. فإذن، هذا هم بناء!..
كيف نقضي على الهموم، أو كيف نعدل الهموم؟..
– إن الهم محله القلب، فالقلب هو الذي يحمل الهم والغم..
أولاً: السيطرة على رافد الهم والغم.. إن من لا يشتغل على قلبه، فليتحمل الهموم والغموم؛ لأنه باطن غير مهذب.. فالشيطان من الممكن أن يدخل في كل لحظة، وفي كل زاوية، ويدخل إلى القلوب المفتوحة.. فالمملكة التي لا حدود لها، وحدودها البرية والبحرية والجوية مفتوحة لكل مؤامرة، هذا البلد لا يستقيم.. والقلب هو مملكة لها حدود.. والشيطان يجلس بالمرصاد، ليدخل إلى مملكة الوجود من أي باب أمكنه.. وعليه، لابد من السيطرة على المشاعر وحالات القلب، فلا ندع كل شيء يوجب له الاضطراب، لأن الاضطراب مقدمة للهم.. ومن يعمل على سلامة قلبه الباطني، لا يدع للوهم مجالاً إلى فؤاده.. فالقضية تبدأ بفكرة باطلة، والفكرة تصبح حالة مستقرة، وهذه الحالة المستقرة تتحول إلى حالة شعورية.. مثلاً: من ينام ليلاً وقد أًكثر من الطعام والشراب، يرى أضغاث أحلام؛ فعندما يستيقظ صباحاً يكون كئيباً ومتوتراً.. وإذا بهذا القلب السليم الذي لا شيء يزعجه، يصبح محطة لكل هم وغم.. وبالطبع فإن المزاج يتكدر، ويؤدي إلى مشاحنة بين الزوجين، ثم يشتعل البيت نارا.. وإذا بقضية منام لا قيمة له في جوف الليل، تحول إلى كدورة باطنية.. والكدورة الباطنية تؤدي إلى أذى نفسي، والأذى النفسي يؤدي إلى سوء خلق، ومواجهة، وردة فعل.. وإذا بالأمر قد يصل إلى المحكمة.. ولكن الإنسان العاقل، له سيطرة على هذه المنافذ.. فإذن، إن الذي يريد أن يسيطر على القلب، لابد أن يتحكم في المعلومات التي ترد القلب.
– إن من مصاديق الوهم، ما يتعلق بقضايا الغيب وما وراء الستار: فالمرأة التي لا تحاول أن تصلح العش الزوجي، تبحث عما وراء الستار.. مثلا: امرأة سيئة الخلق، ترفض المؤمنين بلا وجه وجيه، وتجعل المقاييس هي مقاييس المادة والوجاهة الباطلة.. من الطبيعي أن تحرم من الرزق الطيب، ومن إكمال الحياة الأسرية.. فتذهب يميناً وشمالاً، لتبحث عمن يبطل السحر والشعوذة وما شابه ذلك.. لماذا ننتقل من عالم الشهود إلى عالم الغيب، نقلة فجائية بلا استقراء؟.. عندما يرى الإنسان كل الموجبات المادية منفية، فإن له الحق أن يفكر فيما وراء الغيب؛ ولكن بأسلوب منطقي، لا بأسلوب تجاري.. أي لا يذهب إلى المبتزين والمبتزات، فهذا مرفوض.. وبعض الأخوات يوم القيامة، يحاسبن حساباً عسيرا على ترويج الباطل.. فالتي تذهب لهؤلاء المبطلين والمبطلات، ويروجون لهم ولهن، يوم القيامة تتحمل الوزر: وزر الابتزاز، والشعوذة، والاستيلاء بالباطل على المال.
– إن من موجبات القضاء على الهموم، أو تقليل الهم؛ مراقبة روافد الفؤاد المختلفة.. قد يقول قائل: هذا يحتاج إلى ثقافة: دينية، وتربوية، ونفسية، أو ما يسمى هذه الأيام بالبرمجة اللغوية العصبية.. بالتأكيد على الإنسان أن يثقف نفسه!.. فالإنسان لا يريد أن يكون طبيباً، ولكن بما أنه يملك جسما سليما، فلابد أن يطلع على أوليات الطب والسلامة والصحة.. ومن يريد أن يكون متميزا في باطنه وسلوكه، لابد أن يكون مطلعا على الأوليات كذلك.. والعلم مخزون عند أهله، فاقتبسوه من مظانه.. وهذه الأيام الكتب المؤلفة في هذا المجال ليست بالقليل.. فإذن، إن النقطة الأولى، هي السيطرة على روافد الهم والغم.
ثانياً: سد كل ما يوجب الغضب الإلهي.. إن رب العالمين له طرق في تكفير السيئات، فالإنسان غير المعصوم وغير العادل، حياته فيها سلبيات.. وكلمة (غير العادل)؛ أي هنالك ذنب، وكل ذنب هو فسق -فسق صغير-.. ولكن عندما تتجمع الذنوب، يصبح الفسق كبيراً، وعندها يصبح صاحب كبيرة مثلاً.. فما دمنا لسنا معصومين، ولسنا بعدول؛ أي هنالك ثغرات في حياتنا.. ولكن رب العالمين جعل بإزاء كل ثغرة، حالة من حالات التأديب؛ رفقاً بالمؤمن.. أما غير المؤمن، فإن هذه الثغرات تبقى كما هي، ولا يعوض بشيء.. مثلا: إن النصف الشمالي من الكرة الأرضية من أكثر البقاع فسقاً، وأكثرها جمالاً، وملائمة في المناخ: الغابات الجميلة، والوجوه الجميلة.. فرب العالمين يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار، يقول الله -عز وجل- في سورة الزخرف: {أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ}؛ فرب العالمين لا يعجل (إنما يعجل من يخاف الفوت، ويحتاج إلى الظلم الضعيف).
– إن كل ثغرة في الحياة، حتى الكلمة النابية والصراخ على الطفل وضربه، والنظرة البلهاء لها حساب عند رب العالمين، يقول علماء الأخلاق: إياكم وفضول النظر!.. عندما يمر الإنسان في الشارع، ويتأمل في أبنية أهل الدنيا يقول القرآن: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}؛ أي لماذا تنظر إلى متاع الآخرين؟.. حتى الكبوة عندما يمشي الإنسان ويعثر برجله، ويسقط على الأرض، وقد يجرح جرحا بسيطا؛ هي مقابل عمل قام به.. حتى الخدشة، أو الشوكة التي تدخل في الرجل، أو الوخزة البسيطة؛ هي مقابل النظرة البلهاء.. وأي قلق يعيشه الإنسان ويرتفع، هو كفارة.. فإذن، إن كل ثغرة في الحياة، هناك مقابلها موقف إلهي.
ثالثاً: معرفة أسباب الهم والغم.. إن هناك هموما وغموما بلا دليل، مثلا: امرأة جالسة في المنزل: منزل جديد، كل الأثاث فاخر، وزوج طيب، وأولاد صالحين.. وإذا بالهم يعتصر فؤادها.. لابد أن هنالك ثغرات، يجب كشفها!..
– إن رب العالمين لا يتدخل في عالم الأبدان، حتى الشيطان لا يدخل في عالم المادة؛ ولكن القلب مفتوح للملكتين.. الشيطان له صلاحية بنص القرآن الكريم، يلعب كيفما يريد، تقول الآية: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}، {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا}.. نعم جعل لهم سلطان، وأي سلطان!.. {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}.. أما غير العبد، فإن الشيطان له سلطان عليه، والسلطان هو على القلب لا على البدن!.. فهل رب العالمين يعطي هذا الامتياز للشيطان، ولا يعطيه لنفسه؟.. أي يقول له: أنت إلعب في نفوس الناس، ووسوس كما تشاء.. ورب العالمين، أرحم الراحمين، لا يدخل في القلوب إيجابيا لا سلبيا؟.. حاشا لله!.. فرب العالمين يده مفتوحة في القلوب، والشيطان يده مفتوحة في القلوب.. ولهذا كل أهل جهنم يرفعون دعوى على الشيطان، ويقولون: يا رب، هذا كله من شر الشيطان، هو الذي أغوانا.. رب العالمين أيضا يحاكم الشيطان، فيقول الشيطان: {فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم}، ما ألزمت أحد فـ{مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ}!.. إن رب العالمين يتدخل في القلوب كيفما يشاء، وهذا ليس من الجبر في شيء.
– إن بعض أنواع الهم والغم إلهي؛ عقوبة لعبده، وفي نفس الوقت رحمة لعبده.. مثلا: عندما اجتمع النبي (ص) مع من يحب، وجمعهم تحت الكساء، جاء جبرائيل وذكره بما يجري على الحسين (ع) يوم عاشوراء، فنغص عليه السرور.. فالهم والغم تارة عقوبتي، وتارة لطفي، كما كان لأنبيائه وأوليائه الصالحين.. لذا المطلوب أن نسد الثغرات!.. فإذا كنا على الجادة المستقيمة، فإن كل هم وغم، وكل ضيق، وكل فقر ومرض؛ يصبح تكامليا، ومعراجيا.. فإذن، لنحاول أن نسد كل ما يوجب علينا الغضب الإلهي.
– إن رب العالمين يعطي البعض بلاءات خفيفة ومستمرة، وهذه أيضا من النقاط المخيفة.. فالمصيبة هنا أن رب العالمين، يجعل العقوبة في الملف، -بتعبير القضاة: حكم مع وقف التنفيذ- فتجتمع الأحكام في ملف ضخم، وفي ختام السنة يصفع العبد صفعة، يهوي بها أسفل سافلين.. فيصاب ببلاء لا نهاية له، وهذا البلاء جاء من قوله تعالى: {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى}.. فالغضب مثل سحابة عذاب، تتراكم وتتراكم، وإذا بهذا الغضب ينزل على العبد دفعة واحدة.. وأبسط مصاديق هذا الغضب، البلاء في الأجسام؛ كمرض خبيث يودي بحياة الإنسان.. فالإنسان الذي حياته معصية، كلما يموت أسرع، يكون خيرا له؛ ولهذا يقال: فلان المأسوف على شبابه، والبعض منهم الممدوح على وفاته.. فالموت المبكر لبعض الشباب، هو نعمة كبرى؛ ولهذا قد يكون هذا الدعاء ثقيلا على الوالدين، ولكن لا بأس في ساعة أنس بالله -عز وجل- قل: يا رب، إن كان ولدي حياته مدعاة لشقاوته، ليس عندي طلب أن يبقى حياً.. يقول الإمام زين العابدين (ع): (إلهي!.. إن كان عمري مرتعا للشيطان فاقبضني إليك).. إذا كان أنا أحب أن يقبض روحي، فكيف بولدي وأختي وعمي وخالي؟!..
– إن البلاء إذا كان على شكل بلاء مادي، فالأمر هين؛ ولكن المصيبة أن يكون البلاء في الدين، ألا نقول في الدعاء: (اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا)!.. والمراد بالدين ليس فقط الدين؛ أي المصائب المتعلقة بالآخرة.. إن من لم يخشع قلبه ليلة القدر، وأصيب بقسوة القلب؛ فهذه من أسوأ العقوبات!.. لله عقوبات في الأبدان والأموال، وفي الرواية: (ما ضرب العبد بعقوبة، أشد من قسوة القلب).. كذلك بالنسبة إلى المرأة، فهي تحب أن تصلي ركعتين بتوجه، وهمها الطبخ والغسيل، وكل ما تريد أن تخرج ترجع إلى مطبخها.. فالمؤمن يعرج في مناجاة مع رب العالمين، وهذه المسكينة تحوم في شرنقة مقفلة، وفي عيشة محدودة، همها هذا الحائط إلى هذا الحائط؛ ولكن أين الدرجات العليا؟.. آسيا بنت مزاحم امرأة فرعون، يصل بها الكمال أن تقول: {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ}.. تريد جوار الله، وهي زوجة أسوأ خلق الله.. نحن نقول في السجود: سبحان ربي الأعلى!.. وفرعون يقول: أنا ربكم الأعلى!.. انظروا الفرق بين أزواجنا، وبين زوج آسيا!.. إلى أين وصلت؟.. في بيئة من أسوأ البيئ، ونحن في هذه البيئ الإيمانية، بين زوج مؤمن: من مأتم إلى مسجد، ومن محاضرة إلى درس، ولم نصل إلى عشر مقامات آسيا بنت مزاحم.. والغريب أن المرأة تغار فقط من الزوجة الثانية، ولا تغار من هذه المقامات العالية التي حرمتها!.. ومريم بنت عمران، هي ليست نبية ولا وصية، فكيف وصلت؟.. {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}.
الخلاصة: أولا القضاء على الهموم غير ممكن، إذ لابد من الهم؛ ولكن الهم نوعان: رسالي، وغير رسالي.. فالهم الرسالي، يدفع الإنسان للأمام أولاً.. وثانياً ليس له أثر سلبي على السلسلة العصبية.. والمؤمن كلما زاد إيمانا، زاد وقارا وثقلا وسكينة {أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.. فذكر الله فيه بكاء، وفيه خشية، وفيه نحيب (اللهم!.. اجعلنا ممن دأبهم الارتياح إليك والحنين، ودهرهم الزفرة والأنين، جباههم ساجدة لعظمتك، وعيونهم ساهرة في خدمتك، ودموعهم سائلة من خشيتك، وقلوبهم متعلّقة بمحبّتك، وأفئدتهم منخلعة من مهابتك).. وذكر الله فيه زفرة وأنين، ولكن ثمرته الاطمئنان.. والهموم والغموم قد تكون تارة عقوبتية، مقابل الثغرات في الحياة؛ فلنسد هذه الثغرات.. إذا سددنا الثغرات، وبقيت الهموم في حالها؛ فلنعلم أنه هم مقدس.
– إن قلب الإمام (عج) أكثر القلوب هما وغما، لما يراه من شؤون شيعيته، ولما يتذكره من مصائب آبائه وأجداده.. ولكن هذا القلب أيضا، هو من أسعد الناس على وجه الأرض، وأكثر القلوب اطمئنانا.. فإذن يمكن الجمع بين هذين المقامين.
– إن الإنسان عندما يبتلى بشيء من الهم والغم، قبل أن يفتح أسراره للغير، وقبل الشكوى إلى المخلوق، عليه أن يقدم شكواه إلى الله عز وجل {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}.. يقدم هذه الشكوى في جوف الليل، في صلاة ليل خاشعة.. بعض المؤمنين يتلذذ بالمشاكل الزوجية، كلما ترفع زوجته صوتها عليه، يقول: الحمد لله رب العالمين، هذه رفعت صوتها، وأهانتني؛ ولكنها ارتاحت!.. أي بسكوتي نفست عما في قلبها، وبذلك أكون قد أدخلت السرور على قلب.. فهو يشكر الله -عز وجل- على هذه النعمة.. فإذن، فلنقدم شكوى إليه -سبحانه وتعالى- في أن يجعل قلوبنا مستقر نظرته.. هنيئا لمن نظر الله إلى قلبه!.. فرب العالمين نظر إلى العدم، فجعله وجوداً.. ونظر إلى اللاشيء، فخلق منهن سبع سماوات وما بينهن {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}.. فكيف إذا نظر إلى قلب عبده المؤمن؟.. (لم يسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن)!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.