- ThePlus Audio
مراقبة النفس ومحاسبتها
بسم الله الرحمن الرحيم
التقوى ومراقبة النفس
إن من أبلغ الآيات التي تشير إلى مراقبة النفس هو قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[١]. والقرآن الكريم مليئ بالآيات التي تأمر بالتقوى. وما التقوى إلا العمل بما يرضى الله عز وجل؛ من الالتزام بالواجبات، والانتهاء عن المحرمات.
من هو المعني بالمراقبة في هذه الآية؟
ويا لروعة الخطاب في قوله سبحانه: (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ). لقد خاطب سبحانه في بداية هذه الآية الشريفة جميع المؤمنين بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ)، ولكن عندما وصل الأمر إلى المحاسبة والمراقبة انتقل الخطاب إلى الغائب. ويقول العلماء عن ذلك: بأن هذه الآية لا تخلو من العتاب ومن تقريع خفي. وكأن الله عز وجل يقول: أخاطب من؟! فالأمر بالتقوى أخاطب به المؤمنين جميعا ولكن مراقبة النفس ليست من الأمور السهلة حتى أخاطب بها جميع المؤمنين وإنما هي نفوس في غاية القلة والندرة ولذلك استعمل التنكير في قوله: (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ).
ضرورة محاسبة النفس
ثم يكرر سبحانه الأمر بالتقوى. ولب التقوى وثمرته المحاسبة والمبالغة في مراقبة النفس. وكيف يتقي غضب الله عز وجل من لا يستشعر الرقابة الإلهية عند مزاولة الأعمال القبيحة وعند التعرض لمعاصيه وقد جعله من أهون الناظرين إليه؟ ولا تعطي التقوى ثمارها المرجوة إلا بمحاسبة النفس على الصغيرة والكبيرة. فقد روي عن الإمام الكاظم (ع) أنه قال: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُحَاسِبْ نَفْسَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَإِنْ عَمِلَ حَسَناً اِزْدَادَ اَللَّهَ شُكْراً وَإِنْ عَمِلَ سَيِّئاً اِسْتَغْفَرَ اَللَّهَ وَتَابَ إِلَيْهِ)[٢].
نسيان الله عز وجل
ثم تقول الآية: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[٣]، ونسيان الله عز وجل قد يجتمع مع الطاعة. ويقال: أن النسيان هو ذهاب صورة الشيء من الذهن. وقد يعمل الموظف في شركة لسنوات طويلة وهو ناس للآمر من وزير أو مدير أو مسئول؛ فهو يعمل بصورة تلقائية دون الالتفات لمن طلب منه العمل. وقد يطيع العبد ربه لسنوات متمادية لأنه قد تعود على العبادة؛ بل قد يستوحش من تركها كما روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (لاَ تَنْظُرُوا إِلَى طُولِ رُكُوعِ اَلرَّجُلِ وَسُجُودِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ اِعْتَادَهُ فَلَوْ تَرَكَهُ اِسْتَوْحَشَ)[٤]. فهو عابد تلقائي لا يعيش حالة الذكر الدائم؛ بل ولا المتقطع. فقد يجتمع الاعتراف بالله سبحانه والإيمان به مع نسيانه وعدم الالتفات إليه وأنه الوجود الحقيقي الذي كل من في الوجود رشحة من رشحات فيضه.
ثم يهدد سبحانه الناسي له بقوله تعالى: (نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)؛ أي لا يقيم له سبحانه بعد ذلك وزنا. فبعد أن كان عبد له صلة بالله عز وجل؛ يصبح كأي جماد في هذا الوجود. وإذا أنساه الله عز وجل نفسه لا يراقبها ولا يلتفت إلى تراكم المعاصي فيبتعد عن الله عز وجل شيئا فشيئا. وقد تجادله أعضائه وجوارحه يوم القيامة بأن تقول له: لقد عبدت الله باعتباري لحما ودما وعظما ولكنك لم تعبد الله بهذه النفس التي كنت تحملها، بل كانت جوارحك تصلي وأنت ساه لاه تلهو في الصلاة وتسرح في عالم أفكارك وربما فكرت بالحرام وأنت في الصلاة..! فياله من غبن أن يعيش الإنسان هذا العتاب البليغ.
ثم يصف سبحانه الناسين له بقوله: (أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ). ولم يقل سبحانه أنهم غافلون؛ ففي عرفنا أن الناسي لربه حاله حال سائر أهل الأرض من الغافلين، ولكن القرآن الكريم شديد وصريح في خطابه أن هذا من الفسق؛ إما فسق خفي أو مقدمة لفسق جلي.
لقد خشع الجبل ولان وما لان قلبك..!
ونرى عتابا خفيا آخر في قوله سبحانه: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ الله)[٥]. وإن كان المتلقي الأول لهذا القرآن هو النبي (ص)؛ إلا أن كل تال للقرآن وكل مسلم هو أهل لتحمل هذه المعاني بعقله وقلبه ولو بصورة إجمالية. ولكن الكثير منا للأسف الشديد لا يخشع قلبه من تلاوة آياته وتدبر معانيه وكلماته وكأن الجبل أرق من قلبه. وجديرة هذه الآية بالتفكر: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[٦].
أسماء الله الحسنى وأثرها على محاسبة النفس
ثم في ختام هذه السورة يذكر سبحانه بعض أسمائه الحسنى وهي ترتبط بسياق الآيات التي تتحدث عن المراقبة بقوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۖ هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[٧]، وكأنها تقول: لو لم تقدم لغدك من الأعمال شيئا فستواجه ربا بهذه الصفات والأسماء وهي أسماء تجعل العبد وتحثه على المراقبة الدقيقة لكل ساعة من ساعات حياته.
اتخذ من هذه الآيات وردا لك
ولهذا فإن التدبر في القرآن الكريم، هو مفتاح التكامل. فهذه الآيات مفتاح الفلاح، لأنها تؤكد على عنصر جوهري، وهو مسألة المراقبة. والمراقبة متوقفة على معرفة المراقَب، وصفات جلاله وكماله. فلنتدبر في هذه الآيات، ونتخذها ورداً لنا في يومنا وليلتنا؛ لأنها من الآيات التي يستحسن قراءتها دائماً، من قوله تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ) حتى نهاية السورة المباركة، لتكون عنصر ردعٍ وتذكير للمؤمن بأن لا ينسى ربه ولو للحظة واحدة.
خلاصة المحاضرة
- في نهاية سورة الحشر يلاحظ المتدبر للقرآن الكريم وجود آيات صريحة في دلالتها على لزوم المراقبة ومحاسبة النفس وقد نهى سبحانه عن أن يكون المؤمن من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم حتى لا يكون في زمرة الفاسقين، وقد وردت الكثير من الروايات التي تؤكد على محاسبة النفس وذم التارك لها.