- ThePlus Audio
المواقف الخالدة في النهضة الحسينية
بسم الله الرحمن الرحيم
الشخصيات الخالدة في النهضة الحسينية
في كل عام ومع اقتراب شهر محرم الحرام ويوم عاشوراء على وجه التحديد، تفوح رائحة الدم الحسيني ونسمع قعقعة السيوف التي انتصرت رغم قلتها على الظلم الفظيع الذي أراد أن يتجذر في كيان الأمة، وذلك بفضل الحركة الحسينية التي اهريق فيها دم الشيخ الكبير كحبيب بن مظاهر، ودم الطفل الصغير كعبد الله الرضيع، ودم الشاب كعلي الأكبر، ودم الفارس كقمر بني هاشم العباس (ع).
نحن – مع الأسف – نعلم الجانب المأساوي من تاريخ الحسين (ع) فقط، ونركز على أحداث يوم عاشوراء، ولكن ما الذي جرى قبل ذلك في مكة، وفي المدينة، وفي طريقه إلى العراق؟ ففي هذا الحديث سيتم تسليط الضوء على بعض تلك الصور الجميلة من النهضة الحسينية وبعض نقاط القوة في هذه الحركة العظيمة.
معرضة محمد بن الحنفية لخروج الإمام الحسين (ع) من مكة
إن محمد بن الحنفية كان معارضاً لخروج الإمام الحسين (ع)، لأنه كان يستشم رائحة غدر أهل الكوفة، ولكن الحسين (ع) حسم النقاش بأن أسند هذا الخروج إلى جده المصطفى (ص)، الذي لا ينطق عن الهوى.
فقد ورد عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: ( جَاءَ مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحَنَفِيَّةِ إِلَى اَلْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِي اَللَّيْلَةِ اَلَّتِي أَرَادَ اَلْحُسَيْنُ اَلْخُرُوجَ فِي صَبِيحَتِهَا عَنْ مَكَّةَ فَقَالَ لَهُ يَا أَخِي إِنَّ أَهْلَ اَلْكُوفَةِ قَدْ عَرَفْتَ غَدْرَهُمْ بِأَبِيكَ وَأَخِيكَ وَقَدْ خِفْتُ أَنْ يَكُونَ حَالُكَ كَحَالِ مَنْ مَضَى فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُقِيمَ فَإِنَّكَ أَعَزُّ مَنْ بِالْحَرَمِ وَأَمْنَعُهُ فَقَالَ يَا أَخِي قَدْ خِفْتُ أَنْ يَغْتَالَنِي يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بِالْحَرَمِ فَأَكُونَ اَلَّذِي يُسْتَبَاحُ بِهِ حُرْمَةُ هَذَا اَلْبَيْتِ فَقَالَ لَهُ اِبْنُ اَلْحَنَفِيَّةِ فَإِنْ خِفْتَ ذَلِكَ فَصِرْ إِلَى اَلْيَمَنِ أَوْ بَعْضِ نَوَاحِي اَلْبَرِّ فَإِنَّكَ أَمْنَعُ اَلنَّاسِ بِهِ وَلاَ يَقْدِرُ عَلَيْكَ أَحَدٌ فَقَالَ أَنْظُرُ فِيمَا قُلْتَ فَلَمَّا كَانَ اَلسَّحَرُ اِرْتَحَلَ اَلْحُسَيْنُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَبَلَغَ ذَلِكَ اِبْنَ اَلْحَنَفِيَّةِ فَأَتَاهُ فَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ وَقَدْ رَكِبَهَا فَقَالَ يَا أَخِي أَ لَمْ تَعِدْنِي اَلنَّظَرَ فِيمَا سَأَلْتُكَ قَالَ بَلَى قَالَ فَمَا حَدَاكَ عَلَى اَلْخُرُوجِ عَاجِلاً قَالَ أَتَانِي رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ بَعْدَ مَا فَارَقْتُكَ فَقَالَ يَا حُسَيْنُ اُخْرُجْ فَإِنَّ اَللَّهَ قَدْ شَاءَ أَنْ يَرَاكَ قَتِيلاً فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحَنَفِيَّةِ إِنّٰا لِلّٰهِ وإِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ)[١].
لقد كان دور المواعظ العلوية والحسنية انتهى، وكان الوقت قد حان لحديث السيوف ومواعظ الدماء، وكانت والأمة بحاجة إلى هزة عميقة توقظها من سباتها العميق.
ولم يعترض محمد بن الحنفية على خروج الإمام (ع) فحسب؛ بل اتعرض أيضا على اصطحابه للنساء معه، تقول الرواية: (فَمَا مَعْنَى حَمْلِكَ هَؤُلاَءِ اَلنِّسَاءَ مَعَكَ وَأَنْتَ تَخْرُجُ عَلَى مِثْلِ هَذَا اَلْحَالِ قَالَ فَقَالَ لِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ إِنَّ اَللَّهَ قَدْ شَاءَ أَنْ يَرَاهُنَّ سَبَايَا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَمَضَى)[٢]. فلا زلنا إلى يومنا وهذا وإلى يوم القيامة نرى ثمرات التركيبة التي حفظت الدين وقومت الإعوجاج؛ وهي دم الحسين (ع)، بالإضافة إلى سبي زينب (س) وبنات الرسالة، والأغلال الجامعة.
خلود النهضة الحسينية
وكلما مرت الأيام وانصرمت السنين، تزداد هذه النهضة تألقا في الكم والكيف، وذلك من خلال انتشارها في وسائل الإعلام، المرئي منها والمسموع والمقروء. ولم يبق على وجه الأرض إنسان له صلة بالثقافة، لا يعلم كلمة الحسين (ع). وهو كالبحر الزاخر يغدق عطائه وتنال رحمته الوجوه التي تذر الدموع بمجرد الاستماع لشيء من سيرته العطرة.
لقاء الإمام (عليه السلام) بالفرزدق
الصورة الأخرى من صور ما قبل عاشوراء، لقاء الإمام (ع) بالفرزدق بن غالب الشاعر، فقد روي: (قالَ الحُسَينُ عليه السلام: مِن أينَ أقبَلتَ يا أبا فِراسٍ؟ فَقالَ: مِنَ الكوفَةِ يَابنَ بِنتِ رَسولِ اللّه! فَقالَ: كَيفَ خَلَّفتَ أهلَ الكوفَةِ؟ فَقالَ: خَلَّفتُ النّاسَ مَعَكَ، وسُيوفَهُم مَعَ بَني اُمَيَّةَ، وَاللّه يَفعَلُ في خَلقِهِ ما يَشاءُ. فَقالَ: صَدَقتَ وبَرَرتَ. إنَّ الأَمرَ للّه يَفعَلُ ما يَشاءُ، ورَبُّنا تَعالى كُلَّ يَومٍ هُوَ في شَأنٍ، فَإِن نَزَلَ القَضاءُ بِما نُحِبُّ فَالحَمدُ لله عَلى نَعمائِهِ، وهُوَ المُستَعانُ عَلى أداءِ الشُّكرِ، وإن حالَ القَضاءُ دونَ الرَّجاءِ، فَلَم يَعتَدِ مَن كانَ الحَقَّ نِيَّتُهُ)[٣].
ولو أمعنا التفكير في هذه الرواية لرأينا كيف يصل الإمام (ع) لمبدأ العمل بالتكليف مهما كانت النتائج، وقد خرج (ع) امتثالا لمشيئة الله سبحانه، وتنفيذا لوصية رسول الله (ص)، ثم لا يهمه بعد ذلك ما حدث. وأراد أن يبين أن لا تضاد بين الولاية والتوحيد.
فقد خرج الإمام (ع) للإصلاح في أمة جده (ص) ولإقامة الدين بأصوله وفروعه، ولم يكن له شعار غير هذا الشعار التوحيدي، وقد قال (ع): (مِنْ كَلاَمِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَمَّا عَزَمَ عَلَى اَلْخُرُوجِ إِلَى اَلْعِرَاقِ قَامَ خَطِيباً فَقَالَ: اَلْحَمْدُ لِلَّهِ وَمَا شَاءَ اَللَّهُ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَسَلَّمَ خُطَّ اَلْمَوْتُ عَلَى وُلْدِ آدَمَ مَخَطَّ اَلْقِلاَدَةِ عَلَى جِيدِ اَلْفَتَاةِ وَمَا أَوْلَهَنِي إِلَى أَسْلاَفِي اِشْتِيَاقَ يَعْقُوبَ إِلَى يُوسُفَ وَخُيِّرَ لِي مَصْرَعٌ أَنَا لاَقِيهِ كَأَنِّي بِأَوْصَالٍ يَتَقَطَّعُهَا عُسْلاَنُ اَلْفَلَوَاتِ بَيْنَ اَلنَّوَاوِيسِ وَكَرْبَلاَءَ فَيَمَلَأْنَ مِنِّي أَكْرَاشاً جَوْفاً وَأَجْرِبَةً سُغْباً لاَ مَحِيصَ عَنْ يَوْمٍ خُطَّ بِالْقَلَمِ رِضَى اَللَّهِ رِضَانَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ نَصْبِرُ عَلَى بَلاَئِهِ وَيُوَفِّينَا أُجُورَ اَلصَّابِرِينَ لَنْ يَشُذَّ عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ لَحْمَتُهُ وَهِيَ مَجْمُوعَةٌ لَهُ فِي حَظِيرَةِ اَلْقُدُسِ تَقَرُّ بِهِمْ عَيْنُهُ وَيَتَنَجَّزُ لَهُمْ وَعْدُهُ مَنْ كَانَ فِينَا بَاذِلاً مُهْجَتَهُ وَمُوَطِّناً عَلَى لِقَائِنَا نَفْسَهُ فَلْيَرْحَلْ فَإِنِّي رَاحِلٌ مُصْبِحاً إِنْ شَاءَ اَللَّهُ)[٤].
من نقاط قوة الحركة الحسينية
ومن نقاط القوة في الحركة الحسينية؛ قوة تأثير الكلمات الحسينية؛ وينبغي أن يرشد المؤمنون إخوتهم وأخواتهم إلى المجالس الحسينية الهادفة والتي تهدف إلى إصلاح المجتمع. وهذه المجالس وإن كانت منتسبة إلى سيد الشهداء (ع) إلا أن صاحب والقائم بأمرها والراعي لها هو صاحب العصر والزمان (ع)، وهو يرعى كل مجلس يقام في أي بقعة من بقاع الأرض.
لقاء الإمام (عليه السلام) بزهير بن القين رضوان الله عليه
إن ما حصل لزهير من الفوز العظيم يوم عاشوراء، كان – بلا ريب – بسبب زوجته المؤمنة. فقد (وَحَدَّثَ جَمَاعَةٌ مِنْ فَزَارَةَ وَمِنْ بَجِيلَةَ قَالُوا: كُنَّا مَعَ زُهَيْرِ بْنِ اَلْقَيْنِ اَلْبَجَلِيِّ حِينَ أَقْبَلْنَا مِنْ مَكَّةَ فَكُنَّا نُسَايِرُ اَلْحُسَيْنَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَيْنَا مِنْ أَنْ نُنَازِلَهُ فِي مَنْزِلٍ فَإِذَا سَارَ اَلْحُسَيْنُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَنَزَلَ مَنْزِلاً لَمْ نَجِدْ بُدّاً مِنْ أَنْ نُنَازِلَهُ فَنَزَلَ اَلْحُسَيْنُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِي جَانِبٍ وَنَزَلْنَا فِي جَانِبٍ فَبَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ نَتَغَذَّى مِنْ طَعَامٍ لَنَا إِذْ أَقْبَلَ رَسُولُ اَلْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حَتَّى سَلَّمَ ثُمَّ دَخَلَ فَقَالَ يَا زُهَيْرَ بْنَ اَلْقَيْنِ إِنَّ أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ اَلْحُسَيْنَ بَعَثَنِي إِلَيْكَ لِتَأْتِيَهُ فَطَرَحَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنَّا مَا فِي يَدِهِ حَتَّى كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا اَلطَّيْرَ فَقَالَتْ لَهُ اِمْرَأَتُهُ سُبْحَانَ اَللَّهِ أَ يَبْعَثُ إِلَيْكَ اِبْنُ رَسُولِ اَللَّهِ ثُمَّ لاَ تَأْتِيهِ لَوْ أَتَيْتَهُ فَسَمِعْتَ مِنْ كَلاَمِهِ ثُمَّ اِنْصَرَفْتَ فَأَتَاهُ زُهَيْرُ بْنُ اَلْقَيْنِ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ مُسْتَبْشِراً قَدْ أَشْرَقَ وَجْهُهُ فَأَمَرَ بِفُسْطَاطِهِ وَثَقَلِهِ وَرَحْلِهِ وَمَتَاعِهِ فَقُوِّضَ وَحُمِلَ إِلَى اَلْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ثُمَّ قَالَ لاِمْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ اِلْحَقِي بِأَهْلِكِ فَإِنِّي لاَ أُحِبُّ أَنْ يُصِيبَكِ بِسَبَبِي إِلاَّ خَيْرٌ ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَتْبَعَنِي وَإِلاَّ فَهُوَ آخَرُ اَلْعَهْدِ)[٥].
حال الحسين (عليه السلام) عند سماع خبر استشهاد مسلم بن عقيل رضوان الله عليه
وعندما أتى الحسين (ع) خبر استشهاد ابن عمه مسلم بن عقيل قال: (رَحِمَ اَللَّهُ مُسْلِماً فَلَقَدْ صَارَ إِلَى رَوْحِ اَللَّهِ وَرَيْحَانِهِ وَجَنَّتِهِ وَرِضْوَانِهِ أَمَا إِنَّهُ قَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ وَبَقِيَ مَا عَلَيْنَا ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
فَإِنْ تَكُنِ اَلدُّنْيَا تُعَدُّ نَفِيسَةً * * * فَإِنَّ ثَوَابَ اَللَّهِ أَعْلَى وَ أَنْبَلُ
وَإِنْ تَكُنِ اَلْأَبْدَانُ لِلْمَوْتِ أُنْشِئَتْ * * * فَقَتْلُ اِمْرِئٍ بِالسَّيْفِ فِي اَللَّهِ أَفْضَلُ
وَإِنْ تَكُنِ اَلْأَرْزَاقُ قِسْماً مُقَدَّراً * * * فَقِلَّةُ حِرْصِ اَلْمَرْءِ فِي اَلسَّعْيِ أَجْمَلُ
وَإِنْ تَكُنِ اَلْأَمْوَالُ لِلتَّرْكِ جَمْعُهَا * * * فَمَا بَالُ مَتْرُوكٍ بِهِ اَلْمَرْءُ يَبْخَلُ)[٦]
والإمام (ع) بثورته على الظالمين قد أثبت سنة من سنن التاريخ، فقد روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (مَنْ ظَلَمَ سَلَّطَ اَللَّهُ عَلَيْهِ مَنْ يَظْلِمُهُ)[٧]، وهذا الذي أصاب بني أمية من جراء الثورات التي أعقبت الثورة الحسينية حتى آل أمرهم إلى مزبلة التاريخ.
سفينة الحسين (عليه السلام) أوسع السفن وأسرعها..!
ومن نقاط قوة الثورة الحسينية، وهي بشارة للعصاة ما ذكره أحد علمائنا الأبرار: (فالنبي والأئمّة عليهم السلام كلّهم أبواب الجنان؛ لكنّ باب الحسين أوسع، وكلّهم سفن النجاة؛ لكنّ سفينة الحسين مجراها في اللجج الغامرة أسرع، ومرساها على السواحل المنجية أيسر، وكلّهم مصابيح الهدى؛ لكنّ الاستضاءة بنور الحسين أكثر وأوسع)[٨]. والحر وما أدراك ما الحر وما فعل بقلوب الهاشميات من الرعب الذي أدخله عليهن، وما ضيق على الحسين وأصحابه حتى منعهم السير، انقلب رأسا على عقب وأصبح أسعد السعداء بعد أن كان من أشقى الأشقياء لسببين: الأول صلاته خلف الإمام الحسين (ع)، وإجلاله واحترامه لفاطمة (ع).
ففي الموقف الأول: عندما حان وقت الصلاة، قال الحسين (ع): (لِلْمُؤَذِّنِ أَقِمْ فَأَقَامَ اَلصَّلاَةَ فَقَالَ لِلْحُرِّ أَ تُرِيدُ أَنْ تُصَلِّيَ بِأَصْحَابِكَ قَالَ لاَ بَلْ تُصَلِّي أَنْتَ وَنُصَلِّي بِصَلاَتِكَ فَصَلَّى بِهِمُ اَلْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ)[٩]. وهذا موقف من الحر ينبىء عن معرفة وإقرار بحق الحسين (ع) بالولاية والطاعة. وهذه هي البادرة الأولى للخير: فقد جاء لقتال الحسين (ع)، وإذا به يرى نفسه مأموما بين يديه.
الموقف الثاني: (فَلَمَّا ذَهَبُوا لِيَنْصَرِفُوا حَالَ اَلْقَوْمُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اَلاِنْصِرَافِ فَقَالَ اَلْحُسَيْنُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لِلْحُرِّ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ مَا تُرِيدُ فَقَالَ لَهُ اَلْحُرُّ أَمَا لَوْ غَيْرُكَ مِنَ اَلْعَرَبِ يَقُولُهَا لِي وَهُوَ عَلَى مِثْلِ اَلْحَالِ اَلَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا مَا تَرَكْتُ ذِكْرَ أُمِّهِ بِالثُّكْلِ كَائِناً مَنْ كَانَ وَلَكِنْ وَاَللَّهِ مَا لِي إِلَى ذِكْرِ أُمِّكَ مِنْ سَبِيلٍ إِلاَّ بِأَحْسَنِ مَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ)[١٠].
الموقف الخالد لعلي الأكبر (عليه السلام)
وإليك هذه الوثيقة التي تعطي درسا لكل الشباب، ليجعلوا الحق نصب أعينهم في كل حركة. وهي حول علي بن الحسين، هذا الشاب الذي كان يمثل النبي المصطفى (ص) جمالاً وبهاءً، وكان من أصبح الناس وجهاً، وأحسنهم خلقاً، ونقل أنّه كان يشبه بجدّه رسول الله (ص) في المنطق، والخَلق، والخُلُق، فقد روي: (قَالَ عُقْبَةُ بْنُ سِمْعَانَ سِرْنَا مَعَهُ سَاعَةً فَخَفَقَ وَهُوَ عَلَى ظَهْرِ فَرَسِهِ خَفْقَةً ثُمَّ اِنْتَبَهَ وَهُوَ يَقُولُ إِنّٰا لِلّٰهِ وَإِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ وَاَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ فَفَعَلَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ اِبْنُهُ عَلِيُّ بْنُ اَلْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ عَلَى فَرَسٍ فَقَالَ مِمَّ حَمِدْتَ اَللَّهَ وَاِسْتَرْجَعْتَ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنِّي خَفَقْتُ خَفْقَةً فَعَنَّ لِي فَارِسٌ عَلَى فَرَسٍ وَهُوَ يَقُولُ: اَلْقَوْمُ يَسِيرُونَ وَاَلْمَنَايَا تَصِيرُ إِلَيْهِمْ فَعَلِمْتُ أَنَّهَا أَنْفُسُنَا نُعِيَتْ إِلَيْنَا فَقَالَ لَهُ يَا أَبَتِ لاَ أَرَاكَ اَللَّهُ سُوءاً أَ لَسْنَا عَلَى اَلْحَقِّ قَالَ بَلَى وَاَلَّذِي إِلَيْهِ مَرْجِعُ اَلْعِبَادِ قَالَ فَإِنَّنَا إِذاً لاَ نُبَالِي أَنْ نَمُوتَ مُحِقِّينَ فَقَالَ لَهُ اَلْحُسَيْنُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ جَزَاكَ اَللَّهُ مِنْ وَلَدٍ خَيْرَ مَا جَزَى وَلَداً عَنْ وَالِدِهِ)[١١].
ومن الصور: أن الإمام الحسين (ع) أول ما وصل إلى كربلاء، أراد أن يعرف ضمائر من كان معه من أصحابه، فقال: (اَلنَّاسُ عَبِيْدُ اَلْمَالِ وَ اَلدِّينُ لَعِقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ بِهِ مَعَايِشُهُمْ فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلاَءِ قَلَّ اَلدَّيَّانُونَ)[١٢].
توبة الحر
(ثمّ ضرب فرسه قاصدا الحسين عليه السلام ويده على رأسه، وهو يقول: اللّهمّ إنّي تبت فتب عليّ، فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيّك. وقال للحسين عليه السلام: جعلت فداك، أنا صاحبك الّذي حبستك عن الرجوع، وسيارتك في الطريق، واللّه الّذي لا إله إلاّ هو، ما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم، واللّه لو حدّثتني نفسي أنّهم يقتلوك لما ركبتها منك أبدا، وإنّي قد جئتك تائبا إلى ربّي، ومواسيك بنفسي حتى أموت بين يديك، فهل ترى لي من توبة؟ قال: نعم، يتوب اللّه عليك ويغفر لك، ما اسمك؟ قال: أنا الحرّ. قال: أنت الحرّ كما سمّتك امّك إن شاء اللّه في الدنيا والآخرة)[١٣]، هذا الوسام الذي تعلق على صدر الحر، سيبقى وساماً أبدياً.
الشهيد النصراني
إن الحسين (ع) كان يودع بنفسه كل من أراد أن يخرج للقتال، ويقول: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)[١٤]. من هؤلاء الذين ودعهم الحسين وهب بن عبد الله الكلبي، تقول الرواية: ( ثمّ برز من بعده وهب بن عبد اللّه بن حباب الكلبيّ و قد كانت معه امّه يومئذ، فقالت: قم يا بنيّ فانصر ابن بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: أفعل يا امّاه و لا اقصّر.. ثمّ حمل فلم يزل يقاتل حتّى قتل منهم جماعة فرجع إلى امّه وامرأته فوقف عليهما فقال: يا امّاه أرضيت؟ فقالت: ما رضيت أو تقتل بين يدي الحسين عليه السّلام فقالت امرأته: لا تفجعني في نفسك! فقالت امّه: يا بنيّ لا تقبل قولها وارجع فقاتل بين يدي ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فيكون غدا في القيامة شفيعا لك بين يدي اللّه)[١٥].
(فلم يزل يقاتل حتّى قتل تسعة عشر فارسا واثني عشر راجلا، ثمّ قطعت يداه فأخذت امرأته عمودا وأقبلت نحوه وهي تقول: فداك أبي وأمّي قاتل دون الطيّبين حرم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فأقبل كي يردّها إلى النساء فأخذت بجانب ثوبه، وقالت: لن أعود أو أموت معك. فقال الحسين عليه السّلام: جزيتم من أهل بيتي خيرا ارجعي إلى النساء رحمك اللّه، فانصرفت وجعل يقاتل حتّى قتل رضوان اللّه عليه، قال: فذهبت امرأته تمسح الدم عن وجهه فبصر بها شمر، فأمر غلاما له فضربها بعمود كان معه فشدخها وقتلها، وهي أوّل امرأة قتلت في عسكر الحسين عليه السّلام. فأخذت امّه الرأس فقبّلته ثمّ رمت بالرأس إلى عسكر ابن سعد فأصابت به رجلا فقتلته، ثمّ شدّت بعمود الفسطاط فقتلت رجلين، فقال لها الحسين عليه السّلام: ارجعي يا أمّ وهب أنت وابنك مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فإنّ الجهاد مرفوع عن النساء)[١٦]
(لَمَّا بَرَزَ عَلِيُّ بْنُ اَلْحُسَيْنَ إِلَيْهِمْ أَرْخَى اَلْحُسَيْنُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَيْنَيْهِ فَبَكَى ثُمَّ قَالَ اَللَّهُمَّ فَكُنْ أَنْتَ اَلشَّهِيدَ عَلَيْهِمْ فَقَدْ بَرَزَ إِلَيْهِمْ غُلاَمٌ أَشْبَهُ اَلْخَلْقِ بِرَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)[١٧]
ثم قال الحسين (ع): (اللهمّ اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقا وخلقا ومنطقا برسولك، كنّا إذا اشتقنا إلى نبيّك نظرنا إلى وجهه، اللهمّ امنعهم بركات الأرض، وفرّقهم تفريقا، ومزّقهم تمزيقا، واجعلهم طرائق قددا، ولا ترض الولاة عنهم أبدا، فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا يقاتلوننا. ثمّ صاح الحسين عليه السّلام بعمر بن سعد: مالك؟ قطع اللّه رحمك، ولا بارك اللّه لك في أمرك، وسلّط عليك من يذبحك بعدي على فراشك كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، ثمّ رفع الحسين عليه السّلام صوته وتلا: «إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفىٰ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرٰاهِيمَ وَ آلَ عِمْرٰانَ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهٰا مِنْ بَعْضٍ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ثمّ حمل عليّ بن الحسين عليهما السّلام على القوم وهو يقول:
أنا عليّ بن الحسين بن عليّ * * * من عصبة جدّ أبيهم النبيّ
واللّه لا يحكم فينا ابن الدعيّ * * * أطعنكم بالرمح حتّى ينثني
أضربكم بالسيف أحمي عن أبي * * * رب غلام هاشميّ علويّ
فلم يزل يقاتل حتّى ضجّ الناس من كثرة من قتل منهم. وروي: أنّه قتل على عطشه مائة و عشرين رجلا، ثمّ رجع إلى أبيه وقد أصابته جراحات كثيرة، فقال: يا أبه العطش قد قتلني، وثقل الحديد أجهدني، فهل إلى شربة من ماء سبيل أتقوّى بها على الأعداء؟ فبكى الحسين عليه السّلام وقال: يا بنيّ يعزّ على محمّد صلّى اللّه عليه وآله وعلى عليّ بن أبي طالب وعليّ أن تدعوهم فلا يجيبوك، وتستغيث بهم فلا يغيثوك، يا بنيّ هات لسانك، فأخذ [ب] لسانه فمصّه ودفع إليه خاتمه، و قال عليه السّلام: أمسكه في فيك وارجع إلى قتال عدوّك فإنّي أرجو أنّك لا تمسي حتّى يسقيك جدّك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبدا، فرجع إلى القتال وهو يقول:
الحرب قد بانت لها الحقائق * * * وظهرت من بعدها مصادق
واللّه ربّ العرش لا نفارق * * * جموعكم أو تغمد البوارق
فلم يزل يقاتل حتّى قتل تمام المائتين، ثمّ ضربه منقذ بن مرّة العبدي لعنه اللّه على مفرق رأسه ضربة صرعته، و ضربه الناس بأسيافهم، ثمّ اعتنق صلوات اللّه عليه فرسه فاحتمله الفرس إلى عسكر الأعداء فقطّعوه بسيوفهم إربا إربا. فلمّا بلغت الروح التراقي قال رافعا صوته: يا أبتاه هذا جدّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأ بعدها أبدا وهو يقول: العجل العجل فإنّ لك كأسا مذخورة حتّى تشربها الساعة، فصاح الحسين عليه السّلام وقال: قتل اللّه قوما قتلوك، ما أجرأهم على الرحمن وعلى رسوله، وعلى انتهاك حرمة الرسول، (بني) على الدنيا بعدك العفا.
قال حميد بن مسلم: فكأنّي أنظر إلى امرأة خرجت مسرعة كأنّها الشمس الطالعة تنادي بالويل والثبور وتقول: يا حبيباه يا ثمرة فؤاداه، يا نور عيناه! فسألت عنها، فقيل: هي زينب بنت علي عليهما السّلام، وجاءت وانكبّت عليه فجاء الحسين عليه السّلام وأخذ بيدها فردّها إلى الفسطاط، وأقبل صلوات اللّه عليه بفتيانه، وقال: احملوا أخاكم فحملوه من مصرعه فجاءوا به حتّى وضعوه عند الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه)[١٨].
[٢] بحار الأنوار ج٤٤ ص٣٦٤.
[٣] موسوعة الإمام الحسين (ع) في الكتاب والسنة والتاريخ ج٣ ص٣٢٧.
[٤] كشف الغمة ج٢ ص٢٩.
[٥] الإرشاد ج٢ ص٧٢.
[٦] اللهوف ج١ ص٧٠.
[٧] الکافي ج٢ ص٣٣٢.
[٨] ينبغي الالتفات إلى أنّ ما اشتهر على ألسنة دد من الخطباء من أنّ «أهل البيت سفن النجاة ، ولكن سفينة الحسين عليه السلام أوسع وأسرع» لم يؤثر عن أهل البيت ، وممّا يجدر ذكره أنّه قد اتّضح بعد البحث المتواصل عن مصدر هذا القول أنّه تحليل للشيخ جعفر التستري رحمه الله.
[٩] الإرشاد ج٢ ص٧٦.
[١٠] الإرشاد ج٢ ص٧٦.
[١١] الإرشاد ج٢ ص٧٦.
[١٢] كشف الغمة ج٢ ص٣٢.
[١٣] تسلیة المُجالس ج٢ ص٢٧٩.
[١٤] سورة الأحزاب: ٢٣.
[١٥] عوالم العلوم ج١٧ ص٢٥٨.
[١٦] عوالم العلوم ج١٧ ص٢٥٨.
[١٧] بحار الأنوار ج٤٥ ص٤٥.
[١٨] عوالم العلوم ج١٧ ص٢٨٤.
هاشتاغ
خلاصة المحاضرة
- لقد كان دور المواعظ العلوية والحسنية انتهى في زمن الحسين (ع) بعد أن تولى يزيد السلطة، وكان الوقت قد حان لحديث السيوف ومواعظ الدماء، وكانت والأمة بحاجة إلى هزة عميقة توقظها من سباتها العميق، فكانت عاشوراء..!