Search
Close this search box.
Layer 5
فهرس تفسير المتدبرين
وَيۡلٞ لِّكُلِّ هُمَزَةٖ لُّمَزَةٍ ١ ٱلَّذِي جَمَعَ مَالٗا وَعَدَّدَهُۥ ٢ يَحۡسَبُ أَنَّ مَالَهُۥٓ أَخۡلَدَهُۥ ٣ كـَلَّاۖ لَيُنۢبَذَنَّ فِي ٱلۡحُطَمَةِ ٤ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡحُطَمَةُ ٥ نَارُ ٱللَّهِ ٱلۡمُوقَدَةُ ٦ ٱلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى ٱلۡأَفۡـِٔدَةِ ٧ إِنَّهَا عَلَيۡهِم مُّؤۡصَدَةٞ ٨ فِي عَمَدٖ مُّمَدَّدَةِۭ ٩
  • ThePlus Audio

موارد استعمال “ويل”

تكرر في القرآن الكريم ذكر كلمة (ويل) سبع عشرة مرة بصيغة النكرة ، للدلالة على تعظيم التهديد والتوبيخ ، ويجمع متعلقها في جميع الموارد عنوان : الشرك والكفر كقوله تعالى ﴿وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾[١] والمخالفة الأخلاقية كالكذب والهمز واللمز كما في هذه السورة ، والعبرة المستفادة من ذلك : إن الله تعالى يستعمل كلمة الويل ـ  الدالة علی تقبيح أرذل الأمور الباطنية كالكفر ـ وذلك في الرذائل الخارجية المتمثلة بالمعاصي المذكورة في هذه السورة ، والتي يستسهلها العصاة لكونها من مقولة الألفاظ كالهمز واللمز! .
وعليه ، فلا ينبغي الركون والارتياح عند التخلص من الخبث الباطني مع وجود الخبث الخارجي ، وبعبارة جامعة نقول : إن التخلق بأخلاقيات الشريعة جزء أساسي فيها و ذلک كالالتزام بعقائدياتها ، ومن هنا كان التهديد بالويل مشتركا فيهما .

[١] . سورة إبراهيم : الآية ٢ .

الجامع بين الهمز واللمز

قيل وجوه عدة في التفريق بين الهمز واللمز ، ولكن الجامع بينهما هو ذِكر عيب الغير عموما ، فينطبق على كل موارده ممّا كان بنحو الجد أو الاستهزاء ، وسواء كان في أمر الدين أو الدنيا ، وسواء كان بالقول أو بالفعل ، وسواء كان بالحضور أو الغيبة .
والمفهوم إجمالا من هذه الآية وآية الغيبة[٢] : إن مراد المولى هو التشنيع على مَن يذكر عيوب الناس من دون مسوّغ ؛ لأنه يوجب الوهن في الغير ، وتذكي روح العدوان في النفس ، وتشغله عن إصلاح أمرها .

[٢] . ﴿أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوه﴾ سورة الحجرات : الآية ١٢ .

جذور المعاصي

ما من معصية في الخارج إلا وتعود جذورها إلى الداخل : فالمتكبر لا يتكبر ـ  كما روي ـ إلا لذلة يجدها في نفسه ، والمطفف الذي أسند إليه الويل لا يأكل مال الغير إلا لحبه لجمع المال والمتاع ، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الهماز اللماز الذي لا يلج في أعراض الخلق إلا لخسة ودناءة في نفسه ، فإنهما والمغتاب قد لا يعود إليهم نفع في الدنيا ، ومع ذلك يعرّضون أنفسهم لانتقام رب العالمين .
ومن الممكن أن نجعل عذاب المغتاب متوجها للهماز واللماز وكذلك العكس ؛ لأن معصيتهم من سنخ واحد وهو تتبّع عيوب الآخرين وذكرها ، وما من شك أن ذِكر النار وأهوالها من موجبات الارتداع عمّا ذُكر لمَن كان بناؤه على الارتداع ، وهو ما خُتمت به هذه السورة المباركة .

ملاك القبح واحد

إنه بالإضافة إلى الذم لعامة اللّمز ـ  كما في هذه السورة ـ إلا أن الله تعالى أدان اللمز في خصوص أشرف الخلق (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك في أجلى صفاته عند الناس متمثلة بالأمانة ، إذ تجرأ البعض باللمز في حق النبي ‘ فكانوا من الذين قال عنهم الله تعالى ﴿وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فإن أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾[٣] بل دافع المولى عن المؤمنين المطوعين أيضا فقال عنهم ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾[٤] .
وليُعلم أن هذه الصفة ـ  البارزة في المنافقين ـ لو وجدت في غيرهم من المؤمنين لتحقق فيه ملاك القبح نفسه ، وخاصة أن الآية صريحة في التعميم حيث استعملت كلمة ﴿لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ وكم هو أمر قبيح أن تكون في المؤمن صفة من صفات المنافقين : كصفة ذِكر عيوب الغير ، وكصفة الكسل إذا قاموا للصلاة؟!

[٣] . سورة التوبة : الآية ٥٨ .
[٤] . سورة التوبة : الآية ٧٩ .

المال مادة الفساد

إن جمع المال من دون تصريفه بالإنفاق الراجح مذموم في حد نفسه ، فإنه ـ  وإن لم يكن حراما بالمعنى الفقهي ـ  إلا إنه قد يكون مقدمة لمفاسد اُخرى ، ويكفي أنه ذكر في عداد الهمز واللمز!  . . ومن المعلوم أن القلب إذا تلوّث بحب الدنيا ؛ نسي خالقه أو أنساه الخالق ذكره ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾[٥] وحينئذ صار من السهل أن يخوض في كل أنواع الباطل ، لمَا يرى في نفسه الاستعلاء على الغير ممّا يستسهل معه انتقاصه ، فإن «حب الدنيا رأس كل خطيئة»[٦] ، وقد روي عن الرضا (عليه السلام) : «لا يجتمع المال إلا بخمس خصال : بخل شديد ، وأمل طويل ، وحرص غالب ، وقطيعة رحم ، وإيثار الدنيا علی الآخرة»[٧] .

[٥] . سورة الحشر : الآية ١٩ .
[٦] . الكافي : ٢ج ص١٣٠ .
[٧] . الخصال : ج١ ص٢٨٢ .

المال قبل الذكر وبعده

إن المال المكتسب إذا كان بعد ذِكر الله تعالى فإن فيه كل الخير والبركة ، بل يندب القرآن الكريم لجمعه كقوله تعالى ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[٨] ولكنه إذا كان في قبال ذِكر الله تعالى ؛ فإنه عاد مذموما كما في قوله تعالى ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ مِّنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾[٩] .
وجمع المال المذموم في هذه السورة إنما هو في هذا السياق ، إذ لا يجمع المال ويعدّده إلا من عشق المال لنفسه ، لا بغية إنفاقه فيما خوّل الله تعالى عبده فيه .

[٨] . سورة الجمعة : الآية ١٠ .
[٩] . سورة الجمعة : الآية ١١ .

تحقير أهل الباطل

إن من موجبات الردع عن الباطل في القرآن الكريم هو تحقير أصحابه ، إذ ورد في هذه السورة ـ  إضافة إلى ذكر الويل الدال على التحقير والتقبيح ـ التعبير بـ  :
﴿لَيُنْبَذَنَّ﴾ في حقهم وهو قذف الشيء وكأنه أمر محقور يُراد التخلّص منه .
﴿الْحُطَمَةِ﴾ عن النار التي تحطم وتهشم ما يقذف فيها .
أضف إلى كل ذلك تحقير نفوسهم التي لا تدرك أبسط الحقائق ، حيث حسبوا أن المال من موجبات الخلود ، وهو أسخف ما يكون عليه الحسبان!

التعبير بالردع الشديد

إن التعبير بـ ﴿وَما أَدْراكَ﴾ يستعمل عادة في وصف القيامة وأهوالها كالحاقة[١٠] والقارعة[١١] ، والإتيان بها في هذه السورة مع وصف النار بالحطمة ﴿الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ﴾ لمن موجبات الردع الشديد عن هذا المنكر والذي قد يكون متعارفا عند كثير من الناس .
وعليه ، فإنه لا بُد من اجتناب كل أنواع الحرام الذي لا يُعلم ملكوته إلا عند الورود في ذلك العالم ، ﴿وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾[١٢] ولا تخفى المناسبة بين النار الحاطمة في الآخرة وبين أفعال أصحابها ؛ لأن كلماتهم أيضا حاطمة للنفوس في الدنيا .

[١٠] . ﴿وَ ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّة﴾ سورة الحاقة : الآية ٣ .
[١١] . ﴿وَ ما أَدْراكَ مَا الْقارِعَة﴾ سورة القارعة : الآية ٣ .
[١٢] . سورة الفجر : الآية ٢٣ .

من الكبائر القطعية

إن جعلنا تعريف الكبيرة هو : (ما أوعد الله تعالى عليها النار في كتابه) فإن هذا التعريف منطبق بأوضح صوره على معصية الهمز واللمز ، والمشكلة في مجمل المعاصي القولية ـ  كمثل هذه المعصية ـ أن أصحابها يستسهلونها ، لعدم تحقق شيء معيب بحسب زعمهم في الخارج ؛ خلافا للزنا والسرقة والقتل مثلا!
والحال أن المعاصي القولية منشأ لكثير من هذه المعاصي : كالقتل عند إثارة الغضب بهذه المعاصي القولية ، وكالزنا عند إثارة الشهوة بها أيضا .

احتراق القلب

إن العذاب المذكور في قوله تعالى ﴿الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ﴾ وإن فُسّر بإحراق الباطن إضافة إلى إحراق الجلود ، ولكن من الممكن القول : إن العذاب يصل إلى الباطن الحقيقي المتمثل بالنفوس الحية ، لا إلى باطن الأبدان فحسب ؛ فإن هذا الباطن هو المنشأ لكل الشرور ، فکان ينبغي توجّه العذاب إليه .
ومن هنا نرى انعكاس هذه الحالة الحارقة في بواطن العصاة وذلك في دار الدنيا أيضا ، إذ يحترقون بنار بواطنهم وهي الموجبة للضيق والتبرم كما يصفها القرآن الكريم بقوله ﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء﴾[١٣] وهذا ما يُفسِّر تماديهم في أنواع المتع والتلذذ ، للخلاص ممّا هم فيه من الضيق والضنك .

[١٣] . سورة الأنعام : الآية ١٢٥ .

سد طريق الفرار

إن آخر أمل للمحبوس في دار الدنيا هو الفرار من حبسه ، والقرآن الكريم يسدّ هذا الباب الموهوم على أهل النار في آيات مختلفة ، حيث يستفاد منها أن أبواب جهنم محكمة الغلق ومطبقة على أهلها ، فمنها قوله تعالى ﴿عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ﴾ ومنها ما في قوله تعالى ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ﴾[١٤] ومنها ما في هذه السورة ﴿إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ﴾ .
ومن المعلوم : أن إحساس مَن هو في العذاب بأنه لا يمكنه الفرار منه ، لمن موجبات الأذى الباطني إضافة إلى ما هو فيه من الأذى الخارجي ، ومن هنا أضيفت كلمة (الغمّ) ضمن العذاب المتوجّه في النار في قوله تعالى ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا﴾[١٥] .

[١٤] . سورة السجدة : الآية ٢٠ .
[١٥] . سورة الحج : الآية ٢٢ .

تناسب المال مع أعمدة النار

إن الأمر الملفت في هذه السورة هي المقابلة بين صاحب المال الذي يحسب أنه مخلّد به ﴿أَخْلَدَهُ﴾ وبين النبذ في ﴿الْحُطَمَةِ﴾ فكم هي خيبة الأمل عند من رأى ماله ـ  الذي كان يحسبه من موجبات الخلود ـ قد صار من موجبات القذف والنبذ في النار؟!
كما أنه من الملفت أيضا المقابلة بين المال الذي ﴿عَدَّدَهُ﴾ وبين عمد النار الـ﴿مُمَدَّدَةٍ﴾ إذ بعدد المال المُعّدد ، امتدت أعمدة النار في الجحيم .