- ThePlus Audio
سيطرة الأوهام
إن القرآن الكريم جعل فاعل الإلهاء هو التكاثر ، وكأن التكاثر صار بمثابة المتحكم في الوجود الإنساني ، فبدلا من أن يكون الإنسان هو السائق لنفسه في الجهة التي يريدها ، فإن الأمور الاعتبارية كتوهّم الجاه بالأولاد والأموال تصبح سائقة له!
وعليه ، فإن الحل الجامع لهذه المشکلة ، هو مجاهدة النفس لإخراجها من دائرة سيطرة الأوهام والعقد ، إلى حالة الزهد بما هو في الخارج ـ وهو المورث للعزة الباطنية ـ بدلا من تركه ، وقد روي أنه : «ما من رجل تكبّر أو تجبّر إلا لذلة وجدها في نفسه»[١] .
أنواع الطمع
إن طلب الكثرة ثم الفخر بما طلبه المتكاثِر ، يكون عادة في الأموال والأولاد ، ولكن النفس ـ التي لا تشبع ـ من الممكن أن يتعلق حب كثرتها في أمور اُخرى : كالعمر ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾[٢] والمسكن ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ﴾[٣] والأطعمة ﴿لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا ممّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا﴾[٤] .
وبعبارة جامعة : فإن الآية الأولى ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾ أبهمت متعلق التكاثر ، ليشمل كل صور الالتهاء بالدنيا ممّا ذكر وغيرها ، وإن كانت الآية الثانية ﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ تشير إلى خصوص التكاثر بالأولاد .
حقيقة اللهو
إن على المعتقد بيوم الجزاء ، تجنّب كل ما يلهيه عن التزوّد لذلك العالم الآخر ، فإن حقيقة المُلهي هو ما يشغلك عما هو أهم ، ولازمة هذا التعريف : إن الانشغال عن الأهم بالمهم يُعدّ أيضا في دائرة اللهو ، وإن لم يلتفت صاحبه إلى ذلك لعدم وضوح اللهوية فيها .
وكم ينطبق هذا التعريف على كثير من النشاط الدائب لأهل الدنيا في دنياهم ـ وإن لم يشعروا بذلك ـ ما دام ذلك السعي لا يرتبط بالأبدية والخلود! .
التفاخر الباطل
إن التكاثر المذموم في هذه السورة ، قد يكون ناظرا إلى :
نفس التكاثر في جانب الأولاد والأموال فتكون الكثرة بنفسها مذمومة ؛ لأنه من مصاديق الالتهاء بنفس المتاع ، طبعا خرج من ذلك مَن لم يلهه شيء عن ذِكر الله تعالى ، مصداقا لقوله تعالى ﴿رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ﴾[٥] .
التفاخر والتباهي بالكثرة المدعاة ولو لم تكن متحققة ؛ فيكون الذم لهذه الحالة النفسية التي يعيشها هذا الواهم ، فيلتهي بذلك أيضا عن آخرته ، فملاك الالتهاء فيهما واحد ، سواء تحقق شيء في الخارج أم لم يتحقق .
الملاك الموهوم
قيل[٦] في تفسير قوله تعالى ﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ أن مفهوم الخطاب الإلهي هو أن التكاثر ألهاكم في هذه الدنيا إلى ساعة الموت حيث زرتم فيها المقابر بمعنى زيارة مَن يُراد دفنه ، ولكن الأجلى من هذا التفسير : هو أن البعض شغله التكاثر والفخر بالرجال إلى درجة أخذ يذهب إلى المقابر ، ليضيف الأموات إلى عداد الأحياء ؛ تكثيرا للعدد عند تحدّي الغير!
فكم هو سخيف بني آدم عندما يجعل ملاك التفاضل في الموهوم ؛ إذ إن كمال الحي لا علاقة له بكمال حي آخر ، فكيف إذا كان صاحبُ الكمال ميتا؟! . . وكيف إذا لم يكن في البين كمال أصلا كتفاخر أهل الجاهلية ، كما قيل[٧] في شأن نزول هذه الآيات؟!
التهديد الاجمالي
إن ترك ذِكر المتعلق في قوله تعالى ﴿كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ وإبهامه ، يدل على عظمة ما سيعلمه المتكاثر من الجزاء يوم القيامة ، وفي هذا كمال التخويف لصاحبه ، وخاصة إن الله تعالى كرر الردع بـ ﴿كَلاَّ﴾ أكثر من مرة في هذه السورة المباركة!
وليُعلم أن الآية ذكرت جزاءً بنحو الإجمال ، فقالت ﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾ من دون تفصيل لأنواع العذاب ، كما في باقي السور الكريمة ، وهذا أبلغ في التهديد كما في قوله تعالى ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ﴾[٨] حيث لم يذكر ما يجري عند الوقوف على الله تعالى في هذه الآية .
الرادع الواقعي
إن الآية الكريمة جعلت الموجب للردع عن الالتهاء بالتكاثر ، هو ذلك العلم اليقيني الذي لا يخالطه ريب ، وقيل في تعريفه : «إنه الاعتقاد الجازم المطابق الثابت الذي لا يمكن زواله ، وهو في الحقيقة مؤلف من علمين : العلم بالمعلوم ، والعلم بأن خلاف ذلك العلم محال»[٩] .
وعليه ، فإن ما عدا هذا العلم لا يكفي لأن يكون رادعا كعبادة الجاهلين ، فإن من لا علم له لا خشية له ، ومن هنا ارتفعت درجة العلماء على العُبّاد والزهاد .
اليقين يكسر التفاخر
إن العلم ـ وخاصة إذا وصل إلى مرحلة عالية من اليقين ـ يكون حجة على صاحبه ، فإنه من أهم البواعث على التخلص من مكدرات الباطن ، لذا فقد عدّه المولى ـ في ختام السورة ـ أداة لكسر حالة التكاثر والتفاخر المذكورين في صدر هذه السورة ، فإذا لم يُحقق هذا العلم مثل هذه النتيجة ، صار موجبا للحسرة والندامة غدا ، ومن هنا جاء وصف يوم القيامة بـ ﴿ يَوْمَ الْحَسْرَةِ﴾[١٠] .
وليُعلم أن العامل في الدنيا وغير العامل فيها ـ عند الحسرة على حد سواء ـ ومثاله في ذلك كمثل مَن كان مع ذي القرنين لما دخل الظلمات فوجد خرزا ، فالذين كانوا معه أخذوا من تلك الخرز ، وعندما خرجوا من الظلمات وجدوها جواهر ، فالذين أخذوا منها كانوا في غمٍّ إذ قصروا في الأخذ منها ، والذين لم يأخذوا كانوا أيضا في غم إذ لم يأخذوا منه أصلا! . . فهكذا تكون أحوال أهل القيامة عند النظر إلى ما فاتهم من الخير أيام الحياة الدنيا .
الرؤية القلبية
إن الرؤية في قوله تعالى ﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾ من الممكن أن نقول عنها بأنها رؤية القلب الذي من الممكن أن يرى حقائق هذا الوجود :
إجمالا كما يقع لعامة المؤمنين الذين يصفهم أمير المؤمنين (عليه السلام) عند وصف يقينهم بالله تعالى قائلا : «لا تراه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان»[١١] .
وتفصيلا كما وقع لإبراهيم الخليل (عليه السلام) حيث يقول الله تعالى عنه ﴿وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والْأَرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِين﴾[١٢] .
ويؤيد هذا التفسير : إن الله تعالى عطف على هذه الرؤية ﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾ تلك الرؤية الاُخرى في القيامة قائلا ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾ وهي رؤية الحسّ بعدما كانت رؤية الباطن .
درجات اليقين
إن لليقين درجات مترددة بين : علم اليقين ، وعين اليقين ، وحق اليقين ، ومثلوا لذلك : برؤية الدخان ، ثم رؤية النار ، ثم ملامستها . . فاليقين حاصل في الحالات الثلاث ولكن بتفاوت واضح في البين ، وهذه الدرجات المتفاوتة لليقين منطبقة على اليقين بالآخرة : ففرق بين اليقين به في الدنيا ﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ﴾ واليقين بها في الاُخرى ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾ .
فالمطلوب من أهل اليقين أن يصعّدوا من درجة يقينهم إلى ما يقرب من عين اليقين ، وهو ما وقع للمتقين على ما وصفهم أمير المؤمنين (عليه السلام) قائلا : «فهم والجنّة كمن قد رآها ؛ فهم فيها منعّمون ، وهم والنار كمن قد رآها ؛ فهم فيها معذّبون»[١٣] .
النعيم العام والخاص
إن الخطاب بـ ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ وإن كان في سياق ذِكر أهل التكاثر ، إلا أنه عام يشمل جميع من أنعم الله تعالى به على العباد وإن خصّه البعض بالنعم المعنوية ؛ لأن الله تعالى أجلّ من أن يسأل عما أعطاه مثلا من الطعام والشراب ، فإن هذا ينافي ما عليه كرماء أهل الدنيا ، ويؤيد ذلك ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال : «الله أكرم وأجلّ من أن يطعمكم طعاما فيسوغكموه ، ثم يسألكم عنه ، ولكن يسألكم عما أنعم عليكم بمحمد وآل محمد ‘»[١٤] .
الشكر العملي على النِّعم
إن البعض ينظر إلى ما أُعطي من المتاع فيراها نعمة محضة ، من دون أن يلتفت إلى أن نعمتية النعمة إنما تتم إذا صُرفت في طاعة الله تعالى ، وإلا تحوّلت إلى نقمة على صاحبها ، لأنها من موجبات المعاتبة أو المعاقبة بعد السؤال عنها يوم القيامة ، حيث يقول تعالى ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ .
ومن المعلوم أن الطريق الأمثل لشكر هذه الأنعم ، هو ما بيّنته الشريعة من خلال تشريعاتها المتعلقة بـ (الأبدان) كالصوم و(الأموال) كالزكاة أو (الأرواح) كالصلاة المعراجية أو (الحقوق) كصلة الأرحام مثلاً . . و عليه فإن عدم الالتفات إلى ما في الشريعة من أحكام قد يُوقع العبد في عكس ما ذُكر ، ومن هنا كان الشاكرون لأنعم الله تعالى ، هم الأقلون عددا ﴿قَلِيلًا ما تَشْكُرُون﴾[١٥]!
إظهار النعم دون تفاخر
إن البعض قد يتوهم وجود حالة من التنافي بين هذه الآيات الناهية عن التفاخر بالمال والولد وغيرهما ، وبين الآية الدالة على التحدث بالنعم كقوله تعالى ﴿وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾[١٦] .
والجواب عن ذلك : إن التحدث بالنعم ـ سواء بإظهارها خارجا أو الحديث عنها ـ يكون بهدف راجح : إما بإظهار الشكر عملا ، أو لتشجيع الغير على التأسي به فيما أنعم الله تعالى عليه ، وهذا يجانب تماما الفخر والتباهي الذي يعود إلى إتّباع الهوى ، لا طاعة الهدى .