- الآيات ٦ إلى ٨
- من سورة البينة
- تلاوة الآيات ٦ إلى ٨
سبب تقديم الإنذار
إن الله تعالى في هذه السورة ، قدّم الوعيد على الوعد ، فذكر جزاء ﴿شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ ثم أردفها بجزاء ﴿خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ ولعل السر في ذلك : أن مصب الآيات في أول السورة ، ما كان عليه أهل الكتاب والمشركين من الباطل ، فكان الأنسب في مقام بيان الجزاء ذِكر ما هو متعلق بصدر السورة . . أضف إلى أن منزلة الوعيد بالنسبة إلى الوعد ، كمنزلة الدواء إلى الغذاء : فلا بُد من الردع ممّا يضر أولا ، ثم الحث على ما ينفع ثانيا .
أفضل المخلوقات وأرذلها
إن العبد إذا جمع ـ من خلال مدرسة الأنبياء ـ بين الإيمان والعمل الصالح ، صار ممّن يقال في حقه بصدق : إنه خير مَن خلق الله تعالى على أرضه ، بناء على أن وصف البرية شامل لكل مخلوق بما في ذلك الملائكة ، لأنها من ضمن من برأه الله تعالى ، والمستفاد من النصوص أن بعض الخلق خير من الملائكة ، وقد يكشف عن ذلك أمر الله تعالى بالسجود لآدم (عليه السلام) ولم يُبعث بعدُ بالرسالة ، وذلك لما كان فيه من قابلية التكامل والصعود إلى مرحلة تفوْق الملائكة!
ومن الممكن أن نجعل الآية التي تشير إلى خير البرية وشرها ، تنويها على قوسي الصعود والنزول في الخلق ، نظير ما ورد في سورة التين ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِين﴾[١] .
عندية الجزاء
لا يخفى ما في التعبير بـ (عند) من لطف في قوله تعالى ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ وذلك لأن ﴿خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ هم الذين حصروا طمعهم فيمَن عنده مثل هذا الجزاء ، ولا يعنيهم ما عند غيرهم من الجزاء الفاني! . . كما يمكن تفسيرها بمعنى : أن جزاءهم بمثابة الوديعة عند أمين ، يُرجعها لهم في وقت يكون صاحبُها في أشد الحاجة إليها!
وهذا الإحساس بـ (عندية) الجزاء عند الله تعالى ، يبعث حالة من الارتياح عند المؤمن ، فلا يستعجل في الدنيا ثمار عمله ـ ولو كانت مزية معنوية ـ لعلمه بأن ما هو المدّخر له عند ربه ؛ يغنيه عن كل مزية عاجلة .
تمام النعمة بالخلود
إن من أهم مقوّمات الجنة هي صفاتها المتمثلة بـ ﴿عَدْنٍ﴾ أي الاستقرار والإقامة ﴿خالِدِينَ﴾ و﴿أَبَداً﴾ والدالة بجميعها على الخلود فيها ، وهناك آيات اُخر تؤكد على هذه الحقيقة ، وهي ﴿لا يُخْرَجُونَ مِنْها﴾ و﴿وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ﴾[٢] و﴿لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا﴾[٣] بل قيل : إن الخلود خير من الجنة ، وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : «إن الخلود في الجنة خير من الجنة! . . ورضا الله خير من الجنة»[٤] ؛ لأنه لولا هذا الخلود لما تهنّأ متهنئ بها ، إذ إن ألم العلم بانتهاء أمد النعمة ، لا يجبره عظيم لذتها!
جنّة الروح
كما أن الإنسان مخلوق من جسد وروح ولكل منهما حظه في الدنيا ، فإن لهما أيضا حظا في الآخرة ، فحظ الجسد فيها هو الجنة الموصوفة في هذه السورة وغيرها بأنواع النعيم الحسي من الحور والقصور ، وأما حظ الروح فيها فهي رضا الرب المتعال ﴿رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ والمتمثل بجنة القرب الإلهي .
والملفت هنا : إن الله تعالى لم يذكر صفة الربوبية عند ذكر رضاه عمّن وصفهم بـ ﴿خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ بل ذَكر لفظ الجلالة والذي يُعدّ من أعظم الأسماء دلالةً على الهيبة والجلالة ، فهو الاسم الدال على الذات والصفات بأسرها ؛ أي صفات الجلال والإكرام بينما ذكر مقام الربوبية عند ذكر الجزاء ﴿جَزَاؤهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾.
السبيل إلى الرضوان
إن غاية الكمال تتمثل في الوصول إلى مرحلة يرضى فيها العبد عن ربه ، ويُرضى العبد فيها ربه عنه ؛ وهي مرحلة (النفس المطمئنة) التي أشير إليها في قوله تعالى ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾[٥] وقد ذكرت آية ﴿لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ أن الطريق إلى ذلك الرضا المتبادل بين العبد وربه ، هي خشية الرب وهو الخوف المقترن بالتعظيم ، كما قال تعالى عن الملائكة ﴿وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾[٦] وقد ورد التعبير نفسه بالنسبة إلى العباد المؤمنين ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ﴾[٧] وهذه الخشية مترشحة من العلم ، لقوله تعالى ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾[٨] إذ إن الإحساس بعظمته ومراقبته ، هي الرادعة عن كل قبيح ، وباعثة لكل خير .
وليُعلم : إن هذه الحالة من الرضوان هي خير نعيم في الجنة بل رحيقها ، وهو جزاء مستقل في قبال الجنات ، حيث ذُكر مقام الرضا قبال نعيم الجنة في قوله تعالى ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ﴾ ومن المعلوم أن مَن كان واجدا لهذه الصفة في الدنيا ، كان متنعما في الدنيا بأغلى نعيم في الجنة ولو بدرجة من درجاته!
الربط بمقام الربوبية
عندما يسند القران الكريم الخشية إلى العلماء في قوله تعالى ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾[٩] فانه يستعمل لفظ الجلالة المشير إلى مقام الذات بكل أبعاد الجمالية والكمالية ، وهو المناسب لمقام العلم الذي به تدرك الأوصاف والمقامات الربوبية ، ولكن عندما يسند الخشية إلى عامة المؤمنين ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾ كما في هذه السورة ، فانه يشير إلى صفة الرب وذلك في قوله تعالى ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ إذ أن للربوبية القاهرة والمدبرة دورا في إيصال هؤلاء إلى ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾ وبذلك فكانت خشيتهم مرتبطة بمقام ربوبيته .