- الآيات ٩ إلى ١٩
- من سورة العلق
- تلاوة الآيات ٩ إلى ١٩
أقبح الجريمة
إن الآيات الثلاث التي تبتدئ بـ ﴿أَرَأَيْتَ﴾ تُبدي التعجّب من فعل الناهي لمن صلى ، ومَن كان على الهدى وأمر بالتقوى ؛ وذلك لبيان شدة قبح هذا العمل بما يثير استغراب الرب المتعال ، وما يلزمه بعد ذلك من العذاب الأليم!
والملفت في الأمر : أن الله تعالى يذكر قاعدة لردع أمثال هؤلاء ؛ ألا وهي استذكار حقيقة أن كل ذلك بعين الله تعالى في الحياة الدنيا ؛ فإن ظاهر الخطاب متوجه للمشركين الذين ما أنكروا وجود خالقهم ، فأرادت الآية أن تجعل لازمة هذا الاعتقاد هو الخوف من مراقبته ، وهو يغني عن التهديد بالنار يوم الجزاء ، فبذلك توجّه خطاب المراقبة حتى إلى هؤلاء ، كما توجّه خطاب التزكية إلى فرعون حيث قال تعالى ﴿لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾[١] .
الحلم والكرم الإلهي
جرت عادة القرآن الكريم على التلميح بانفتاح أبواب التوبة في أسوأ حالات المخالفة ـ بعثا للأمل في النفوس المستغرقة في المعاصي والتي أسرفت على نفسها ـ ومنه ما في سورة البروج حين يقول تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾[٢] فجعل تنجّز العذاب منوطا بعدم التوبة ، حتى في مورد هذه الجريمة الكبرى .
ومنه ما في هذه السورة حيث لمّح بالتوبة أيضا ، رغم أن السياق هو سياق التهديد لصاحب الناصية الكاذبة الخاطئة ، المستمر في نهيّه عن الصلاة حيث عُبّر عنه بالفعل المضارع ﴿أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى﴾ فقال تعالى عنه ﴿كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ﴾ ففتح له بابا إلى الانتهاء ، فكم هو حِلم أكرم الأكرمين ، حيث يخلل التوبة والصفح في موارد التهديد أيضا!
معاداة أهل الصلاة
إن التوبيخ والتهديد وإن كان متوجّها لخصوص مَن نهى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الصلاة ، بقرينة ما في ختام السورة من الأمر له (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدم الطاعة لعدوه والسجود والاقتراب لمولاه ، إلا أنه يُفهم منه ملاكا ، أن معاداة المؤمن لإيمانه ـ وخصوصا من أجل إتيانه بصلاته ـ لمن موجبات الغضب الإلهي ؛ إذ إن فيه تحدّيا لأشرف مخلوقاته في أشرف طاعاته ، وهذا التحدّي بدوره يعود إلى الله تعالى ، وهو أشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة!
العداوة قبل البعثة وبعدها
إن هذه السورة ـ بناء على أنها بجميعها أول ما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)ـ تدلّ على عظمة النبي قبل البعثة أيضا ، من جهة وصفه بأنه كان على الهدى ، وأنه أمر بالتقوى ، وأنه كان يصلي وإن لم نعلم جزئيات صلاته ، وإلا لا وجه للعتاب والتهديد في هذه الآيات إن كانت المذكورات ستقع مستقبلا! .
ومن المعلوم هنا : أن عناد القوم وأذاهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل البعثة وبعدها ، لم يكن متوجّها إلى عنوانه الشخصي بل لعنوانه الرسالي ، ومن هنا عبّرت الآية عنه ﴿عَبْداً إِذا صَلَّى﴾ بدلا من ذِكر اسمه الصريح ، وهذا أيضا وسام آخر من أوسمة الرب لحبيبه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث وصفه بالعبد في حال كونه نكرة ، والدال بطبعه على عظمة هذا الأمر!
التقوى شرط الهداية
قرن الله تعالى بين الأمر بالتقوى والكون على الهدى في قوله ﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى﴾ ومن المعلوم أن الذي يحق له الأمر بالتقوى من كان متلبسا به ، فكيف يكسو العاري غيرَه لباس التقوى؟!
وينبغي الالتفات إلى أن الآية جعلت متعلق أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هي نتيجة العبادات وهي التقوى ﴿بِالتَّقْوى﴾ لا نفس العبادة ، فالمطلوب الغائي من الصوم ـ مثلا ـ ليس نفس عملية الكف عن الطعام والشراب ؛ بل حالة التقوى الحاصلة من ذلك ، ومن هنا ذُكرت الغاية من الصيام بقوله تعالى ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[٣] وهذا هو المطلوب من الدعاة إلى الله تعالى في أن يحققوا النتيجة ، لا إسقاط التكليف بذكر المقدمات فحسب .
إذلال الكافرين
إن الله تعالى يتعمّد إذلال الطغاة يوم القيامة ، فهم يُحشرون يوم القيامة على مثل الذر ، تطؤهم الأقدام إلى أن يفرغ الله تعالى من حساب الخلق ، وفي هذه السورة نقل لصورة اُخرى من صور الإذلال ، ألا وهو الأخذ بالنواصي وهو شعر مقدّم الرأس بجذب شديد ﴿لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ﴾ فيُجعل المجرم في قبضة من يسوقه في كمال الذلة ، وهذا يستلزم طأطأة رأسه والذي به قوام الاعتزاز والشموخ عادة .
وليُعلم أن هذه النواصي متصفة بـ ﴿كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ فخصّت الآية الكذب قبل ذِكر عموم الخطيئة ؛ لأن الكذب منشأ لكثير من الشرور وهو من أقبح الخطايا! . . وعليه ، فإن المؤمن المستضعف عندما ينظر في الدنيا إلى نواصي الطغاة في دار الدنيا ـ وهي التي تحمل ما تحمل من الرتب الزائفة ـ فإنه يتذكّر ما سيؤول إليه أمرهم عما قريب ، وهذا الإحساس بدوره يهبه شيئا من العزة باطنا ، والصبر خارجا .
ضمان نجاح المبلغين
إن الوعيد والتهديد من مستلزمات نجاح الدعوة مقترنا طبعا بالوعد والتبشير ، وقد وردت صيغ من التهديد في هذه السورة بالنسبة للطغاة المترفين كقوله تعالى ﴿أَرَأَيْتَ﴾ و﴿لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ﴾ و﴿سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ﴾ .
وليُعلم أن هذه الصيغة من التعامل لازمة لإزالة الموانع في طريق الدعوة إلى الله تعالى ، فالذي لا يملك الحسم والعزم في الدعوة إلى الله تعالى ، لا يكون على منهاج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قامت دعوته على التولّي والتبرّي والمفهومة من :
شهادة الإسلام بشقّيها من (النفي والإثبات) في قول : لا إله إلا الله .
ما يُفهم من (النهي والأمر) في قوله تعالى ﴿كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ .
المؤامرات المتواصلة
إن الكفار طوال العصور كانوا حريصين على جمعهم واجتماعهم ـ سرا كان أو علنا ـ لمواجهة المؤمنين الذين كان أملهم بالله تعالى ، إذ لم يعلّقوا مواجهتهم للكفار على تشكل ناد لهم يجتمعون فيه كاجتماع الكافرين ، ولكن القرآن الكريم يستهزئ بمثل هذه المجالس التي تلاشت في الآخرة قائلا ﴿فَلْيَدْعُ نادِيَهُ﴾ ووجه الاستهزاء :
أنّى لهم بمثل هذا الاجتماع في نار جهنم وهم في قبضة المنتقم الجبار .
أنّى لهم بمواجهة جمع الزبانية وهي الملائكة الموكلة بالنار ، إذ لا وجه يومئذ للمقارنة بين نادي الكفر والإيمان .
وعليه ، فإن على المؤمن تذكّر مثل هذه العاقبة ـ وهو في الحياة الدنيا ـ ليعطيه عزما وثباتا في مواجهة خطط أهل الباطل ، والتي لا تخلو من حنكة ومكر ، كما هو الملاحظ في هذه الأيام .
نوادي الكفار
إن نوادي وأحزاب الكفار ـ على تعدّدها وتنوّعها طوال العصور ـ إنما هي من لون واحد ، فالنادي الذي كان يجمع أبا لهب وأبا جهل كدار الندوة بمكة المكرمة ، هو بجوهره يمثل رؤساء الكفر والضلالة في كل العصور . . وعليه ، فإن القانون الذي سرى على تلك النوادي من الاندثار والمحق ، سيجري على هذه النوادي أيضا ، فهو الذي يُهلك ملوكا ويستخلف آخرين!
وكذلك فإن آية ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾[٤] تشير إلى هذه الحقيقة أيضا ، فهي دالة على خسران جبهة الباطل في كل العصور أيا كان صاحبها ، وهو ما عبر عنه الله تعالى أيضا من الهلاك والتباب عن فرعون أيضا قائلا ﴿وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ﴾[٥] فاجتمع التعبير بـ ﴿تَبَّتْ﴾ و﴿تَبَابٍ﴾ لعَلمين من أعلام الكفار طوال التاريخ .
السجود سبيل القرب
قيل : إن المراد بالسجود في ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ كناية عن الصلاة لمقابلة نهي الناهي عن الصلاة ، وذلك تحدّيا له وعدم اكتراث بنهيه ﴿كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ ولكن من الممكن أن يكون السجود هنا مرادا بنفسه ـ بناء على مطلوبية السجود وإن كان خارج الصلاة ـ سواء بمعنى السجود العام ، أو السجود عند تلاوة هذه السورة المشتملة على السجدة الواجبة .
والروايات مستفيضة حول أهمية السجود ، وأن العبد أقرب ما يكون إلى ربه وهو ساجد ، وقد عطفت الآية الكريمة الاقتراب من المولى ﴿وَاقْتَرِبْ﴾ على السجود ﴿وَاسْجُدْ﴾ لأنه من أهم المواضع التي يتقرب فيه العبد إلى ربه .
سرّ نجاح الدعوة
إن الالتجاء إلى الله تعالى هو سمة جميع الأنبياء حين دعوتهم الناس إلى الله تعالى ؛ وذلك لكثرة المشاق في هذا السبيل ، وفي هذه السورة أيضا جاء الأمر بأن تكون القراءة ـ وهي سمة من سمات الدعوة إليه ـ متحققة باسم الرب الخالق المعلّم بالقلم .
فعليه لا بُد أن (تبدأ) الدعوة من خلال التوجّه إليه تعالى ، کما في هذه السورة ، وفي سورة الشرح جاء الأمر بأن (تنتهي) الدعوة أيضا بالتوجّه إليه تعالى قائلا ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ فالرغبة إليه تعالى وإتعاب النفس في عبادته ، أمر لازم في شروع الدعوة وحينها وبعدها ، وهذا هو سرّ نجاح دعوة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن تبعه من آله الكرام إلى يومنا هذا .
مزايا أول سورة
إن من مميزات هذه السورة كأول ما نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنها تؤكد على حقيقة :
اعتقادية : تتمثل في التأكيد على ربوبية الله تعالى للكون بعد خالقيته ، مع الالتفات إلى لوازمه من الطاعة والانقياد .
علمية : تتمثل بدعوة الإنسان إلى العلم والتعلّم ، سواء ما كان منه بالقلم ، أو بتعليم الله تعالى مباشرة كالعلوم اللدنية .
أخلاقية : تتمثل باستشعار محضرية الله تعالى في الوجود ، وأنه يرى كل ما يصدر من العبد خيرا كان أو شرا .
عملية : تتمثل بالأمر بالصلاة أو بخصوص السجود ، كأهم فرع من فروع الدين .