- الآيات ١ إلى ٥
- من سورة العلق
- تلاوة الآيات ١ إلى ٥
قلب بمثابة العرش
إن هناك فرقا بين الأمر بالقراءة والأمر بالحديث ، فيلازم الأول وجود ما يُقرأ منه ؛ أي أن لكل قارئ مقروءًا ، فيُفهم من الأمر بـ ﴿اقْرَأْ﴾ أن هناك ما يقرأ منه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ألا وهو القرآن الكريم ، كما في قوله تعالى ﴿وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاس﴾[١] وكأنّ قلبه بمثابة العرش الذي منه يتنزّل الوحي ، وهذا التعبير مشعر بأنه لم يفت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شيء من القرآن الكريم ؛ فيا له من قلب عظيم تحمل الكتاب الإلهي دفعة واحدة في ليلة واحدة! . .
شرط نجاح الدعوة
من المعلوم أن كل عمل لا يرتبط بالله تعالى فهو أبتر ، ومن هنا أُمرنا بالتسمية قبل كل عمل ذي بال ، وقد قيل ـ بناء على أبترية ما لم يُسمّ عليه ـ أن الأمر بـ ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ هي القراءة مفتتحة بالتسمية ، ولكن تشتد ضرورة ربط الأمور بالله تعالى بالنسبة إلى كل عمل دعوي ، فإن الله تعالى لا يرضى أن ينتشر هداه إلا من خلال من يرتضيه وبما يرضيه ، لئلا تكون منّة لأحد من خلقه على دينه .
ومن هنا أمر الله تعالى نبيه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقرأ باسم ربه ، ذلك الرب الذي تكرر ذِكره في أكثر من مورد في هذه الآيات ، أضف إلى أن الله تعالى أمر نبيه بالاستمداد منه بالسجود والاقتراب منه في مواجهة من ينهى عن عبادته ، فالنجاح في بدء الدعوة واستمرارها منوط بالارتباط بالمطلق .
الإيمان بالربوبية يوجب العبودية
إن القرآن الكريم كثيرا ما يربط بين الخالقية والربوبية ، كما في هذه الآية ﴿رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ وكأن فيه إشعارا بأن من موجبات الطاعة وإدانة العبد بالطاعة لربه هو الاعتقاد بخالقيته ، فإن حق خالقيته يقتضي ذلك أولا ثم شكر هذا الحق ثانيا .
ومن موجبات الاعتماد على مبدأ الاعتقاد بالخالقية لترسيخ مبدأ الانصياع للربوبية : إن إدراك الخالقية لا يحتاج إلى كثير جهد ، فهو اعتقاد ناشئ من التأمّل في مظاهر الوجود ؛ ولكن تحقيق الربوبية مستلزم لأمر زائد من التبعية والطاعة .
ومن الملفت هنا أن الله تعالى ذكر الخلق أولا من دون متعلق قائلا ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ ثم ذكر خصوص خلقة الإنسان قائلا ﴿خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ ممّا يُفهم منه خصوصية خلق الجنس البشري بين مخلوقات هذا الكون الفسيح ، فانه أرقى ما خلق الله تعالى في هذا الوجود ، حيث عبر عنه ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾[٢] .
أضعف المراحل
إن القرآن الكريم يذكر بدء خلقة الإنسان من العلقة وهو الدم المتجمّد للتذكير بحقارة مادة الخلقة الأولى ، والتي يُعبّر عنها في آية اُخرى بالماء المهين ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ﴾[٣] وكان بالإمكان ذِكر المراحل المتوسطة أو الأخيرة من خلقة الجنين ، إلا أن الآية اختارت أضعف المراحل وأحقرها ، حيث الدم الذي لا يظهر فيه أي معْلم من معالم البدن ، وفي هذا إشارة إلى كمال القدرة الإلهية في عالم (الأبدان) حيث خلق الإنسان ﴿فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾[٤] من هذا البدء الذي لا يناسب الختام .
وهذه القدرة الخلاقة أعملها الله تعالى أيضا في عالم (الأرواح) فـ﴿عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ﴾ والواسطة في ذلك أيضا أمر بسيط ألا وهو القلم الذي تغطي مادته الأرض وهو الشجر ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ فمن مادة الدم والخشب وجد البشر والعلم ، وتبعا لهما ظهرت كل هذه الحضارات على وجه الأرض .
الإضافة التعظيمية
إن تكرر ذِكر الرب في هذه السورة مسنداً إلى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه نوع تعظيم لنبيه في قوله ﴿وَرَبُّكَ﴾ كما أنه ذُكر مسندا إلى ربه أيضا كقوله تعالى في موضع آخر ﴿أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾[٥] وقيل إن إسناد نبيه إليه تعالى أكثر شرافة من إسناده إلى نبيه ؛ لأنه في معنى قولك : (أنت لي) وهو أشرف من قولك (أنا لك)!
ومن الجدير بالتأمل : أن ذِكر الرب بقول مطلق في الأول ﴿رَبِّكَ﴾ يتبعه ذِكر الخلق وهو التجلي التكويني لله تعالى ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ لكن ذِكر الرب بقيد الأكرمية في الثاني ﴿وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ يتبعه ذِكر التعليم وهو التجلي التشريعي له ، فهو ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ .
الأكرمية الملفتة
إن الحديث عندما يكون عن (الخَلق) فإن الله تعالى يصف نفسه بالكرم ، فيقول تعالى ﴿مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ﴾[٦] ولكن عندما يكون الحديث عن (العلم والتعليم) فإنه يصف نفسه بالأكرمية فيقول تعالى ﴿اقْرَأْ ورَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ فكأنّ الخلق كله في كفة ، وتعليم الإنسان لما لم يعلم في كفة اُخرى مع تغليب الثانية على الأولى ، ولا غرابة في ذلك لأنه بهذا العلم ينفتح الطريق لمعرفة ما في الكفة الاُخرى من الخلق ، بل لمعرفة خالقه أيضا .
ولا يخفى ما في استعمال صفة الكرم من بين الصفات الإلهية في المقامين ؛ لأن الفيض في كليهما لطف محض من دون مقابل ، فلا يدخل في باب الأجور بل في باب التفضّل والإحسان .
الإسلام دين القلم
إن بعض المغرضين يتهمّ الإسلام بأنه دين (السيف) ، والحال بأنه دين (القلم) كما نفهم من الآيات الأولى النازلة من القرآن الكريم ، فهو جاء ليفتح القلوب بشعار ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾[٧] وهذا هو سر انتشار الإسلام في الآفاق!
وقد بلغ تقديس القرآن الكريم للعلم أنه أقَسَم بأداة الكتابة وهي (القلم) وما يسطر به وهو (الكتاب) كما جاء في سورة القلم جامعا بينهما حيث يقول تعالى ﴿ن * وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾[٨] ولم يقيّد المسطور بعلم من العلوم ؛ تكريما لكل ما يُجريه الإنسان من قلمه من العلم ، ولو لنفع دنيوي .
التأسي بالصفات الإلهية
طالما نسب الله تعالى التعليم إلى نفسه فقال ﴿عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ و﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾[٩] و﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾[١٠] و﴿وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ﴾[١١] و﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ﴾[١٢] و﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾[١٣] .
وعليه ، فمن اختار طريق تعليم الخلق علما نافعا لهم ، فإنه لم يختر طريق الأنبياء العظام فحسب ؛ وإنما اختار طريق الله تعالى وتخلّق بأخلاقه ، فحقّ له أن يمدّه بنوع من المدد الذي يمدّ به أنبياءه (عليهم السلام) جميعا! . . ومنه أيضا يُعلم البون الشاسع بين عمل العلماء الذين اتصفوا بهذه الصفة الإلهية ، وبين العبّاد الذين أهمّتهم أنفسهم .
العلم الاكتسابي والإلهامي
لقد تكرر ذِكر التعليم في هذه السورة مطلقا تارة ﴿عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ﴾ ومقيّدا بالقلم تارة اُخرى ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ ولعل في ذلك إشارة إلى قسمي العلم : فمنه (اكتسابي) من خلال الأسباب الطبيعية من القلم والكتاب وصدور الرجال ، ومنه (إلهامي) من خلال تخصيص خواص العباد بذلك ، كما اتفق للخضر (عليه السلام) حيث قال تعالى عنه ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾[١٤] ولقمان حيث يقول تعالى ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾[١٥] .
الخالقية والربوبية
لم تكن مشكلة المشركين في (خالقية) الله تعالى للكون لقوله تعالى ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾[١٦] ولكن المشكلة في عدم خضوعهم لـ(ربوبية) الله تعالى ، وذلك بخضوعهم لغيره من عبادة الأصنام والآلهة البشرية .
وعليه ، فإن المعترف بربوبيته من المسلمين مع طاعته لغيره ـ في مقام العمل ـ ملحق ملاكا بهذا الصنف ، وإن لم يكن كذلك حقيقة ، ومن هنا أمرنا المولى تعالى في سورة الفاتحة أن نثني عليه بالربوبية أولا ، ثم الاعتراف بالطاعة والعبادة له ثانيا ، وفي هذه السورة أيضا تذكر الربوبية أولا ﴿رَبِّكَ﴾ ثم الخالقية ﴿خَلَقَ﴾ كوصف له تعالى .