- الآيات ١ إلى ٥
- من سورة التين
- تلاوة الآيات ١ إلى ٥
تنويع القسم
إن القرآن الكريم ينوّع طريقة القَسَم تنويعا ملفتا ، فينتقل من القَسَم بفاكهتين ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ﴾ إلى بلدين مقدّسين ﴿وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ﴾ ولا عجب في ذلك! . . إذ إن كل شيء منتسب إلى الله تعالى بنحو من الانتساب ـ فاكهة كانت أو بقعة مباركة ـ فهو مقدس يمكن القَسَم عليه ، إذ إن شرافة العالي تسري إلى الداني إذا عُدّ شأنا من شؤونه ، ولا غرابة في ذلك وهما مترشحان من عالم الأمر والخلق! .
الوجه في شرف المكان
إن طور سيناء لم يكن موطنا لموسى (عليه السلام) ، بل محلا لمناجاته بخلاف باقي المدن المقدسة المذكورة في السورة ؛ ممّا يدل على أن تشرّف العبد ـ ولو في فترة قصيرة كأربعين ليلة ـ بذِكر مولاه ، يوجب قدسية ذلك المكان الذي ناجى ربه فيه بما يستحق أن يُقسم عليه .
مكة هي البلد الأمين
إن إطلاق الأمان على مكة المكرّمة ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ﴾ يشير إلى قدسية هذا المكان الشريف ، سواء فسّرنا الأمانة هنا :
بالمعنى الفاعلي أي الحافظ لما دخل في دائرة حمايته ، فكأن هذا المكان يجعل من دخله في حرزه الحريز ـ وهذا ثابت بحسب التشريع وإن خالفه البشر ـ فهو بلد يأمن فيه ما يمكن صيده من الحيوان ، کما يأمن فيه الحاج والمعتمر من البشر حتى لو كان مجرما .
أو بالمعنى المفعولي كقوله تعالى ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً﴾[١] أي أن الله تعالى قرر ذلک الأمان للبلد ، فمَن أخلّ بأمنه يكون قد تحدّى الله تعالى فيما شرّع وقرر ، ومن هنا رأينا العقاب الأليم المتوجه لأصحاب الفيل الذين حاولوا تدنيس هذه القدسية .
النعم الدنيوية والمعنوية
ينبغي الالتفات إلى تنوع النعم الإلهية في حياة العباد ، وهذا بدوره يستلزم تنوع الشكر القولي والفعلي بإزاء كل نعمة من تلك النعم ، فالبعض متنعم بمزايا عالم الأرض ، فينسى بركات عالم السماء كنعمة الإسلام والإيمان ، والبعض يستشعر النعم المعنوية تاركا شكر نعمة الطعام والشراب مثلا ، والحال أن عين المؤمن متوجهة إلى كل ما يصدر من مولاه : مادة كانت أو معنى .
ومن هنا فإن السورة جمعت بين ذِكر النعم المادية المرتبطة (بالمأكول) كالفاكهتين وبين (المعقول) كالإيمان ، كما جمعت بين ما يوجب سلامة (الأبدان) من الفاكهة النافعة للبدن من التين والزيتون ، اللذين قيل في حقهما الكثير من الخواص المذهلة ، وبين ما يوجب سلامة (الأوطان) من تحقق الأمان ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ﴾ .
المواطن الأربعة للأنبياء
إن الآيات الأولى من هذه السورة فُسّرت على أنها مواطن الأنبياء (عليهم السلام) فأشارت إلى :
بلاد الشام المشتهرة بالتين ؛ وهي مكان هجرة إبراهيم (عليه السلام) .
فلسطين المشتهرة بالزيتون ؛ وهي مكان ولادة عيسى (عليه السلام) ومنشؤه .
طور سينين ؛ وهو الموضع الذي نودي منه موسى (عليه السلام) .
البلد الأمين ؛ وهو بلد نبينا الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وهذه بمجموعها تدل على أن البقاع تكتسب شرافةً ممّن هو عليها ، فلا يفتخر من عليها بما هو عليه من الأرض ، لوضوح أن شرف المكان بالمكين ولا العكس!
استجابة دعاء ابراهيم (عليه السلام)
إن الأمان التشريعي المجعول للبلد الأمين ، إنما هو استجابة لدعوة إبراهيم الخليل (عليه السلام) الذي طلب من الله تعالى الأمان له قائلا ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾[٢] فكانت الاستجابة ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا﴾[٣] ، فكم هو أمر عظيم أن يحقق الله تعالى أمانا لبلد من البلدان إلى يوم القيامة ؛ استجابة لدعوة عبد من عباده المكرمين!
الاستعداد الفطري والبدني
إن الله تعالى خلق الإنسان في أفضل قابلية للكمال المادي والروحي قائلا ﴿فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ فإن :
الجسم الإنساني بما له من الطاقات والقابليات ، يمكنه القيام بعجائب الأمور ، وهو ما نراه حاليا من التقدم العلمي في كل المجالات .
الروح الإنسانية بما أراها الله تعالى من طريق الخير والشر ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾[٤] هي أيضا لها القابلية في العروج إلى أعلى درجات الكمال .
فكم من الظلم بعدها أن لا يحقق الإنسان هذا الكمال مع وجود تمام القابلية فيه ، ليقال في حقه أخيرا ﴿إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا﴾[٥]!
تقصير العباد
إن الله تعالى ينسب الخلقة في ﴿أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ إلى نفسه كما ينسب الرد إلى أسفل سافلين إلى نفسه أيضا ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ بفارق أن :
الأول : فعلُه المحض فهو كان مع العبد حين خُلق ولم يكن ﴿شَيْئًا مَّذْكُورًا﴾[٦] .
الثاني : فعلُه المترتب على فعل العبد ، وهذا من باب الخذلان والعقوبة ، كأي قانون من قوانين عالم التكوين ، فإن الله تعالى هو المحرق ولكن عندما يشعل النارَ صاحبُها .
الحركة بين القوسين
كم هو الفرق الشاسع بين قوس (الصعود) الذي يشير إليه قوله تعالى ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ وقوله ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾[٧] وما روي من أنه «لولاك ؛ لما خلقت الأفلاك»[٨] وبين قوس (النزول) الذي يشير إليه قوله تعالى ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ وقوله ﴿إِنَّ الْمُنافِقينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّار﴾[٩]! . . والملفت أن التنقل بين قوسي الصعود والنزول يتم في هذه الحياة الدنيا ، فهي على قصرها تحدد ذلك كله!