- الآيات ٦ إلى ١١
- من سورة الضحى
- تلاوة الآيات ٦ إلى ١١
حكمة ابتلاء الأولياء
إننا من خلال مراجعة مجمل سير الأنبياء (عليهم السلام) نرى أنهم ابتلوا جميعا بالمحن والبلايا في مختلف مراحل حياتهم ، بل كلفهم الله تعالى بما لا يتناسب مع عمل الأنبياء ـ بعنوانه الأولي ـ ليعيشوا معاناة الغير بما يوجب الشفقة عليهم ، وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «ما بعث الله نبيا قطّ ، حتى يسترعيه الغنم ؛ ليعلمه بذلك رعية الناس»[١] إضافة إلى ما يوجبه البلاء من شدة الانقطاع إلى الله تعالى ، ومن هنا صار البلاء للأمثل فالأمثل ، وصار البلاء للولاء ، وصار متناسبا طردا مع مستوى الإيمان ككفتي ميزان . . وفي كل ما ذكر أيضا تسلية لقلوب أهل البلاء وجبرٌ لها ، إذ لو لم يكن البلاء لطفا ، لما وجهه الله تعالى إلى أنبيائه العظام (عليهم السلام) .
البلاء سُلّم الكمال
إن ما يمر على الإنسان من الضعف المالي كالفقر ، أو النفسي كاليتم قد يصيب البعض ببعض الابتلاءات الباطنية من : احتقار الذات ، والإحساس بالتبرم ، وعدم الرضا بما جرى عليه ، ولكن يكون للبعض مدعاة لتحسس آلام من وقع فيها بعد اجتياز تلك المحنة ، وهذا هو الذي أراده الله تعالى لأنبيائه العظام (عليهم السلام) فقيل عن يوسف (عليه السلام) أنه لم يكن ليشبع لئلا ينسى الجياع ، ومن المعلوم أن فقر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتمه يدخل في هذا السياق .
وعليه ، فلا معنى للجزع عندما يمر على المؤمن فترة من فترات البلاء ، فلعل ذلك أدب أراده الله تعالى له كما أراده لأنبيائه (عليهم السلام) .
بركات يتم النبي
قيل في يتم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجوه من البركات ، وإن كانت ممّا لا يقاس بجنب بركاته الاُخرى ، والمتمثلة بالاصطفاء الإلهي وما يلازمها من البركات ، فمنها :
معرفته الوجدانية بحال اليتامى ، فيكون أقدر على معايشة ما هم فيه .
إنه أوجب الانقطاع إلى ربه منذ صباه ، فعُوِّض عن حنان الأبوين بحنان رب العالمين ، والذي يترشّح منه كل حنان في الوجود .
إن اليتم لا يُعدّ مانعا لأية درجة من درجات الرقي ، لا بحسب الخلق ولا بحسب الخالق .
إن الله تعالى أراد أن لا يكون لأحد يد عليه ـ حتى في صغر سنه ـ إلا بالمقدار الذي يلزمه المعاش .
اللطف سبب النجاة
إن لرب العالمين عناية خاصة في بيان لطفه بعباده وإظهارها لهم ، والقول بأنه لولا هذا اللطف ما زكى أحد من الخلق كقوله تعالى ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ﴾[٢] وفي هذا السياق يأتي ذكر عنايته بحبيبه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك بقوله ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ أي كنت فاقدا لنعمة الهداية لولا هذه العناية الربانية ، وبعبارة اُخرى كنت ضالا مع قطع النظر عن هذه الهداية الملازمة منذ الصبا ، فهو في حكم قوله تعالى ﴿ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ﴾[٣] وكذا في قوله تعالى ﴿وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ﴾[٤] . . ومن هذا الباب أيضا قول موسى × ﴿فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ﴾[٥] فالضلالة هنا إشارة لفقدان الهداية ، من جهة المصلحة في قتل ذلك القبطي .
عالم الأسباب
إن الله تعالى هو الذي أغنى نبيه من خلال أم المؤمنين خديجة (سلام الله عليها) ، وهو الذي آواه بعد أن فقد أباه وهو في بطن أمه من خلال جده عبد المطلب أولا ، وآواه بعد أن فقد أمه وهو في السادسة من عمره من خلال عمه أبي طالب ثانيا ، لوضوح أن العالَم عالم السببية والتسبيب ، وإن كان الله تعالى هو الفاعل المطلق لما يشاء ، فلا يتوقع عبد بعدها أن يُرزق من دون كد ، أو اعتماد على الغير .
وعليه ، فلا معنى للدعاء بالاستغناء عن الخلق ، بل المطلوب هو الاستغناء عن شرارهم! . . وهكذا الأمر في كل موارد سد الحوائج ، وإلا فما الذي كان يمنع أن يظهر الله تعالى لنبيه ‘ كنوز الأرض الخفية بدلا من مال خديجة (سلام الله عليها)؟
التأسي بأخلاق النبي
إن من لوازم التأسّي بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو عدم رد السائل مطلقا ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ﴾ سواء طلب مالا أو علما ، وسواء كان صادقا أو كاذبا ، فقد دلت الرواية على رد السائل : إما برد جميل أو ببذل يسير ، ودلت الآية على عدم قهر اليتيم ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ﴾ والتعبير بالقهر يشعر بنوع من التحقير مع الغلبة ، وكأنّ صاحبه تسلط على غيره قاهرا له ؛ وعليه فإن صلة اليتيم لا تنحصر بإكرامه مادة فحسب وإنما رعاية نفسه وروحه ، إذ إن ما فيه من الكسر الباطني لا يُجبر بالمال .
ومن الملفت أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عاش حالة الفاقة واليتم معا ، ومن هنا كان شكر الإغناء والإيواء بالنسبة له ، هو العمل على إغناء الغير وإيوائه ممن هو في حالته .
الإكرام قبل السؤال
إن إجابة السائل قد تكون بعد السؤال ، ولكن إكرام اليتيم قد لا يكون بعد سؤال بمقتضى صغر سنه وقصور بيانه ؛ ومن هنا كان أبلغ تأثيراً! . . فروايات إكرام اليتيم مذهلة في المقام ، كقرن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أصبعيه بيانا لموقعه منه في الجنة[٦] .
وليعلم هنا أن الإكرام الأتم ما لم يكن بعد سؤال ، وإلا فما يريقه السائل من ماء وجهه أكثر من ما يعطيه المسؤول ؛ فكيف إذا كان العطاء معه مَنّ وأذى؟! . . ومن المعلوم أن ما قام به عبد المطلب وأبو طالب (عليهما السلام) ممّا يوجب مثل هذا الأجر العظيم ـ أعنى تكفل أعظم الخلق من دون سؤال ـ وخاصة مع ما سببته هذه الكفالة من الأذى البليغ ، وهو ما وقع لعمه أبي طالب .
ونقول في هذا السياق : إن الله تعالى أولى من غيره للعمل بما ورد في هذه السورة ، فهو الذي وجد عبده عائلا ويتيما وضالا ، فكان وجدانه هذا كافيا للإغناء والإيواء والهداية ولو من دون سؤال .
إظهار النعم قولا وفعلا
إن التحدّث بالنعم الإلهية يكون تارة عن طريق البيان :
بالكلام : وذلك بإظهار النعم تحبيبا للناس بالمنعم ، فقد ورد أن الله تعالى قال لموسى (عليه السلام) : «حبّبني إلى خلقي ، وحبّب خلقي إليّ ، قال : يا رب! . . كيف أفعل؟ . . قال : ذكّرهم آلائي ونعمائي ؛ ليحبّوني»[٧] لأن تذكير العباد بذلك يجبر إحساسهم بما سلبهم الله تعالى من النعم لمصالح هو يعرفها ، أضف إلى تشجيعهم على ذكر النعم ؛ فإن نسيانها قد يوجب حالة من السخط عند مكروه القضاء ، فيقترب العبد من دائرة الكفر ، أضف إلى ما في ذلك من سنّ سنة الاقتداء بعمل الصالحين ، فقد روي عن الحسين (عليه السلام) أنه قال : «إذا عملت خيرا ؛ فحدث إخوانك ليقتدوا بك»[٨] .
بالعمل فقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : «إن اللهَ إذا أنعم على عبدٍ ؛ أحب أن يرى أثر نعمتَه عليه»[٩] فإن من يظهر النعمة على نفسه كأنه يقول بلسان الحال : انظروا إلى ما انعم الله تعالى به على عبده ـ من دون عُجْب طبعا ـ وهذا بدوره تشجيع على العبودية المثمرة لهذه النعمة الظاهرة .
وقد يكون المراد هنا شيء آخر يختلف عن المعنى السابق تماما ، ألا وهو التحدث مطلقا بما يقرب العباد إلى الله تعالى ، وذلك استعانة بالنعم الإلهية في تحقيق ذلك ، ومنها شرح الصدر وحُسن البيان .