- الآيات ١٧ إلى ٢٠
- من سورة البلد
- تلاوة الآيات ١٧ إلى ٢٠
المجاهدة الظاهرية والباطنية
إن الإنفاق ـ وخاصة في أيام الشدة ـ مظهر من مظاهر اقتحام العقبة وهو يتعلّق بجوارح العبد في عالم الأفعال ، وهناك مظهر آخر لاقتحامها يتعلّق بجوانحه ـ أي بنفسه ـ يتمثل في قوله تعالى ﴿ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾ وهذه المرتبة الباطنية أرقى من المرتبة الخارجية ؛ لأن أفعال الجوارح تصدر عن حركات الجوانح ، ولعله من هنا عطف عليه بأداة (ثم) للدلالة هنا على التراخي في الرتبة ، لا في الزمان .
وعليه ، فإنه لا بُد من البناء الباطني بموازاة العمل الخارجي من :
الإيمان ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إذ مع عدم وجود البنية الاعتقادية الصحيحة لا مجال للتكامل أبدا .
امتلاك حالة باطنية من الحرص على تكامل العباد ﴿وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ تتمثل بالتواصي بالصبر سواء في مجال : البلاء ، أو الطاعة ، أو الصبر عن الحرام .
الشفقة على الخلق تتمثل بالتواصي بالمرحمة فيما بينهم ﴿وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾ ليجمع بذلك أداء حق الخالق والمخلوق كما في سورة العصر ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ ومن مصاديق الحق هو التواصي بالمرحمة .
عطف التواصي على الصالحات
جرت عادة القرآن الكريم على ذكر العمل الصالح معطوفا على الإيمان ، ولكن في هذه السورة عدل إلى ذكر التواصي بالصبر وبالمرحمة ولا غرابة في ذلك ، إذ إنه بمجموعهما يتحقق العمل الصالح ـ ندبا كان أو فرضا ـ بالإضافة إلى وجود مزيتين إضافيتين في التعبير بالتواصي بالصبر والمرحمة ، ألا وهما :
أن بهذا التواصي يتحقق شيوع العمل الصالح في المجتمع .
أن هذا التواصي يحقق الأساس الثابت للعمل الصالح : فمَن تحلّى بالصبر ، وتحسس حالة المرحمة تجاه العباد ؛ كان ذلك مدعاة للعمل الصالح .
الموعظة الجماعية
إن التكامل في المجتمع الإيماني لا يتم بعمل طائفة منهم بوظيفته من توصية الآخرين فحسب ، لينقسم الناس بعدها إلى واعظ وسامع للموعظة ، وإنما المطلوب هي هذه الحالة من تبادل الوصية ﴿وَتَوَاصَوْا﴾ بمعنى أن يكون كل واحد منهم واعظا ومتعظا في وقت واحد ، وذلك لاعتراء الغفلة والسهو جميع البشر إلا مَن عصمه الله تعالى .
ومن المعلوم أنه بهذا التواصي تتحول الأفعال إلى حالات ، ثم إلى عادات ، ثم إلى ملكات ؛ وهي قمة المراد .
التودد إلى العباد
إن الله تعالى من خلال كتابه الكريم يُعلّم العباد أسلوب الدعوة إليه ، فهو رغم أنه مالك كل شيء ومليكه ، وله الحق أن يطلب من عباده التعبّد بأوامره ونواهيه ، إلا أنه يتوّدد إليهم بصنوف الحديث ، وفي هذه السورة صور من أساليب التأثير على العباد فيذكر لهم :
المصاديق بدلا من الدعوة العامة المبهمة ، فذَكَر العتق والإنفاق في يوم مجاعة ، وعلى خصوص الأيتام من ذوي القربي ، وعلى المساكين مدقعي الفقر .
ما يثير شكرهم الموجب للتعلق بخالقهم ، وذلك من خلال خلقة العين ، واللسان ، والشفتين .
ما يوجب التفات غير المؤمنين إليهم ، وذلك عندما عمّم الدعوة إلى الخير بما يشمل غير المسلمين كالعتق لهم ، والإنفاق عليهم .
ما لا يوجب استعلاء طبقة خاصة على أنهم الوعاظ وأن غيرهم دونهم بدرجة ، فكان الأمر بالتواصي بالصبر .
ما فيه صلاح معاشهم في الدنيا أيضا ، لئلا تنحصر همّتهم في الآخرة فحسب ، فكان الأمر بالتواصي بالمرحمة!
علامات اليُمن والشؤم
إن عامة الناس يرون اليُمن والشؤم في أمور باطلة كطيران الغراب وما شابه ذلك ، والآيات الأخيرة من هذه السورة المباركة تريد أن تثبت ذلك بما يتعلق بخواتيم الأمور في الدار الآخرة : فإن ﴿أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ هم مَن اجتازوا الصراط بسلام ، و﴿أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ﴾ مَن كانوا على خلاف ذلك وكلاهما يتحددان في دار الدنيا على قِصَرها .
ومن المعلوم أن اللؤم والشؤم متلازمان ، كما أن الكرم واليُمن كذلك ، وهو ما يُفهم من هذا الحوار الذي جرى مع سلمان المحمدي عندما قِيل له : مَن أنت ، وما قيمتك! . . فقال : «أمّا أولي وأولُك فنطفة قذرة ، وأمّا آخري وآخرك فجيفة منتنة ، فإذا كان يوم القيامة ، ونصبت الموازين : فمن ثقلت موازينه فهو الكريم ، ومن خفت موازينه فهو اللئيم»[١] .
مواصفات نار الآخرة
إن آية العذاب في هذه السورة لم تفصّل في أنواعه ، ولكن يكفي للردع عنها أنها استعملت النار بصيغة النكرة للدلالة على تعظيمها! . . أضف إلى ذكر ما يزيد في عذابها عذابا ؛ ألا وهو أن هذه النار مطبقة عليهم من جهة العلو أيضا ، إذ صار التعبير بـ ﴿عَلَيْهِمْ﴾ فكان في حكم قوله تعالى ﴿أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها﴾[٢] .
وعليه ، فإن إحساس المُعذَّب بالنار بأنه لا مجال للفرار منها يزيده عذابا وإيلاما ، أضف إليها تحقق ذلك الخلود الذي طالما ذُكر جزاء للكافرين المكذبين بآيات الله تعالى .